| المعاد (القيامة) | يوم الآخرة في ميزان العقل
2019-03-26 2242
يوم الآخرة في ميزان العقل
إذا أردنا أن نكون منصفين في الحكم
والموقف، فليس لنا إلاّ أن نقول أنّ «المعاد» أو «يوم الآخرة» هي من
المسائل التي يستوي فيها الإثبات والنفي لدى العقل البشري، وذلك إذا
حاولنا النظر والتأمّل فيها بمعزل عن ترابطها بباقي المباني التي
يقوم عليها الدين الإسلامي، لوضوح أنها من المسائل التي يتوقف
التسليم بها عقلاً على التسليم والإيمان مسبقا بوجود الخالق لهذا
الوجود، فالتسليم بالمُدَّعَى يكون متأخرا خطوة على التسليم بوجود
المدَّعِي.
بل وهنالك جملة كبيرة من المسائل الدينيّة التي يتضمَّنها ديننا الإسلامي، لا يمكن للعقل البشري أن يُثْبتها بمعزلٍ عن التسليم مسبقا بجملة من المقدمات، وذالك يعود لأمرين أساسيين:
الأمر الأول:
أنّ الإسلام عبارة عن منظومة مترابطة، بحيث تكون مسائله متفرّعة ومُرْتَكِزٌ بعضها على بعض، والأطروحات التي تكون على شكل منظوماتٍ مترابطة ومرتكز بعضها على بعض، لا يمكن إثبات مسألة متفرعة عن غيرها إلاّ بالرجوع للمسألة التي تتفرع عنها وملاحظة حيثية الإثبات فيها، وبعد التسليم بالمسألة الأصل يكون بمقدور العقل تقبّل وإثبات المسألة المتفرّعة، ولذلك نسمع عادة بتلك القاعدة العقلية «إثبات العرش، ثم بعد ذلك يتم الحديث في إثبات النَّقش الذي على العرش»، فلا يعقل الخوض والحديث في إثبات النَّقش، إلاّ بعد إثبات العرش الذي ارتسم عليه النَّقش.
الأمر الثاني:
هو أنّ المسائل الدينية المتعلِّقة بالآخرة وشؤونها من صنف الأمور الخارجة أصلا عن دائرة دَرْكِ العقل، وموقف العقل منها هو القبول أو الرفض، وبالتالي فالعقل لا يمكنه أن يَبُتَّ فيها من محض ذاته، بل يحتاج إلى التسليم المسبق بالمقدّمات، فبعد أن يسلّم بالمسائل التي تتفرع منها أو تُبنى عليها المسألة التي يراد للعقل الحكم فيها، في هذه اللَّحظة يمكن للعقل أن يحكم من خلال تلك الملازمة القائمة بين المسائل المتفرِّعة منها وبين نفس المسألة التي يتم البحث فيها.
فالعقل في هذه المرحلة وبعد أن يسلّم بالمسائل الأوليّة، يحكم ويُلزم صاحبه بالقول، أنّ التسليم بالمسألة الأصليّة يستلزم التسليم بالمسألة المتفرعة عنها، لوضوح تلك الملازمة القائمة بينهما والتي تفرض ضرورة التسليم بالثانية بعد التسليم بالأولى.
ولكن حتى لو كان التسليم بصدق وجود شيء اسمه «يوم الآخرة»، وبالتالي التسليم بالحساب والعقاب والثواب والجنَّة والنَّار، من الأمور التي لا يمكن للعقل أن يثبتها بدون التسليم بمجموعة من المقدمات المسبقة، إلاّ أنّ هذا الأمر لا يعني أنّ للعقل القدرة على نفي وجود «يوم الآخرة» بمجرد عدم مقدرته على إثباتها، وذلك لوضوح وجود حكم عقلي آخر يفيد بـ «لزوم دفع الضرر المحتمل»، والذي يرجع للمبدأ العُقلائي «الاحتياط العقلي» الذي يُلزم صاحبه بوجوب تجنب الضرر والعمل بوفق ما يدفع عنه كل ضرر يحتمله العقل.
وعليه فنحن لو تأملّنا في مفاد يوم الآخرة، الذي هو عبارة عن يوم يتمّ فيه حساب البشريّة على ما فعلته في الدنيا من خير وشرٍّ، وبالتالي ستكون نتيجة الحساب إمّا المنفعة الكبرى التي لا يُضاهيها أيّ منفعة دنيويّة، أو الضرر العظيم الذي لا يضاهيه أيّ ضرر دنيوي، فبهذا اللّحاظ سنجد أنّ الفرد البشري أمام احتمال ضرر كبير، وكذلك منفعة عظيمة، هنا وبعد انكشاف هذه الإحتمالات أمام العقل، سوف يحكم العقل في أقل تقدير بل ويُلزم صاحبه بضرورة ولزوم التحرّي في أصل هذه المسألة.
بل إنّ درجة اللُّزوم والإلزام التي سيحكم بها العقل، سوف ترتفع كلّما ارتفعت نسبة انكشاف حجم وشدّة الضرر الذي سيحصل في الآخرة، وكذلك ترتفع بارتفاع نسبة المنفعة أيضًا، بمعنى أنّ هناك تناسب عكسي بين نسبة الضرر والمنفعة من جهة، وبين نسبة اللزوم الذي سيقتضيه مبدأ الاحتياط العقلي من جهة أخرى.
فلو فرضنا أنّ النسبة الأوليّة باللُّزوم العقلي للتحرّك نحو دفع الضرر وجلب المنفعة هي 1%، وهذا المقدار من النِّسبة هو الحدُّ الأدنى الذي تقتضيه كل دعوى يمكن أن تُدَّعَى في مقام الإدّعاء، وهي تحصل بمجرد الإنكشاف الأوَّليّ لاحتماليّة الوقوع في الضرر، فهذه النِّسبة الضئيلة سوف ترتفع عكسيًّا كلَّما بلغنا معطاً جديداً يكون كاشفا عن حجم نسبة الضرر المحتمل، وذلك من خلال حساب تراكم تلك القيم الاحتماليّة التي تُقدِّمها المعطيات الكاشفة عن نسب حجم الضرر المحتمل، وهكذا مع تراكم قيم الاحتمال سوف ترتفع نسبة لزوم التحرّك نحو ما يدفع الضرر المحتمل، لتصل لنسبة 100%، أو أكثر من ذلك.
وهذا البيان الذي أوضحناه، هو ما بَنَى عليه المولى تعالى بعض النُّصوص القرآنيَّة التي تعلّقت بِمَضَامِينِهَا بيوم الآخرة، وهو الحقيقة التي سيواجهها كل فرد أنكر المعاد نتيجة استكباره واستعلائه عن البحث والتحقيق في مثل هذه المُدَّعيات، وهنا نورد بعض الآيات المتضمنّة لتلك الحقيقة التي أوضحناها:
قوله تعالى: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ))(الأنعام ـ130).
وكذلك قوله تعالى: ((وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ))(الزمرـ71-72).
فهنا يكشف لنا المولى تعالى وبالتبع إليه الملائكة، عن ذاك الخطاب الذي سَيُوجَّه يوم الآخرة لمعشر الجنّ والإنس المنكرين ليوم الآخرة، فيقال لهم: ألم تَقُصُّ وتَتْلوا عليكم رُسُلُكم تلك الدَّعاوى التي تُعْلِمُكُم بوجود مثل هذا اليوم الذي تعيشونه وهذا المصير الذي تواجهونه الآن؟
وهنا لم يكتف المولى تعالى أو الملائكة بالاحتجاج على وقوع المنكرين في العذاب، بمجرد وصول الدَّعوى إليهم وإعلامهم بها، بل ولأجل أن يقطعوا حُجَّتهم من أنّ الدَّعوى وصلت إليهم، ولكن لم يتمكنوا من التسليم بها تِبَعًا لعدم تسليم العقل بها، لأجل هذا كان خطاب المولى تعالى والملائكة متضمّنًا لمفردة «آيات الله» التي تتمثّل في تلك الحقائق الأولى التي تُبنى وتتفرّع عنها مسألة «يوم الآخرة»، والتي بالتسليم بها يحكم العقل بلزوم التسليم بما تفرّع عنها كما أوضحنا في بداية الكلام، وكذالك كان خطابهم متضمِّنًا لمفردة «الإنذار» الذي لا يتحقّق إلاَّ من خلال الكشف المتكرّر لما في يوم الآخرة من مضار كبيرة ومنافع عظيمة، فاحتجاج المولى تعالى والملائكة على المعذَّبين بـ «الإنذار» فيه دلالة وإشارة على تراكم القيم الاحتماليّة التي تحدّثنا عنها، فكأنّ المولى تعالى والملائكة يقولون للمعذّبين لما تجاهلتم تراكم القيّم الاحتماليّة الناتجة عن إنذارات رُسُلُكم والموصلة لكم لدرجة اليقين، لو لم تكونوا من المستكبرين.
وبناءً على كل ما تقدَّم يمكن أن نلخّص الأمر فنقول: صحيح أنّ العقل لا يمكنه أن يُثبت صدق «يوم الآخرة» من الوهلة الأولى، وخاصة إذا كانت المسألة معزولة لوحدها، ولكنه أيضًا لا يُمكنه أن ينفي صدقه ما لم يكن هناك مستندًا لنفيه، بل إنّ العقل يُلزم صاحبه بلزوم التحرك نحو دفع الضرر المحتمل، ونسبة هذا اللّزوم متوقفة على كم المعطيات الكاشفة عن حجم الضرر المحتمل.
وعليه، فعموما وبعد وصول دعوى وجود يوم آخرة، يكون الفرد البشري ومن خلال الحصر العقلي أمام موقفين: الأول، إمّا أن ألاّ يُصدِّق بوجود يوم الآخرة، وبالتالي إمّا أن لا يؤمن بصحّة وجود عقاب وثواب، أو هو متوقف في الأمر، والثاني أنّ يصدِّق بوجود يوم آخرة، وكذلك العقاب والثواب، فمع فرض صحّة وجود آخرة واقعًا، هلك صاحب الموقف الأول ونجا صاحب الموقف الثاني، خاصة إن عمل على وفق ما تقتضيه النجاة، أمّا مع فرض عدم وجود آخرة واقعًا، فقد نجا الأول، وكذلك نجا الثاني.
وبالتالي ففي مثل هذه الأمور التي تتعلّق بالمصائر الرئيسيّة لبني الإنسان، على الفرد السوي أن يتحلَّى بالتعقل الكافي الذي يمكِّنه من العمل على وفق مبدأ لزوم دفع الضرر وجلب المنفعة، القاضي به العقل السليم.
حبيب مقدم
بل وهنالك جملة كبيرة من المسائل الدينيّة التي يتضمَّنها ديننا الإسلامي، لا يمكن للعقل البشري أن يُثْبتها بمعزلٍ عن التسليم مسبقا بجملة من المقدمات، وذالك يعود لأمرين أساسيين:
الأمر الأول:
أنّ الإسلام عبارة عن منظومة مترابطة، بحيث تكون مسائله متفرّعة ومُرْتَكِزٌ بعضها على بعض، والأطروحات التي تكون على شكل منظوماتٍ مترابطة ومرتكز بعضها على بعض، لا يمكن إثبات مسألة متفرعة عن غيرها إلاّ بالرجوع للمسألة التي تتفرع عنها وملاحظة حيثية الإثبات فيها، وبعد التسليم بالمسألة الأصل يكون بمقدور العقل تقبّل وإثبات المسألة المتفرّعة، ولذلك نسمع عادة بتلك القاعدة العقلية «إثبات العرش، ثم بعد ذلك يتم الحديث في إثبات النَّقش الذي على العرش»، فلا يعقل الخوض والحديث في إثبات النَّقش، إلاّ بعد إثبات العرش الذي ارتسم عليه النَّقش.
الأمر الثاني:
هو أنّ المسائل الدينية المتعلِّقة بالآخرة وشؤونها من صنف الأمور الخارجة أصلا عن دائرة دَرْكِ العقل، وموقف العقل منها هو القبول أو الرفض، وبالتالي فالعقل لا يمكنه أن يَبُتَّ فيها من محض ذاته، بل يحتاج إلى التسليم المسبق بالمقدّمات، فبعد أن يسلّم بالمسائل التي تتفرع منها أو تُبنى عليها المسألة التي يراد للعقل الحكم فيها، في هذه اللَّحظة يمكن للعقل أن يحكم من خلال تلك الملازمة القائمة بين المسائل المتفرِّعة منها وبين نفس المسألة التي يتم البحث فيها.
فالعقل في هذه المرحلة وبعد أن يسلّم بالمسائل الأوليّة، يحكم ويُلزم صاحبه بالقول، أنّ التسليم بالمسألة الأصليّة يستلزم التسليم بالمسألة المتفرعة عنها، لوضوح تلك الملازمة القائمة بينهما والتي تفرض ضرورة التسليم بالثانية بعد التسليم بالأولى.
ولكن حتى لو كان التسليم بصدق وجود شيء اسمه «يوم الآخرة»، وبالتالي التسليم بالحساب والعقاب والثواب والجنَّة والنَّار، من الأمور التي لا يمكن للعقل أن يثبتها بدون التسليم بمجموعة من المقدمات المسبقة، إلاّ أنّ هذا الأمر لا يعني أنّ للعقل القدرة على نفي وجود «يوم الآخرة» بمجرد عدم مقدرته على إثباتها، وذلك لوضوح وجود حكم عقلي آخر يفيد بـ «لزوم دفع الضرر المحتمل»، والذي يرجع للمبدأ العُقلائي «الاحتياط العقلي» الذي يُلزم صاحبه بوجوب تجنب الضرر والعمل بوفق ما يدفع عنه كل ضرر يحتمله العقل.
وعليه فنحن لو تأملّنا في مفاد يوم الآخرة، الذي هو عبارة عن يوم يتمّ فيه حساب البشريّة على ما فعلته في الدنيا من خير وشرٍّ، وبالتالي ستكون نتيجة الحساب إمّا المنفعة الكبرى التي لا يُضاهيها أيّ منفعة دنيويّة، أو الضرر العظيم الذي لا يضاهيه أيّ ضرر دنيوي، فبهذا اللّحاظ سنجد أنّ الفرد البشري أمام احتمال ضرر كبير، وكذلك منفعة عظيمة، هنا وبعد انكشاف هذه الإحتمالات أمام العقل، سوف يحكم العقل في أقل تقدير بل ويُلزم صاحبه بضرورة ولزوم التحرّي في أصل هذه المسألة.
بل إنّ درجة اللُّزوم والإلزام التي سيحكم بها العقل، سوف ترتفع كلّما ارتفعت نسبة انكشاف حجم وشدّة الضرر الذي سيحصل في الآخرة، وكذلك ترتفع بارتفاع نسبة المنفعة أيضًا، بمعنى أنّ هناك تناسب عكسي بين نسبة الضرر والمنفعة من جهة، وبين نسبة اللزوم الذي سيقتضيه مبدأ الاحتياط العقلي من جهة أخرى.
فلو فرضنا أنّ النسبة الأوليّة باللُّزوم العقلي للتحرّك نحو دفع الضرر وجلب المنفعة هي 1%، وهذا المقدار من النِّسبة هو الحدُّ الأدنى الذي تقتضيه كل دعوى يمكن أن تُدَّعَى في مقام الإدّعاء، وهي تحصل بمجرد الإنكشاف الأوَّليّ لاحتماليّة الوقوع في الضرر، فهذه النِّسبة الضئيلة سوف ترتفع عكسيًّا كلَّما بلغنا معطاً جديداً يكون كاشفا عن حجم نسبة الضرر المحتمل، وذلك من خلال حساب تراكم تلك القيم الاحتماليّة التي تُقدِّمها المعطيات الكاشفة عن نسب حجم الضرر المحتمل، وهكذا مع تراكم قيم الاحتمال سوف ترتفع نسبة لزوم التحرّك نحو ما يدفع الضرر المحتمل، لتصل لنسبة 100%، أو أكثر من ذلك.
وهذا البيان الذي أوضحناه، هو ما بَنَى عليه المولى تعالى بعض النُّصوص القرآنيَّة التي تعلّقت بِمَضَامِينِهَا بيوم الآخرة، وهو الحقيقة التي سيواجهها كل فرد أنكر المعاد نتيجة استكباره واستعلائه عن البحث والتحقيق في مثل هذه المُدَّعيات، وهنا نورد بعض الآيات المتضمنّة لتلك الحقيقة التي أوضحناها:
قوله تعالى: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ))(الأنعام ـ130).
وكذلك قوله تعالى: ((وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ))(الزمرـ71-72).
فهنا يكشف لنا المولى تعالى وبالتبع إليه الملائكة، عن ذاك الخطاب الذي سَيُوجَّه يوم الآخرة لمعشر الجنّ والإنس المنكرين ليوم الآخرة، فيقال لهم: ألم تَقُصُّ وتَتْلوا عليكم رُسُلُكم تلك الدَّعاوى التي تُعْلِمُكُم بوجود مثل هذا اليوم الذي تعيشونه وهذا المصير الذي تواجهونه الآن؟
وهنا لم يكتف المولى تعالى أو الملائكة بالاحتجاج على وقوع المنكرين في العذاب، بمجرد وصول الدَّعوى إليهم وإعلامهم بها، بل ولأجل أن يقطعوا حُجَّتهم من أنّ الدَّعوى وصلت إليهم، ولكن لم يتمكنوا من التسليم بها تِبَعًا لعدم تسليم العقل بها، لأجل هذا كان خطاب المولى تعالى والملائكة متضمّنًا لمفردة «آيات الله» التي تتمثّل في تلك الحقائق الأولى التي تُبنى وتتفرّع عنها مسألة «يوم الآخرة»، والتي بالتسليم بها يحكم العقل بلزوم التسليم بما تفرّع عنها كما أوضحنا في بداية الكلام، وكذالك كان خطابهم متضمِّنًا لمفردة «الإنذار» الذي لا يتحقّق إلاَّ من خلال الكشف المتكرّر لما في يوم الآخرة من مضار كبيرة ومنافع عظيمة، فاحتجاج المولى تعالى والملائكة على المعذَّبين بـ «الإنذار» فيه دلالة وإشارة على تراكم القيم الاحتماليّة التي تحدّثنا عنها، فكأنّ المولى تعالى والملائكة يقولون للمعذّبين لما تجاهلتم تراكم القيّم الاحتماليّة الناتجة عن إنذارات رُسُلُكم والموصلة لكم لدرجة اليقين، لو لم تكونوا من المستكبرين.
وبناءً على كل ما تقدَّم يمكن أن نلخّص الأمر فنقول: صحيح أنّ العقل لا يمكنه أن يُثبت صدق «يوم الآخرة» من الوهلة الأولى، وخاصة إذا كانت المسألة معزولة لوحدها، ولكنه أيضًا لا يُمكنه أن ينفي صدقه ما لم يكن هناك مستندًا لنفيه، بل إنّ العقل يُلزم صاحبه بلزوم التحرك نحو دفع الضرر المحتمل، ونسبة هذا اللّزوم متوقفة على كم المعطيات الكاشفة عن حجم الضرر المحتمل.
وعليه، فعموما وبعد وصول دعوى وجود يوم آخرة، يكون الفرد البشري ومن خلال الحصر العقلي أمام موقفين: الأول، إمّا أن ألاّ يُصدِّق بوجود يوم الآخرة، وبالتالي إمّا أن لا يؤمن بصحّة وجود عقاب وثواب، أو هو متوقف في الأمر، والثاني أنّ يصدِّق بوجود يوم آخرة، وكذلك العقاب والثواب، فمع فرض صحّة وجود آخرة واقعًا، هلك صاحب الموقف الأول ونجا صاحب الموقف الثاني، خاصة إن عمل على وفق ما تقتضيه النجاة، أمّا مع فرض عدم وجود آخرة واقعًا، فقد نجا الأول، وكذلك نجا الثاني.
وبالتالي ففي مثل هذه الأمور التي تتعلّق بالمصائر الرئيسيّة لبني الإنسان، على الفرد السوي أن يتحلَّى بالتعقل الكافي الذي يمكِّنه من العمل على وفق مبدأ لزوم دفع الضرر وجلب المنفعة، القاضي به العقل السليم.
حبيب مقدم
الأكثر قراءة
26269
18711
13928
10801