2 جمادي الثاني 1446 هـ   4 كانون الأول 2024 مـ 11:24 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | المعاد (القيامة) |  أدلّة إثبات المعاد
2022-07-07   1753

أدلّة إثبات المعاد

يتساءل سائل عن الأدلّة التي يمكن إقامتها لإثبات مسألة المعاد؟
والجواب هو أن القرآن الكريم قد أثبت وبالأدلّة القطعية والمحكمة مسألة المعاد وبعث الناس بعد الممات، واعتبر ذلك من الحوادث والوقائع القطعية التي لا يمكن أن تتخلّف، وقد اعتمد القرآن الطرق التالية لإثبات ذلك:

المعاد رمز الخلقة
من التساؤلات والإثارات التي تتواصل إثارتها في الفكر البشري وتلحّ على الإنسان وتلاحقه دائماً وبلا هوادة هو السؤال عن أصل الخلقة والهدف منها، وماذا أُريد منها؟
وإنّ الشيء  الذي يمكن أن يبيّن الغرض من خلق العالم عامة والإنسان خاصة، وتجعل لذلك العالم هدفية وغرضاً وفهماً عقلائياً هو مسألة الاعتقاد بالمعاد بالنسبة إلى الإنسان والعالم بكلّ جزئياته وذراته، بمعنى انّ هذا العالم بكلّ محتوياته سيتحول إلى عالم آخر أكثر تكاملاً وأفضل، وكأنّ خلق الإنسان ووجوده في هذا العالم بمنزلة إعداد الأرضية المناسبة لخلق آخر أكمل، وإذا لم يكن للعالم وللخلق هذه الهدفية وهذا الخلق المجدد تصبح وبلا ريب عملية خلق الإنسان والعالم ـ بكلّ عظمته ليعيش الإنسان مقداراً من العمر القصير والسنين المعدودة ـ أمراً عبثياً لا جدوى منه ولا فائدة فيه ولا يجدي طائلاً أبداً. ويخرج حينئذ فعله سبحانه وتعالى عن الحكمة.
إنّ قسماً من آيات الذكر الحكيم تنظر إلى مسألة المعاد من هذه الزاوية، وترى أنّ خلق العالم إذا جرّد عن المعاد يفتقد الصفحة الذهبية منه ويصبح حينئذ كتاباً عبثياً لا جدوى منه، ويمكن تقسيم الآيات التي تدلّ على هذه الغاية من خلق العالم إلى طائفتين:
الطائفة الأُولى: الآيات التي ترى أنّ إنكار المعاد يلازم العبث.
الطائفة الثانية: الآيات التي تصف خلقه سبحانه للعالم وإيجاده له، بالحق المطلق الذي لا يأتيه الباطل.
ونشير هنا إلى نموذجين من الطائفة الأُولى.

أ‌. الآيات التي تدلّ على أنّ خلق الإنسان والعالم لم يكن أمراً عبثياً.
((أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ))(سورة المؤمنون ـ 115).
وفي الآية الثانية ينزّه القرآن الكريم اللّه سبحانه وتعالى من كلّ أنواع النقص حيث يقول سبحانه:
((فَتَعالَى اللّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَريمِ))( سورة المؤمنون ـ 116).
وفي آيات أُخرى يقول سبحانه مؤكّداً الحقيقة السالفة:
((وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاّ بِالْحَقّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعينَ(40))(سورة الدخان ـ 38 ـ 40)

ب‌. ب. الحقّ المطلق يلازم الهدفية لفعله سبحانه
جاء في الآيات التي  ـ سنتعرض لذكرها ـ بيان كون المعاد رمز الخلقة وانّه يثبت الهدفية لفعله سبحانه ويخرجه عن اللغوية من خلال طريق آخر، وهو:
إنّ اللّه سبحانه حق مطلق لا مجال للباطل في ذاته وصفاته وأفعاله، ومن كان يتّصف بهذا الوصف الجامع والحق المطلق لابدّ أن يكون عمله ملازماً  للهدفية وانّه يهدف إلى غاية حكيمة من خلقه، والتي يكون المعاد تجسيماً لقسم منها. قال سبحانه: ((ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيي الْمَوتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ))(سورة الحج ـ 6).
فقد وصف سبحانه في هذه الآية نفسه بـ (هُوَ الحَقّ) المطلق، ثمّ أردف  ذلك بقوله: (يُحيي المَوتى) وهذه إشارة واضحة إلى أنّ الحقّ المطلق لا ينفك عن إحياء الموتى والبعث يوم القيامة.
بعد هذه الإشارة لابدّ من البحث عن العلاقة بين «كونه سبحانه حقاً» و بين «المعاد يوم القيامة» لنرى ما هي هذه العلاقة؟
والجواب عن هذا السؤال: يتّضح جلياً من خلال التركيز على معنى «الحق»، وذلك لأنّ الحقّ في الواقع هو النقطة المقابلة «للباطل»، ومن الطبيعي انّ الموجود الحقّ والذي لا يتطرق إليه الباطل بشكل من الأشكال وبنحو من الأنحاء، لابدّ أن يكون أزليّاً وسرمدياً وأن تكون ذات ذلك الوجود جامعة لكلّ أنواع الكمال ومنزّهة من كلّ نقص وعيب، وهذا بدوره يلازم أن يكون العمل أو الفعل الصادر من تلك الذات منزّهاً عن  النقص والعيب بكلّ أشكاله أيضاً وإلاّ خرج الوجود عن كونه حقّاً مطلقاً وتطرّق إليه الباطل حينئذ، وهذا خلاف فرض كونه حقّاً .
وبعبارة أُخرى: انّ فعل الحقّ تجلّي لصفاته، والصفات الذاتية تجلّي لذاته سبحانه، فإذا كانت ذاته سبحانه حقّاً مطلقاً ولا يتطرّق لها الباطل بأيّ نحو من الأنحاء وبوجه من الوجوه لابدّ أن يوصف سبحانه بأنّه «حكيم»، وبما أنّه حكيم لابدّ أن يكون فعله بعيداً عن العبثية ومنزّهاً عن اللغوية دائماً.
ومن خلال هذا البيان نصل إلى هذه النتيجة وهي: انّ وصفه سبحانه بأنّه "الحق" دليل على أنّ فعله سبحانه نابع عن الحكمة والهدفية، وكما قلنا إنّ تنزيه عمله عن العبثية واللغوية لا يتحقّق إلاّ إذا اعتقدنا بالمعاد والحياة الأُخرى.
من هذا المنطلق نراه سبحانه يقول في آية أُخرى:
((وَأَنَّ السّاعَةَ آتيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ))(سورة الحج ـ 7).
وليست هذه الآية الوحيدة التي ترى أنّ كونه سبحانه حقاً هو الدليل الوحيد على حتمية المعاد والبعث والنشور يوم القيامة، بل توجد آيات أُخرى تشير إلى نفس الحقيقة حيث قال سبحانه وتعالى:
((ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّا للّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبيرُ))(سورة الحج ـ 62).
ثمّ أشار سبحانه في الآيتين اللاحقتين إلى مسألة الحياة الأُخرى للإنسان حيث قال سبحانه:
((وَهُوَ الّذي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُميتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ إِنَّ الإِنْسانَ لَكَفُورٌ))(سورة الحج ـ 66)، ثمّ إنّنا نرى الآية 28 من سورة لقمان تتحدّث عن المعاد ويوم القيامة حيث قال سبحانه: (( ... ما خَلْقُكُمْ وَما بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْس واحِدَة......))(سورة لقمان ـ 28)، ثمّ تأتي الآية رقم  30 لتصفه سبحانه بأنّه الحقّ حيث جاء فيها: ((ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ... ))(سورة لقمان ـ 30) . ومن بعد ذلك تعود الآية رقم 33 للحديث عن المعاد ويوم القيامة حيث قال سبحانه:
((يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَولُودٌ هُوَ جاز عَنْ والِدِه شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ  فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا)).
وإذا لم يوجد في القرآن الكريم إلاّ هذه الآيات بهذا النظم الرائع والترتيب المنطقي والوصف الجيد، لأذعنّا بما لا ريب فيه أنّ هذا القرآن لا يمكن أن يكون نتاج وثمرة الفكر البشري خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار ذلك المحيط البعيد كلّ البعد عن أجواء العلم والمعرفة «الجزيرة العربية»، كما أنّنا ندرك جيداً ونذعن بأنّ كلّ كلمة سطّرت في هذا القرآن إنّما سطّرت على أساس حسابات دقيقة غاية في الدقة والإمعان والرصانة، ولذلك نجدها بعد أن تصفه سبحانه (بالحق) تستنتج من ذلك الحق قطعية المعاد والقيامة.
وعلى هذا الأساس نرى القرآن تارة ينطلق من فكرة كون «الحق» ملازماً للمعاد، وأُخرى ينطلق من أنّ النظام المتناسق للكون لا يمكن أن يكون خالياً من الهدفية، ولذلك لابدّ من الإذعان بالمعاد والقيامة والحياة الأُخرى.
والنتيجة: إنّ مجموع الآيات يشير إلى كون المعاد رمزاً لهدفية الخلق، وتعدّه أمراً حتمياً وواقعاً قطعياً.

المعاد مظهر العدل الإلهي
إنّ العمل على أساس العدل هو أحد فروع مسألة التحسين والتقبيح العقليّين، وإنّ الذين يذهبون إلى الاعتقاد بهذه النظرية في مجال العقل العملي، يؤكّدون أنّ العمل وفقاً لما يستحسنه العقل والاجتناب عن كلّ ما يراه العقل قبيحاً، يُعدّ من الأُصول الكلّية الواسعة التي لا تختص بالإنسان، وانّ العقل يرى أنّ العمل «الحسن» والجميل وفي جميع الأحوال وتحت كافة الشرائط ومن أيّ فاعل مريد ومختار صدر فهو حسن وجميل، والقبيح على العكس من ذلك حيث يرون أنّ ذلك العمل قبيح ولا يفرّقون في هذا الحكم(بحكم كلّية الموضوع) بين كون الفاعل ممكناً «الإنسان» أو كونه واجباً «اللّه».
وممّا لا ريب فيه أنّه لو أطاع اللّه جميع العباد وتحوّلوا إلى أُناس محسنين وخيّرين وصالحين، فلا يستلزم ذلك أبداً وجوب إثابتهم من قبله سبحانه، وذلك لأنّهم مهما عملوا وأطاعوا وأحسنوا في حياتهم فإنّما ينطلقون في كلّ ذلك من القدرات والإمكانات التي منحها اللّه لهم ووهبها إليهم، إذ انّ جميع حركاتهم وسكناتهم وجهودهم البدنية منها والفكرية كلّها وليدة الثروة الإلهية، وهذه النقطة ممّا لا يرتاب فيها أحدٌ أدنى ارتياب. أضف إلى ذلك أنّنا لو أحصينا النعم الإلهية التي وهبها اللّه لعباده ومدى سعتها وكثرتها ـ إلى الدرجة التي يصرّح القرآن الكريم بأنّها تستعصي على العدّ والحصر ـ فحينئذ لا يبقى مجال لاستحقاق الثواب الأُخروي، وإذا ما رأينا اللّه سبحانه وتعالى قد وعد هؤلاء بالثواب فإنّما ذلك من باب الإحسان والكرم واللطف الإلهي لا غير، يقول أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام في هذا الصدد: "ولكنّه سبحانه جعل حقّه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضّلاً منه، وتوسّعاً بما هو من المزيد أهله".
في مقابل ذلك لو كان جميع العباد عاصين ومخطئين ومنحرفين ومذنبين لما وجب على اللّه تعالى عقابهم وعذابهم يوم القيامة، وذلك لأنّ العقاب والمؤاخذة حق للّه سبحانه وتعالى وليس من اللازم عليه أن يستوفي حقّه، إذ بإمكانه سبحانه أن يتنازل عن حقّه .
على هذا الأساس يتّضح أنّه لو كان جميع العباد صالحين أو جميعهم طالحين فلا يمكن أبداً توجيه مسألة العقاب أو الثواب الإلهي على أساس «العدل الإلهي» ولكن الناس يصنفون إلى طائفتين هما:
1.   الصالحون.
2. الطالحون.
وهنا من اللازم دراسة مقتضى العدل الإلهي بخصوص هاتين الطائفتين من عباده سبحانه.
كما ذكرنا أنّ الناس في هذا العالم ومن جهة العمل بالتكاليف الإلهية ينقسمون إلى طائفتين وهنا يأتي دور العقل ليستمد العون من الأصل الكلّي في الحسن والقبح العقليين، ويحكم  بأنّ المساواة بين هاتين الطائفتين على خلاف قانون «العدل»، وعلى هذا الأساس لو ساوى بينهم في العقاب بأن عاقب الجميع، أو ساوى بينهم في الجزاء بأن أثاب الجميع من دون فرق، أو أنّه على أقلّ تقدير أهمل إحسان المحسنين كما أهمل إجرام المجرمين ولم يترتّب على عملهم أدنى أثر يذكر، فلا ريب أنّه بعمله هذا وموقفه لم يَعدل بينهم، فكما أنّ معاقبة الجميع أو إثابة الجميع تُعدّ خلافاً للعدل الإلهي، كذلك الحياد والإهمال واللا مبالاة بالنسبة إلى الطائفتين الصالحة والطالحة التي تنفي أصل المعاد، يُعدّ على خلاف العدل الإلهي، والبحث هنا يتم على هذا المطلب الثالث والذي أكّد القرآن الكريم عليه أيضاً.
وبعبارة أُخرى: إذا كان بين هاتين الطائفتين فرق وامتياز في الجزاء في هذا العالم، فحينئذ يرى العدل الإلهي له مظهراً، وأمّا إذا فرضنا أنّ الموقف منهما ـ باستثناء بعض الموارد ـ على حدّ سواء فمن الطبيعي أنّه ولكي يتحقّق مفهوم العدل بصورة أتمّ وطريقة أكمل لابدّ من وجود عالم آخر وحياة ثانية تكون معرضاً للعدالة الحقّة، ومن هنا يكون المعاد أمراً حتمياً وقطعياً لا يمكن أن يتخلّف بحال من الأحوال، والآن نشرع في ذكر بعض الآيات التي جاءت في هذا الإطار، وهذه الآيات يمكن تقسيمها إلى طائفتين:
الف: طائفة تنكر  مسألة التساوي بين المذنبين والصالحين وتطرحها بأسلوب الاستفهام التعجبي، وترى أنّ ذلك لا ينسجم ولا يتلاءم مع العدل الإلهي.
ب. الطائفة الثانية ترى أنّ مسألة  الثواب والعقاب من تبعات مسألة المعاد، وأنّ إحدى غايات الحياة الآخروية هي منح وإعطاء الثواب أو إجراء العقاب.
ومن الآيات التي ترتبط بالطائفة الأُولى:
((أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقينَ كَالْفُجّارِ))(سورة ص ـ 28)، ((أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمينَ كَالْمُجْرِمينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36))(القلم ـ 35 ـ 36)، ((أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ))(سورة الجاثية ـ 21)، فإذا ما أنكرت هذه الطائفة  من الآيات إنكاراً شديداً مسألة المساواة بين الصالحين والطالحين في الثواب والعقاب، فإنّ الطائفة الثانية اعتبرت المعاد مقدّمة لعقاب العاصين والمجرمين وثواب المطيعين والمحسنين.
وبعبارة أُخرى: انّ آيات الطائفة الأُولى تدلّ على أنّ اللّه سبحانه يستحيل أن يساوي بين الصالحين والطالحين، ولابدّ أن يعدل بينهما، ولكن أين ومتى يقع هذا العدل؟ لم تتطرق هذه الطائفة إليه، ولكن آيات الطائفة الثانية تؤكد أنّ هذا الأصل «الثواب والعقاب» يتحقّق في فضاء ومحيط آخر، حيث قال سبحانه:
((إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَميم وَعَذابٌ أَليمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ))(سورة يونس ـ 4)، ويقول سبحانه: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)  وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51))(سورة ابراهيم ـ 48 ـ 51).
فإنّ هذه الآيات وإن لم تتحدّث عن «العدل الإلهي» ولكن بالالتفات إلى آيات الطائفة الأُولى يمكن القول إنّ ذلك هو مقتضى العدل الإلهي.
وفي كلام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام إشارة إلى هذا المعنى حيث قال عليه السلام: "يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ فِيهِ الأَوّلينَ وَالآخرينَ لِنِقاشِ الْحِسابِ وَجَزاءِ الأَعْمالِ"، ويقول عليه السلام أيضاً: "فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إخْلاقِهِمْ، وَجَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ، ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لِما يُريدُهُ مِنْ مَسألَتِهِمْ عَنْ خَفايَا الأَعْمالِ وَخَبايَا الأَفْعالِ وَجَعَلَهُمْ فَريقَين  أنْعَمَ عَلى هؤلاءِ وَانْتَقَمَ مِنْ هؤلاءِ...".

المعاد مجلى الوعد الإلهي
هنا يمكن إقامة الدليل على حتمية المعاد بنحو يكون ذلك الدليل قائماً على أُسس شرعية وأُخرى عقلية، وهي أنّ اللّه سبحانه قد وعد في الكتب السماوية السابقة وكذلك في القرآن الكريم، بأنّه سيثيب المحسنين يوم القيامة ويعاقب العاصين، من هنا تدخل مسألة القيامة في إطار الوعد الإلهي وتعد إحدى مسائله.
وعلى هذا الأساس يحكم العقل وبصورة قطعية بأنّ  الوفاء بالوعد والعمل به حسن عقلاً، وانّ خلف الوعد قبيح عقلاً ومرفوض وغير جائز قطعاً، ثمّ يستنتج العقل من ذلك انّ تحقّق المعاد يوم القيامة وإثابة المحسنين والمطيعين أمرٌ حتمي وقطعي لا يمكن أن يتخلّف.
إنّ هذا النوع من الاستدلال على حتمية يوم القيامة يختلف عن الاستدلالين السابقين اختلافاً تامّاً، وذلك لأنّ الاستدلالين السابقين مبنيان على أُسس عقلية، وانّ الآيات الواردة هنا تشير إلى حكم العقل في المسألة، سواء قلنا: "إنّ الخلق بدون المعاد عبث"، أو قلنا: "إنّ المساواة بين العباد في الثواب والعقاب على خلاف العدل الإلهي". 
ولكن يكون الاستدلال على حتمية المعاد هنا قائماً على ركيزتين إحداهما شرعية بمعنى أنّ اللّه إذا لم يبشر بيوم القيامة ولم يرسم حقّاً لكلّ من المطيع والعاصي و الصالح والطالح، فمن المستحيل أن يتحقّق موضوع حكم العقل «الوفاء بالوعد جميل وخلفه قبيح» ولكن بعد الالتفات إلى هذا الأصل (البشارة الإلهية بوقوع يوم القيامة والثواب والعقاب) حينئذ يحكم العقل حكماً قطعياً بحتمية وجود يوم القيامة وحتمية الثواب والعقاب.
ويمكن استنتاج هذين النوعين من الاستدلال من خلال بعض الآيات القرآنية، كما يمكن تقسيم تلك الآيات إلى طائفتين هما:
1. الآيات التي تشير إلى أصل الوعد الإلهي بوقوع القيامة والثواب والعقاب.
2. الآيات التي ترى أنّ تحقّق هذا الوعد الإلهي أمرٌ حتمي لا يقبل التخلّف أبداً.
وها نحن نذكر نماذج من هاتين الطائفتين:

القيامة وعد إلهي
قال سبحانه:
((كَمـا  بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْق نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنّـا كُنّا فاعِلينَ))(سورة الأنبياء ـ 104)
وقال في آية أُخرى:
((فَذَرْهُمْ  يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ))(سورة الزخرف ـ 83)، ولقد وردت الإشارة إلى أنّ القيامة هي إحدى البشائر الإلهية في مواضع أُخرى كما في سورة الذاريات وسورة المعارج وسورة الأنبياء.

جزاء الأعمال من وعوده سبحانه
لقد ورد في قسم من الآيات البشارة بالثواب والعقاب حيث قال سبحانه في خصوص الجنة:
((وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقينَ غَيْرَ بَعيد (31) هذا ما تُوعَدُونَ.....(32))(سورة ق ـ 31 ـ 32)، وقال سبحانه:
((وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوعِدُهُمْ أَجْمَعينَ))(سورة الحجر ـ 43)، وفي آية أُخرى: (( ... وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزابِ فَالنّارُ مَوْعِدُهُ......))(سورة هود ـ 17).
إلى هنا اتّضح ثبوت أصل الوعد الإلهي من خلال آيات الذكر الحكيم، فلنتعرض لذكر الآيات التي ترى أنّ تحقّق ذلك الوعد الإلهي أمر حتمي وقطعي، أي الآيات التي تؤيد حكم العقل، ومن حسن الحظ انّ الآيات في هذا  المجال كثيرة جداً نكتفي بذكر بعضها:
((رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْم لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ))(سورة آل عمران ـ 9).
ويقول سبحانه في آية أُخرى: ( ... وَلا تُخْزِنا يَوْمَ القِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ))(سورة آل عمران ـ 94).
وكأنّ  المتكلّمين المسلمين قد استلهموا من هذه الآيات المباركة الأمر واطّلعوا على حكم العقل من خلالها، واستدلّوا على ذلك بأصل الحكمة ووجوب الوفاء بالوعد كما يقول المحقّق الطوسي في هذا الصدد: "ووُجوبُ ايفاءِ الْوَعْدِ وَالحِكْمَة يَقْتضي وُجُوب الْبَعْث".

المعاد مظهر الرحمة الإلهية
من النكات المهمة والتي أولاها القرآن أهمية خاصة انّه ركّز على العلاقة بين المعاد وبين الرحمة الإلهية، واعتبر انّ المعاد غصن من شجرة الرحمة الإلهية، وأكّدت الآيات القرآنية على النظرة الرحمانية التي ألزم الحقّ تعالى بها نفسه والتي ينظر فيها إلى عباده من نافذة الرحمة، لذلك حشرهم يوم القيامة قال سبحانه:
((قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّمواتِ وَالأَرْضِ قُل للّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ القِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ))(سورة الأنعام ـ 12).
وهنا يطرح التساؤل التالي نفسه: كيف يا ترى يكون المعاد مظهراً للرحمة الإلهية والحال انّ في ذلك اليوم تعيش طائفة كبيرة من الناس العذاب الإلهي الشديد؟! وهل يمكن أن يكون العذاب الأليم والجحيم وكون بعضهم في الدرك الأسفل من النار مظهراً للرحمة الإلهية؟ والجواب عن هذا التساؤل واضح: لأنّ الهدف من وراء  البعث والنشور والحشر يوم القيامة هو إيصال كلّ ممكن إلى الكمال المطلوب، ونيل الرحمة الإلهية، وليصل كلّ إنسان إلى الغاية التي يتوخّاها ويطلبها من خلال أعماله الاختيارية واستعداداته الذاتية التي وهبها اللّه له، وليحيا تلك الحياة الطيبة في ذلك العالم وهو إنسان متكامل وعار عن كلّ نقص وعيب.
ولكن الإنسان الكافر هو الذي أوصد على نفسه نافذة الرحمة الإلهية من خلال غيّه وعتوه ولجاجته، ولم يستفد من الهبات والمنح الإلهية التي وهبها اللّه سبحانه له في هذا العالم، ومال بنفسه وأعرض عن طريق الحق وخرج من تحت ظلال شجرة الرحمة الإلهية.
وعلى هذا الأساس يكون ـ و بلا ريب ـ يوم القيامة قائماً على أساس الرحمة، ولكن الكافرين والمعاندين هم الذين مالوا عن مسير الرحمة وجادّتها، ومسألة القيامة والمعاد نظير مسألة  الامتحان، إذ الغرض والغاية من الامتحان والاختبار إظهار ما في كنه الممتحن من الكمال على نحو لولاه لما ظهرت تلك المواهب والاستعدادات والقدرات من مرحلة القوّة إلى الفعلية، ولكن الكافر ـ ولأسباب معينة ـ لم يستغل تلك الفرصة ولم يستفد من تلك الإمكانات بالنحو الصحيح، بل استعمل قدراته الكامنة في جهة الطريق المهلك والمُخسر.
وقد تمّ التركيز في الآية التي ذكرناها على مسألتين هما:
أ‌. انّ الحضور والحشر في يوم القيامة فرع من فروع الرحمة الإلهية، لا مسألة الثواب والعقاب حيث قال سبحانه: ((  ...لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ))، وكأنّ الحضور في  ذلك اليوم يُعدّ بمنزلة الوثبة والقفزة نحو عالم أكمل وحياة أفضل، وإذا كان الكافر قد خسر ذلك الكمال وحرم نفسه من تلك النعمة باختياره وسوء عمله، فلا يضر ذلك بكون يوم القيامة مظهراً للرحمة الإلهية.
ب‌. انّ جملة  ( ...الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ... ) تعدّ بمنزلة الجواب عن التساؤل الذي طرح، وعن الاستغراب الذي أُثير وانّه كيف يكون حضور المنافقين والكافرين في العذاب الإلهي والحشر يوم القيامة مظهراً للرحمة الإلهية؟! وكيف يكون الحشر فرعاً من فروع الرحمة الإلهية؟ والحال انّ ذلك اليوم يعدّ بالنسبة إليهم يوم الخسران المبين؟!
لكن الآية تؤكّد انّ خسرانهم وعذابهم وليد طبيعي لأعمالهم المنحرفة (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ)، وهم الذين حرموا أنفسهم من مائدة الرحمة الإلهية، وكأنّ الحشر والجمع يوم القيامة بمثابة درس كمال للجميع، ولكن طائفة من الناس وبسبب أعمالهم وأفعالهم المسبقة حرموا أنفسهم من الاستفادة منه.
ولعلّ الآية التالية ناظرة إلى نفس الفكرة (وهي كون المعاد فرعاً من فروع الرحمة الإلهية) حيث يقول سبحانه:
((فَانْظُر إِلى آثارِ رَحْمَةِ اللّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء قَديرٌ))(سورة الروم ـ 50).
انطلقت هذه الآية لإثبات المعاد يوم القيامة وإثبات إحياء الموتى من خلال إمعان النظر في الحياة الدنيا وكيف يحيي اللّه الأرض بعد موتها، ولكنّها في نفس الوقت لم تهمل النكتة الثانية وهي أنّه كما أنّ إحياء الأرض بعد موتها يقع في إطار الرحمة الإلهية ويمثل مظهراً من مظاهر رحمته سبحانه، كذلك يكون الأمر يوم القيامة، فإنّ إحياء الموتى يُعدّ أحد مظاهر الرحمة الإلهية الواسعة أيضاً، وذلك لأنّ الذي يترتّب على إحياء الأرض هو نمو النباتات، أي ظهور استعدادتها وتحوّل قدراتها من مرحلة القوّة إلى الفعلية وتظهر ما كمن  فيها من كمالات، فكما أنّ الأزهار الجميلة والفواكه اللذيذة تظهر من خلال حركة  الأرض وقيامها، كذلك تظهر الأشواك والثمار المرّة حقيقتها من خلال تلك الحركة أيضاً، ولا ريب أنّ الجميع من مظاهر وآثار الرحمة الإلهية الواسعة، كذلك الأمر في مسألة إحياء الموتى، فإنّ «الإحياء» مقتضى الرحمة الإلهية وتجسّم الأعمال والثواب والعقاب، من ملازماته التي لا تنفك عنه.
فالآيتان إذاً تشيران إلى حقيقة واحدة.

المعاد نهاية السير التكاملي للإنسان
حينما تعرض الحكماء لذكر تعريف «الحركة» ذكروا أنّ «الحركة» تتوقّف على أُمور ستة، السادس منها «العلّة الغائيّة»، وأنّ هدفهم من إثبات تلك الواقعية للحركة ينبع من تصوّر مفهوم الحركة، وذلك لأنّ السعي والجهد يمثّلان حقيقة الحركة، وانّه تكمن في ماهية السعي والجهد الحقيقة التالية، وهي: انّ الساعي يحاول الحصول على الشيء الذي يفتقده، ولا فرق هنا بين الحركات الطبيعية أو الإرادية.
وعلى هذا الأساس يكون الإنسان ومنذ الأيام الأُولى لحياته يعيش حالة «اللاّ ثبات» و «اللاّ استقرار» وأنّه يخضع في كلّ لحظة إلى ظروف وشروط خاصة تسوقه نحو الكمال فيعيش  ديمومة من الحركة يفتقد فيها حالة سابقة ويحصل على حالة جديدة، فالخلية الإنسانية حينما تستقر في الرحم لم تزل متحركة ومنتقلة من حالة إلى أُخرى ومن طور إلى آخر، من «علقة» إلى «مضغة» إلى ... حتى يتم إنساناً سوياً يفعل العجائب والغرائب ويقوم بالأعمال الجسام التي تعجز المخلوقات الأُخرى عن القيام بها، ومع كلّ ذلك يبقى ذلك الإنسان يعيش حالة التحول والانتقال وعدم الثبات حيث يقذف دائماً في تيار الحوادث من حالة إلى أُخرى.
ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذا البرهان الفلسفي الذي يثبت حتمية المعاد انطلاقاً من قانون «غائية الحركة»، ومن هذه الآيات التي وردت في هذا المجال:
لقد أشار القرآن الكريم وبصورة هي غاية في الدقّة والإحكام إلى المراحل التي يطويها الإنسان في مجال خلقته من «النطفة» وحتى الوصول  إلى مقامات سامية، وأنّه كلّما وصل إلى مرحلة ما تركها إلى أُخرى، أرقى من سابقتها وهكذا حتى يصل إلى درجة من الكمال. يصفها اللّه تعالى بقوله:
(( ..... ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقينَ))(سورة المؤمنون ـ 14)، ثمّ يشير سبحانه إلى مرحلتين من مراحل الإنسان التكاملية هما: مرحلتا «الموت» و «الحياة الأُخرى» حيث يقول سبحانه:
((ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16))(سورة المؤمنون ـ 15 ـ 16).
ونحن إذا أمعنّا النظر في الآيات نجد انّه سبحانه عطف الجمل الثلاث بحرف العطف «ثم» الذي يدلّ على التعاقب والالتصاق، وهذا يعني أنّ هذه المراحل متعاقبة ومتلاحقة.
ومن مجموع الجمل تكتشف انّ النفس الإنسانية والروح الواحدة، تخضع لقانون واحد منذ اللحظات الأُولى للخلق إلى أن تصل إلى مرحلة البعث والنشور والحياة الأُخرى، وهذا القانون هو: الانتقال والتحوّل والحركة من النقص إلى الكمال. ومن حالة «الفقدان» إلى حالة «الوجدان» ومن «القوة» إلى «الفعلية»، وبالنتيجة يصل الإنسان إلى الدرجة القصوى من كماله المطلوب في يوم القيامة وعند البعث والنشور، وبذلك يكون المعاد هو المرحلة الأخيرة في سير الإنسان التكاملي، وهذا المعنى نجد الإشارة إليه في آيات أُخرى من الذكر الحكيم حيث قال سبحانه: ((وأَنِّهُ خَلَقَ الزَّوجَينِ الذَّكَرَ وَالأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَة إِذا تُمْنى (46) وَ أنَّ عَلَيْهِ النَّشأَة الأُخرى(47))(سورة النجم ـ 45 ـ 47).
كما يمكن إدراك وتلقّف تلك الحقيقة من الآيات التي تصف يوم القيامة بالأوصاف التالية: «المنتهى» و «المستقر» و «المساق»، فكأنّها تشير إلى أنّ القيامة والمعاد هي نهاية الحركة والسعي، وانّ حياة الإنسان العاصفة بالحوادث والاضطرابات والتحولات في هذا البحر المتلاطم ستصل إلى مرحلة الاستقرار والثبات (المستقر)، وانّ مسيرة حركة هذه القافلة تساق إلى هذه الغاية المنشودة، وهي مرحلة الحياة الأُخرى وتكون نهاية سعيه إلى ربه سبحانه، ونحن هنا نشير إلى الآيات التي بيّنت تلك الحقيقة حيث قال سبحانه: ((وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى (39) وأنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزيهُ الْجَزاءَ الأَوفى (41) وَ أنَّ  إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى(42))(سورة النجم ـ 39 ـ 42).
وقال تعالى: ((إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذ الْمُسْتَقَرّ))(سورة القيامة ـ 12)، وقال سبحانه: ((إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذ الْمَساقُ))(سورة القيامة ـ 30).
وفي كلمات أمير المؤمنين عليه السلام لمحات وإشارات إلى هذا البرهان لمن أمعن النظر فيها حيث يقول عليه السلام: "وَإِنَّ الْخَلْقَ لا مَقْصرَ لَهُمْ عَنِ القِيامة مُرقِلينَ في مِضْمارِها إِلَى الْغايَةِ القُصْوى".

المعاد مظهر ربوبيته سبحانه
الربّ في اللغة بمعنى الصاحب، يقال: «ربّ الدار» و «ربّ الضيعة» لصاحب الدار وصاحب الضيعة أو البستان، وفي الحقيقة انّ المقام الربوبي هو مقام تدبير المربوب وإيصاله إلى الكمال، كما أنّ مقام الخالقية يرتبط بمرحلة الإيجاد والإنشاء، فإنّ الموجود الممكن بعد أن يلبس ثوب الإيجاد والإنشاء يبقى بحاجة إلى الرعاية والتدبير والسوق نحو الكمال المنشود، وهذا هو مجال المقام الربوبي.
كما أنّ كلمة «الرب» ـ وكما بيّنّا ـ تشير إلى أنّ حقيقة الربوبية والمربوبية تتجلّى في كون الإنسان عبداً للّه سبحانه وانّ اللّه هو المالك المطلق والصاحب له، وانّ العبد هو المملوك لربه سبحانه وممّا لا ريب فيه أنّ من شأن العبد بالنسبة إلى مولاه أن يطيعه ويتّبعه في جميع أوامره  بنحو تكون حركاته وسكناته جميعها مطابقة لأوامر مولاه ونواهيه. وبما أنّ العباد قد انقسموا  ـ من ناحية الطاعة ـ إلى طائفتين، مطيعة وعاصية، الأمر الذي يقتضي أن يوجد يوم يجمع فيه العباد على صعيد واحد ليحاسب فيه العاصون على مخالفتهم ويُثاب فيه المطيعون على طاعتهم.
وبعبارة أُخرى: انّ الربوبية تلازم العبودية، وفي الحقيقة انّه تكمن في حقيقة العبودية المسؤولية، وإلاّ لا معنى للمسؤولية بدون المؤاخذة، والمساءلة والاستجواب عن الأعمال والأفعال، ولا شكّ انّ ذلك كلّه لا يمكن تصوّره من دون أن يكون هناك  يوم يُعدّ للحساب والمساءلة والمؤاخذة، ولذلك فإنّ هذا الأمر يقتضي أن يوجد ذلك اليوم الذي تتجلّـى فيه ربوبية اللّه سبحانه، ولعلّه من هذا المنطلق جاءت كلمة «الرب» في الآية المذكورة بدل كلمة «اللّه» أو «الخالق» أو ما شابه ذلك، قال تعالى: ((يا أَيُّهَا الإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ  كَدْحاً فَمُلاقيهِ))(سورة الانشقاق ـ 6).
ولعلّه لنفس النكتة اعتبر في آية أُخرى إنكار المعاد ملازماً لإنكار الربوبية حيث قال  سبحانه:
((وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَولهُمْ ءَإِذا كُنّا تُراباً  ءَ إِنّا لَفي خَلْق جَديد  أُولئِكَ الَّذينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ......))(سورة الرعد ـ 5).
وتتّضح من خلال البيان السابق الملازمة بين إنكار المعاد وإنكار الربوبية، وذلك لأنّ الإنسان إذا سلم بأنّ له ربّاً وانّه مملوك لذلك الرب، فلا ينبغي بحال من الأحوال أن ينكر أنّه لابدّ أن يقف أمام هذا الرب والمالك للحساب والمساءلة والمؤاخذة، وإلاّ لا يمكن تصوّر مقام المالكية والربوبية والعبودية منفكّاً عن المحاسبة والمؤاخذة الكاملة لعباده ومربوبه ومملوكيه.
من هنا يتحيّر الإنسان لطبيعة النظم القرآني والموازنة والمقارنة الدقيقة ويقف بإعجاب أمام ذلك البيان الدقيق، حيث يرى بأنّه لا يمكن إبدال كلمة مكان أُخرى، لأنّ أدنى تغيير أو تبدّل سوف يقلب المعنى بصورة جذرية.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م