أخلاقيات التجارة في الإسلام
بيسر وسهولة، سيكتشف المتتبع
لأخلاق العمل التجاري عند المسلمين؛ ملامح عملهم وضوابطه
والتزاماته، ليس لأن الأخلاق والأدب مما يحملها التاجر المسلم
فحسب، إنما لكون هذه الضوابط والإلزامات متلازمة مع شخصيته التي
تبلورت من خلال عقيدته، خصوصا وأن هذا التاجر أو ذاك، يعتبر نفسه
مسؤولا عن منظومة السوق والتجارة التي عمل فيها، وذلك من باب وصية
رسول الإنسانية محمد صلوات الله عليه وآله: "كلكم راع، وكلكهم
مسؤولا عن رعيته"، وبالتالي فهو فرد ضمن مجموع من يرسم ملامح
الاقتصاد الإسلامي، وهو ما يجعله أمام مسؤولية تبليغية كبرى؛ ترسم
للأخر ـ غير المسلم ـ شخصية الفرد المسلم، خصوصا أمام الاختبار
المادي ومنه التجارة بطيعة الحال؛ وهو ما يجعل منه أكثر ضبطا وأشد
محاسبة لنفسه، وهذا ما يثبت لنا أن وصول الإسلام لبقاع الأرض
النائية ما كان يكون الا بجهود تجّاره المخلصين الصادقين، خصوصا
في أوربا واسبانيا وايطاليا منه، فضلا عن شرق أسيا كإندونيسيا
وباكستان وبنغلادش والهند وماليزيا وسنغافورة، بعد أن أعتبر هؤلاء
التجار أنفسهم مبلغين لدينهم السمح، بل وصار في داخل كل واحد منه
شخصية مشابهة لنبيهم الأكرم صلوات الله عليه وآله، ـ خصوصا وأن
النبي الأكرم صلوات الله عليه وآله كان قد عمل في التجارة، بل
وسمي فيها؛ الصادق الأمين، إمعانا من الناس في توصيف حالته كتاجر
ـ، وبالتالي فإن هؤلاء التجار ليسوا مجرد تجّارا إنما دعاةً
ومُبلّغين قبل أن يكونوا بائعين وشارين، بل أنهم تجاراً للآخرة
قبل أن يكونوا تجاراً للدنيا.
ووفقا لجملة الضوابط والمحددات
الإسلامية التي يحتكم إليها التاجر المسلم، صار عمله هذا فرصة
مناسبة لإظهار الوجه المشرق لتعامل المسلمين فيما بينهم؛ بل ومع
أخوتهم غير المسلمين؛ ليثبوا من خلال ذلك بأن مائزهم عن غيرهم
يكمن في كونهم تجار آخرة، وأن تجارتهم هذه مع الله جل شأنه لن
تبور أبدا؛ في الوقت الذي يفكر غير المسلم بتجارة الدنيا
الزائلة.
ويعتبر تدخل الإسلام ـ كتشريع ـ
في تفاصيل العمل التجاري، ووضعه لضوابط كلية (أخلاقية وإنسانية)
وأخرى خاصة (حسب طبيعة العمل التجاري)، إنما هو ضبطا منه لحالة
إنسانية مهمة تجعل الجميع في بوتقة الإنسانية من خلال منعه مثلا
لجشع البعض على حساب الأخرين، وضبطه للتراتب المجتمعي (الطبقي)
بشكل معقول لا افراط فيه ولا تفريط، سواء كان ذلك بجهد المجتهد أو
بتكاسل الكسول، والأهم من كل ذلك، يحافظ الإسلام على إنسانية
الجميع بخلقه حالة توازن وانضباط بين الناس؛ حيال ما يحتاجونه
ويرغبون إليه ويكدون سعيا في الحصول عليه، وهذا بحق ذاته مطلب
أخلاقي جوهري يُلزم الإسلام كتشريع في العمل عليه خصوصا وأنه
الدين الأشمل والأكثر إحاطة بحاجيات الناس وظروفهم، وبالتالي فأن
تدخل الإسلام في عمل التاجر وضبط حركته وتخطيط ساحة تحركاته؛ إنما
هو تقنين للحياة وتخليقا للسعادة التي تبنى على التوازن وتبادل
المنافع وليس على أكتاف الضعفاء والمقهورين
منهم.
ووفقا لذلك، يجد المتتبع لملامح
الاقتصاد الإسلامي تشريعات إسلامية لكل مفاصل التجارة، بل وأنه قد
أفرد في سبيلها أبوابا وأبوابا، كضمانة منه في ضبط تزاحم مصالح
الناس وتشابكها، مع رؤيته المستقبلية لحياة أكثر تعقدا، فكانت هذه
التقنينات والتشريعات مواكبة لكل زمان ومكان، فتراه يلاحظ ويعالج
حتى العوامل النفسية في العملية التجارية؛ فضلا عن الحالة
العملياتية فيها، فراح يُفّصل ويسهب في ضوابط البيع والشراء، ومن
قبل ذلك؛ الإنتاج والاستهلاك، ثم يعمد لضبط حالات الغبن والنسيئة
والنقد، ثم الصلح والمضاربة، فضلا عن الإجارة والشراكة والحوالة
والكفالة والوكالة وغير ذلك كثرا مما هو سائد في السوق اليوم،
والأهم من كل ذلك، أن معالجاته لهذه المفاهيم؛ أتسمت بضبط وإحاطة
أكبر مما هو عليه في التقنين الوضعي، بما في ذلك المتقدم والمتحضر
منها.
ومن أخلاق التجار التي تعارف
عليها التجار المسلمون هي:
ـمراعاة الحلية في التعامل:
على الرغم من كون هذه الصفة عامة
وشاملة للمسلمين الملتزمين، إلا أنها أكثر التصاقا بالتجار منهم،
لأنهم أكثر من غيرهم تورعا وتقية أمام الحلال والحرام،
لكثرة هكذا ابتلاء في العمل التجاري، فترى التاجر المسلم أكثر
نأيا بنفسه عن السُحْت والربا، وأكثرهم تورعا في تعامله مع
المتسوقين، ناهيك عن بعده عن النجش والمكايلة الباطلة والتطفيف في
الميزان، فضلا عن تورعه عن كسب الشبهة او المحاياة (عن الحياء)،
بعد أن صار قول النبي الأكرم صلوات الله عليه وآله: "لا يدخل
الجنَّة مَنْ نَبت لحمُه من السُّحْت، النَّار أولى به"؛ مادة
تحركه وطريقة تكسبه، بل أن تمّنعه عن ذلك ليس إلا طمعا منه في نيل
الجائزة الآخروية، كمصداق منهم لقوله نبيهم الأكرم صلوات الله
عليه وآله: "لا يقدر رجل على حرام، ثم يَدَعُه، ليس به إلاَّ
مخافة الله، إلاَّ أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو
خير له من ذلك".
ـحتمية الرزق:
يؤمن التاجر المسلم بأن رزقه مما
حتّمه الله له، وأن مسعاه لا يخرج عن دائرة حكومة الله الرزاق
الكريم جل شأنه، وبالتالي فأن سلوك الطرق الملتوية والأساليب
المنحرفة والوسائل غير المشروعة في تحصيل الرزق، لا تأتي به أبدا،
ولا تزيد من تحصيله وربحه، خصوصا وأن اللطف الإلهي قد رزق الجميع
بما يستحقونه، فعن نبي الإنسانية محمد صلوات الله عليه وآله أنه
قال: "..... لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتَّقوا الله وأجملوا
في الطلب، ولا يحمل أحدكم استبطاء شيءٍ من الرزق أن يطلبه بغير
حلّه، فإنَّه لا يُدرك ما عند الله إلاَّ بطاعته".
ـتوخي الأمانة:
الأمانة مادة التاجر المسلم ورأس
ماله، فبها يتسم ومن خلالها يُعرف، وبخلافها فأنه ليس من
المسلمين، مهما كانت علاقته بالإسلام، فالتاجر الأمين يقترض المال
ويُسلَّف البضاعة، يبيع ويشتري ما شاء، دون حذر أو وجل، بالاعتماد
على رأس مال الأمانة، كيف لا وهي حصنه المنيع وذخيرته التي لا
تضيع ورصيده الذي لا يتزعزع، وهذا ما يُفسر لنا تعاملات التاجر
المسلم مع اقرانه، فتراه يشتري ويبيع بمجرد كلمةٍ أو إشارة، في
وقت لا يقدر فيه الأخرون على ضبط جماح نفوسهم الطماعة ولو كانوا
أما الضمانات الكبرى والأيمان المغلظة، وقد ورد عن أمير المؤمنين
علي عليه الصلاة والسلام في هذا السبيل قوله: "الأمانة تجرُّ
الرزق، والخيانة تجرُّ الفقر".
ومما يُلازم الأمانة؛ الصدق
فالتاجر المسلم صادق صدوق مصدق، سواء في أقواله أو توصيفاته لما
يبيعه مع المشتري، وهو بذلك جندي الأمانة وشهيدها، فعن رسولنا
الأكرم صلوات الله عليه وآله أنه قال: "التاجر الأمين الصّدوق
المسلم، مع الشهداء يوم القيامة"، وما الصدق هذا إلا احتراما منه
لأدمية الأخرين وتوقيرا لدمائهم، كيف لا وأن أموالهم محرمة عليه
كدمائهم كمصداق للحديث النبوي الشريف على قائله وآله أفضل الصلاة
وأتم التسليم: "حرمة مالِ المسلم كحرمة دمه".
وذو صلة بالأمانة، يتسم التاجر
المسلم بكونه غير غشاش، على اعتبار أن الغش حرام وإن ما يتحصل منه
لهو السحت بعينه، فعن النبي الأكرم صلوات الله عليه وآله: "مَنْ
غشَّ أخاه المسلم، نزع الله عنه بركة رزقه، وأفسد عليه معيشته،
ووكله إلى نفسه" وقوله: "من غشَّ مسلماً في شراء أو بيع، فليس
منَّا، ويُحشر يوم القيامة مع اليهود، لأنَّهم أغشّ الخلق
للمسلمين"، بل واعتبر عليه وآله الصلاة والسلام الغشاش أشّر
الناس، فعنه صلوات الله عليه وآله: "شرُّ النَّاس مَن يغشُّ
النَّاس".
العلوية فاطمة الجابري