
| مقالات في القرآن الكريم | أزمة التأويل الحداثي للنص القرآني
2025-11-06 233

أزمة التأويل الحداثي للنص القرآني
الشيخ معتصم السيد أحمد
في التاريخ الفكري الحديث، لم
تُمسّ القداسة الدينية كما مُسّت حين قرر بعض المفكرين أن يعيدوا
تعريف "النص" نفسه. لم يعد النص عندهم كلاماً يحمل رسالة من وراء
اللغة، بل صار كائناً لغوياً يتنفس بمعزل عن قائله، ويتبدّل مع
قارئه. وهنا بدأ التحوّل الكبير الذي سيُعرف لاحقاً في الفلسفة
الغربية باسم "الهرمنيوطيقا"، أي علم التأويل. وما لبث هذا العلم أن
تجاوز حدود فهم النصوص إلى مساءلة الحقيقة نفسها: من أين تأتي؟ ومن
يملك حقّ تحديدها؟
عندما تسللت هذه الموجة الفكرية
إلى العالم الإسلامي عبر مشاريع الحداثة، اتخذت طابعاً جديداً؛ فقد
صارت وسيلة لإعادة قراءة القرآن لا بعيون المؤمنين به، بل بعيون
الذين أرادوا أن يحرروا النص من قداسته. فبدلاً من أن يكون القرآن
كتابَ هدايةٍ يُوجّه الإنسان نحو الحق، صار في منطقهم "نصاً
مفتوحاً" تتعدد دلالاته بتعدد القرّاء. وهكذا تحوّل المعنى من كونه
مقصوداً إلهياً إلى كونه صناعة بشرية، لا تثبت على حال، لأن اللغة
نفسها لا تثبت.
لقد وجدت هذه الرؤية جذورها عند
فلاسفة مثل هانس غادامير الذي رأى أن القارئ لا يمكنه أن يفهم النص
إلا ضمن أفقه التاريخي والثقافي، وأن المعنى يولد من "تفاعل
الأفقين": أفق النص وأفق القارئ. غير أن المدرسة التفكيكية التي
تلتها، بزعامة جاك دريدا، دفعت الفكرة إلى أقصى حدودها حين أعلنت أن
النص لا يملك مركزاً ولا معنى نهائياً، وأن كل قراءةٍ تفتح قراءاتٍ
أخرى بلا نهاية. فالقرآن، وفق هذا التصور، لا يحمل رسالة واحدة بل
رسائل بعدد القرّاء، ولا يوجد فهم "صحيح" لأن كل فهمٍ هو بناءٌ
ثقافي نسبي.
هذه الفكرة حين طُبقت على الوحي
أحدثت انقلاباً خطيراً في طبيعة العلاقة بين الإنسان والقرآن. إذ لم
يعد الإنسان متلقياً للخطاب الإلهي، بل صار هو الذي يصنع معناه وفق
حاجاته ورغباته. فكل قارئ يُسقط تجربته على النص، فيتحول القرآن إلى
مرآةٍ له لا مرجعٍ عليه. وتُلغى بذلك فكرة "البيان" التي وصف الله
بها كتابه: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ
لِلْمُتَّقِينَ﴾. فالبيان يفترض وضوحاً وثباتاً، بينما هذا المنهج
لا يرى في النص إلا غموضاً دائماً قابلاً لإعادة التشكيل.
لقد أدّى هذا الاتجاه في الفكر
العربي الحديث إلى نتيجتين خطيرتين. الأولى هي نزع القداسة عن النصّ
القرآني بحجة أنه نتاجٌ لغويٌّ خاضع لقوانين التاريخ والثقافة.
والثانية هي إلغاء المرجعية الدينية للشريعة عبر تحويل الأحكام إلى
رموز اجتماعية يمكن إعادة تأويلها في كل زمن. ومن هنا ظهرت القراءات
التي تصف آيات التشريع بأنها "استجابات ظرفية"، والقصص القرآني بأنه
"تمثيل رمزي"، والمعاد بأنه "بعثٌ روحي لا جسدي". وهكذا أُفرغ النص
من معناه الواقعي، وصار اللفظ حاملاً لإيحاءٍ أدبيٍّ أكثر منه أمراً
إلهياً موجّهاً.
لكنّ هذا المسار يحمل في داخله
تناقضاً قاتلاً. فإذا كان النص لا يحمل معنى ثابتاً، فكيف فهم هؤلاء
أنفسهم أن القرآن يقول ما يقول؟ وإذا كانت كل قراءة صحيحة، فهل يصح
أن نفهم من القرآن نقيض معناه؟ إنّ مقولة "انفتاح النص على قراءات
لا نهائية" تهدم نفسها بنفسها، لأنها تجعل حتى هذا القول ذاته غير
ذي معنى محدد. فكلّ عبارةٍ، بما فيها عباراتهم، تغدو قابلةً للنقض
والتأويل إلى ما لا نهاية. وهكذا يذوب كل معنى في ضبابٍ من
الاحتمالات التي لا تستقرّ على أرض.
إنّ المشكلة في التأويل الحداثي
ليست في محاولة الفهم، بل في إلغاء نية المتكلم. فالنصّ القرآني ليس
مجهول المؤلف، بل هو كلام الله الذي قال عن نفسه: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ
فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ﴾. والفصل هنا يعني القطع والوضوح
والحسم. فحين يُفهم القرآن على أنه لعبة لغوية مفتوحة، يُسلب من
الله صفة المبيِّن، ويُختزل الوحي إلى نصٍ أدبي يُقرأ مثل الشعر.
وهذا هو المعنى العميق للعلمنة اللغوية للنص المقدّس، إذ يُفصل فيه
بين الكلمة ومصدرها الإلهي.
وليس غريباً أن تنتهي هذه الفلسفة
إلى نتائج سياسية وأيديولوجية؛ فحين يفقد النص سلطانه يصبح قابلاً
للتطويع. فكل تيار يمكن أن يجد في القرآن ما يبرر موقفه، ما دام
المعنى متروكاً للقارئ. فمرةً يُقرأ القرآن بلسان الديمقراطية
الغربية، ومرةً بلسان الماركسية، وثالثةً بلسان الليبرالية. وكلّ
قراءةٍ تدّعي الأصالة لأنها "تأويل ممكن". وهكذا يتحوّل النص من
مصدرٍ للحق إلى ساحةٍ لصراع المصالح.
في مقابل ذلك، يقدّم الإسلام
منهجاً تأويلياً متماسكاً، يوازن بين ظاهر النصّ وباطنه، وبين اللغة
والعقل، وبين القراءة الفردية والمرجعية المعصومة. فمدرسة أهل البيت
عليهم السلام لم ترفض التأويل، لكنها قيّدته بالضوابط التي تضمن
بقاء النصّ مصدراً للهداية لا ميداناً للتجريب. فقد ورد عن الإمام
الصادق عليه السلام قوله: "ما من أمرٍ يختلف فيه اثنان إلا وله أصلٌ
في كتاب الله، ولكن لا تبلغه عقول الرجال". فالمشكلة ليست في النص،
بل في ضيق الفهم البشري، ولهذا كان دور الوحي والبيان النبويّ هو
توسيع أفق الفهم لا تفكيك النصّ ذاته.
إنّ التأويل المشروع عندهم لا يلغى
الظاهر بل يكشف عن عمقٍ جديدٍ فيه، فهو توسيع للمعنى في إطار ثباته،
لا انقلاب عليه. أما التأويل الحداثي فهو تفكيكٌ للمعنى حتى لا يبقى
منه شيء. والفرق بين المنهجين هو الفرق بين الإبحار في نهرٍ له مجرى
معلوم، والغرق في بحرٍ بلا شاطئ. فالأول يقود إلى المعرفة، والثاني
إلى العدم.
إنّ اللغة في منطق القرآن ليست
فوضى من الرموز، بل وعاءٌ للحقيقة. فالقرآن جاء بلغةٍ واضحةٍ يفهمها
الناس: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ﴾. والغاية من هذا البيان هي تمكين الإنسان من الفهم
والهداية، لا استدراجه إلى متاهة الدلالات اللامتناهية. ولهذا قال
تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن
مُّدَّكِرٍ﴾. فاليسر في الفهم سمة من سمات الخطاب الإلهي، لا
التعقيد المتكلف الذي جعل من النص لغزاً مغلقاً.
ومع ذلك، لا ينكر الإسلام التعدد
في الفهم، لكنه يميّز بين تعدد المنظور وتعدد المعنى. فاختلاف
الأنظار في فهم النص الواحد ممكن ومشروع، ما دام المنطلق مشتركاً
والضوابط محفوظة، أما القول بتعدد المعاني إلى درجة التناقض فهو نفي
للوحي نفسه. فالله لا يقول الشيء ونقيضه، ولا يبعث كتاباً ليُفهم
بعدد قارئيه.
لقد جاء القرآن ليكون ميزاناً، لا
مرآةً؛ يزن به الإنسان فكره، لا يعكس عليه أهواءه. ومن هنا فإنّ
التأويل الحداثي للنصّ القرآني ليس تجديداً، بل هو استبدال للمرجعية
الإلهية بمرجعية الإنسان. إنه مشروع لإحلال الذات محلّ الوحي،
ولإعادة تعريف الدين من الداخل. غير أن هذه المحاولة، مهما تلونت
بأسماء الحرية والعقلانية، تبقى تكراراً لخطابٍ قديم قاله قوم فرعون
من قبل: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾.
في النهاية، ليست القضية صراعاً
بين القديم والجديد، بل بين من يرى في الوحي طريقاً إلى الحقيقة،
ومن يراه ساحةً لتجريب المعنى. وبين من يقرأ القرآن ليسمع الله، ومن
يقرأه ليسمع نفسه. وبين من يرى في النصّ وعداً بالهداية، ومن يراه
مجازاً ثقافياً بلا مرجع. ولذلك يبقى السؤال الجوهري مطروحاً على
كلّ عقل: هل نحن من نعيد تشكيل كلام الله، أم أنّ كلام الله هو الذي
يعيد تشكيلنا؟
الأكثر قراءة
37349
19935


