26 ربيع الثاني 1447 هـ   19 تشرين الأول 2025 مـ 1:38 مساءً كربلاء
سجل الايام
وفاة المحقق الحلي أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن سنة 676 هـ، صاحب كتاب "شرائع الإسلام".
القائمة الرئيسية

 | لماذا الدين الإسلامي؟ |  الوسطية في الإسلام: حقيقة أم شعار؟
2025-09-24   110

الوسطية في الإسلام: حقيقة أم شعار؟


الشيخ معتصم السيد أحمد
يكثر في الإعلام المعاصر الحديث عن مصطلح "الإسلام الوسطي"، حتى صار شعاراً سياسياً وثقافياً تتبناه دول ومؤسسات وجماعات، وتقدمه بوصفه الحل لمشكلات التطرف والعنف والانغلاق. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل هذا المصطلح له أصل واقعي في النصوص الإسلامية بحيث يمكن اعتباره مفهوماً أصيلاً؟ وهل نستطيع أن نعرف حدوده بدقة لنطبّقه عملياً، أم أنّه مجرد شعار فضفاض يسهل تكييفه بحسب الأهواء والظروف؟

إن أول ما ينبغي قوله إن "الوسطية" ليست غريبة عن النص القرآني، بل هي واردة صراحة في قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143]. فالمعنى القرآني للوسطية يتجاوز فكرة الاعتدال بالمعنى السياسي الحديث، ليدل على الأمة المتوازنة في عقيدتها وشريعتها وأخلاقها، فهي ليست أمة متطرفة في الغلو كما فعلت بعض الأمم، ولا متساهلة في التمييع كما فعلت أمم أخرى، بل هي أمة قائمة على العدل والاعتدال والاحتكام إلى الوحي. وهذا المعنى القرآني يتكرر أيضاً في أوصاف أخرى مثل: "أمة العدل"، "أمة الشهادة"، "أمة الخير". ومن هنا، يمكن القول إن أصل الفكرة موجود في الدين، ولكن بصياغة أوسع وأعمق من الاستعمال المعاصر.

أما في التراث الإسلامي، فلا نجد مصطلحاً بعنوان "الإسلام الوسطي" كمفهوم مستقل أو مدرسة خاصة. التراث تحدّث عن العدل، عن القسط، عن الصراط المستقيم، عن التوازن بين الروح والجسد، بين الدنيا والآخرة، بين الحقوق والواجبات. لكنه لم يضع مصطلحاً سياسياً باسم "الإسلام الوسطي". هذا يعني أن المصطلح في صورته اللفظية حديث النشأة، لكنه يحاول أن يترجم جانباً من المعاني القرآنية القديمة بلغة تناسب السياقات الجديدة.

في العصر الحديث، استُخدم مصطلح "الإسلام الوسطي" لأغراض متعدّدة؛ فهو عند بعض المفكرين يشير إلى الإسلام الذي يرفض التطرف والعنف، ويوازن بين النص والواقع، ويجمع بين الأصالة والمعاصرة. وعند بعض الأنظمة السياسية صار شعاراً لمواجهة الحركات الإسلامية التي رأت فيها تهديداً، فرفعت لواء "الوسطية" لتقابل به "التطرف". وفي الإعلام الغربي غالباً ما يُستعمل المصطلح للدلالة على الإسلام الذي يقبل بالقيم الليبرالية الغربية أو يندمج في النظام العالمي القائم. وهذا التعدد في الاستعمالات يكشف عن مشكلة، إذ قد يتحول المصطلح إلى لافتة فارغة تحملها جهات متباينة، كل منها يملؤها بالمعنى الذي يريده.

ومن هنا يبرز السؤال: هل نستطيع أن نعرف حدود "الإسلام الوسطي" بدقة؟ الجواب يعتمد على المرجعية التي نحتكم إليها. إذا كانت المرجعية هي النص القرآني والنبوي، فالوسطية تعني التمسك بالوحي من غير غلو ولا تفريط. هي أن تقيم حياتك على التوازن: لا رهبانية في الإسلام تلغي متطلبات الجسد، ولا مادية مفرطة تنكر الروح. لا قسوة تحرم الرحمة، ولا تراخٍ يفرّط بالحق. الوسطية هي أن تسير على الصراط المستقيم الذي حدده الله، وهو وسط بين طرق الانحراف كلها. أما إذا جعلنا المرجعية هي الرغبات السياسية أو الثقافية، فستظل الوسطية مفهوماً فضفاضاً قابلاً للتسييس والتوظيف، وقد يصير غطاءً لتبرير الاستسلام أو التفريط تحت شعار الاعتدال.

ومن الأبعاد المهمة هنا أن الوسطية لا تعني المساومة على المبادئ، بل تعني العدل والإنصاف. فالإسلام الوسطي بالمعنى الصحيح هو الذي يقف موقفاً واضحاً من الظلم والاستبداد، لكنه يرفض في الوقت نفسه العنف الأعمى والانتقام. وهو الذي يفتح باب الحوار مع الآخر، لكن من دون أن يتنازل عن ثوابته أو يذوب في قيمه. لذلك لا يمكن اختزال الوسطية في مجرد رفض التطرف، بل هي بناء إيجابي متكامل يقوم على التوازن بين مختلف جوانب الحياة.

وإذا تأملنا في تجارب التاريخ الإسلامي، نجد أن الوسطية كانت دوماً مطلوبة ولكنها لم تكن سهلة التطبيق. فقد وقع المسلمون في الغلو أحياناً حين تحولت بعض المذاهب إلى تشدد مفرط، ووقعوا في التفريط أحياناً حين استسلموا لموجات التقليد أو الانحلال. والقرآن كان يذكّرهم دائماً بأن معيار الوسطية ليس ما تستحسنه الأهواء، بل ما يوافق الحق: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا﴾ [هود:112]. فالمطلوب استقامة لا ميل فيها ولا طغيان.

من زاوية أخرى، ينبغي أن ننتبه إلى أن الوسطية ليست مفهوماً نسبياً يمكن لكل واحد أن يحدد معاييره وفق ذوقه. الوسطية في الإسلام محددة بالنصوص: العدل في التعامل، التوازن في العبادة، الاعتدال في السلوك. فلو جاء شخص وقال إن الوسطية تعني ترك بعض الواجبات أو التنازل عن بعض المحرمات، فهذا ليس وسطية بل هو تفريط. كما أن من يحمّل النصوص ما لا تحتمل ويقع في الغلو ليس وسطياً. لذلك فإن معرفة حدود الوسطية تستلزم الرجوع إلى الوحي، وإلى منهج أهل البيت (عليهم السلام) الذين جسّدوا المعنى الحقيقي للاعتدال.

إن الإعلام حين يطرح مصطلح "الإسلام الوسطي" غالباً لا يوضح حدوده، بل يتركه غامضاً ليستعمل في أي سياق، وهذا ما يضعف قيمته العلمية. أما في الفكر الإسلامي الأصيل، فالوسطية موجودة كحقيقة قرآنية وكسلوك نبوي وكقيمة أخلاقية. فهي ليست مصطلحاً سياسياً طارئاً، وإنما جوهر رسالة الإسلام نفسها، التي جاءت لتبني إنساناً متوازناً لا يطغى جانب على جانب.

وفي الخاتمة، يمكن القول إن الإسلام الوسطي بالمعنى الإعلامي الحديث ليس مصطلحاً تراثياً أصيلاً، لكنه يعبر – بقدر – عن حقيقة قرآنية هي "الأمة الوسط". غير أن هذه الحقيقة لا تُفهم إلا من خلال نصوص الوحي التي تضبط معناها، لا من خلال توظيفات سياسية أو إعلامية عابرة. فالوسطية ليست شعاراً نرفعه لمواجهة التطرف فقط، بل هي نهج شامل في فهم الدين وتطبيقه، يقوم على التوازن بين مختلف أبعاد الوجود الإنساني. ومن ثمّ، فإن أي محاولة لتطبيق الوسطية يجب أن تبدأ من العودة إلى القرآن وسنة المعصومين، وإلى التجارب النبوية والإمامية التي تجسدت فيها الوسطية في أبهى صورها. أما إذا تُركت الكلمة بلا ضوابط، فسوف تظل عرضة للاستعمال المزدوج: مرة لتبرير الإفراط، ومرة لتبرير التفريط، بينما الحقيقة أن الوسطية هي الصراط المستقيم الذي لا ينحرف لا يميناً ولا يساراً. 

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م