

| العدل | حرية الإنسان بين الطاعة والمعصية: هل خلق الله العصاة؟
2025-09-26 123

حرية الإنسان بين الطاعة والمعصية: هل خلق الله العصاة؟
الشيخ معتصم السيد احمد
يتكرر سؤال على ألسنة الكثيرين،
يثير حيرة البعض ويُستخدم للطعن في حكمة الله وعدله عند آخرين:
لماذا خلق الله العصاة؟ وهو سؤال يبدو للوهلة الأولى عميقاً
وجدلياً، لكنه في الحقيقة يرتكز على افتراض خاطئ؛ وهو أن الله خلق
بعض الناس مؤمنين وخلق آخرين عصاة، وبالتالي يتحمل هو مسؤولية
أفعالهم ومعاصيهم، وكأن الإنسان لا دور له في اختيار طريقه. لكن
الحقيقة أن هذا الفهم يناقض جوهر سنن الحياة التي تقوم على حرية
الإنسان ومسؤوليته.
لقد أعطى الله تعالى الإنسان العقل
والاختيار، وجعل له القدرة على التمييز بين الحق والباطل، والخير
والشر، ثم أرسى قاعدة حاكمة لا لبس فيها، قال تعالى: ﴿وَقُلِ
الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ
فَلْيَكْفُرْ﴾.
فهذه الآية الكريمة تضع مسؤولية
الإيمان والكفر على مشيئة الإنسان نفسه، لا على إرادة مفروضة عليه
من الخارج، فالله لا يُجبر أحداً على المعصية، ولا يمنع أحداً من
الطاعة.
وفي آية أخرى، يوضح الله سبحانه
هذه الحرية بقوله: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً
وَإِمَّا كَفُوراً﴾.
أي أن الله أظهر للإنسان الطريقين،
وأوضح له العاقبة، وترك له حرية الاختيار، ولم يمنع أحداً من سلوك
طريق الهدى، بل هيّأ له وسائل الهداية، وأرسل له الرسل، وأنزل
الكتب، وأقام عليه الحجة، لكن من شاء اتبع ومن شاء أعرض.
من هنا، فإن السؤال عن سبب "خلق
العصاة" ينطوي على سوء فهم لطبيعة الطاعة والمعصية، وكأنها "صفات
مخلوقة في الإنسان" لا يملك ردّها، بينما الحقيقة أن العصيان نتاج
قرار فردي، ينبع من داخل الإنسان الذي آثر هواه على طاعة مولاه.
الله خلق الإنسان حراً مختاراً، ولم يخلق فيه الطاعة ولا المعصية
كجبر تكويني، بل خلقه على الفطرة، وزوّده بالعقل، وهيّأ له سُبل
الهداية، وترك له أن يختار طريقه.
ولذلك، قامت سنّة الحياة على وجود
الصالح والطالح، والخير والشر، والحق والباطل، والإنسان يقف في قلب
هذا الصراع الوجودي، محاطاً بالإمكانات والاختبارات، ليُظهر ما في
نفسه، ويصنع موقفه بنفسه. فليس هناك قدر يمنع الإنسان عن الحق إن
أراده، ولا قَدَر يُلزم الإنسان بالباطل إن رفضه. وإنما الإنسان هو
من يحدد مصيره بإرادته، وهذا ما يجعل تكليفه وتثبيته واستحقاقه
للثواب والعقاب منطقياً وعادلاً.
قال تعالى في آية أخرى، تكشف بوضوح
أن الله لا يُلزم أحداً بالإيمان قسراً: ﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ
أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾.
أي أن الله لا يُكره أحداً على
اتباع الهداية ما دام هو لا يريدها أصلاً. وهذا من تمام عدله أن لا
يُجبر أحداً على ما لا يرغب فيه، ولا يُدخله الجنة رغماً
عنه.
ولكي لا يُقال إن الله خلق الإنسان
وتركه تائهاً، أرسل له الرسل وأنزل عليه الكتب، وأقام له براهين
العقل وآيات الآفاق والأنفس، وجعل للكون كله نُظُماً تهديه، وجعل في
قلبه صوت الفطرة. بل زاد على ذلك بأن حبب إليه الإيمان، وزينه في
قلبه، وكرّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، كما قال سبحانه:
﴿وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ
فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ
وَالْعِصْيَانَ﴾.
هذه الآية تبين بوضوح أن الله عز
وجل مهّد الطريق لعباده، وجعل الإيمان محبوباً في نفوسهم، وهيّأ لهم
دوافع الطاعة، وضيّق عليهم طرق الغواية، ولكن رغم كل ذلك، تبقى
الكلمة الأخيرة للإنسان. فمن اختار طريق العصيان، فهو الذي اختار أن
يُعرض عن كل هذا الخير، ولا يتوقع أن يتدخل الله ليمنعه قسراً وهو
رافض له. فلا يمكن لمن أعرض عن الهداية، وتنكب طريقها، أن يحتجّ بأن
الله خلقه عاصياً، لأن الله لم يُجبره على ذلك، بل أعطاه القدرة
والحرية، وترك له القرار.
وهنا تظهر كرامة الإنسان الحقيقية،
فهو ليس مجرّد كائن مدفوع بحتميات تكوينية لا يملك ردّها، بل هو
كائن مكلّف، حرّ، قادر على أن يصنع الخير أو أن يرتكب الشر، وأن
يختار طريق النجاة أو طريق الهلاك، بإرادته الخاصة. وهذه الإرادة هي
سرُّ التكليف، وهي مناط الحساب والثواب والعقاب.
ولهذا، فإن الجنة ليست صدفة،
والنار ليست قدَراً، بل كلّ منهما ثمرة اختيار حرّ. من سعى للجنة
وعمل لها، فاز بها، ومن ركن إلى هواه وانحرف، فقد اختار أن يكون من
أهل العذاب. ولذلك قال تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ
لِّلْعَبِيدِ﴾.
إن السؤال الحقيقي الذي ينبغي أن
يُطرح ليس: لماذا خلق الله العصاة؟ بل: لماذا اختار بعض الناس أن
يعصوا الله رغم كل ما هيأه لهم من وسائل الهداية؟ وهنا نجد أن
المشكلة ليست في الخلق الإلهي، بل في القرار الإنساني، في اختيارات
البشر، في رفضهم النور بعد أن أبصروا، وفي إصرارهم على الغفلة بعد
أن سمعوا. فالهلاك ليس مفروضاً على أحد، بل هو نتيجة طبيعية لرفض
الإنسان أن يهتدي، مع توافر كل الشروط والوسائل التي توصله إلى
الله.
إن الله سبحانه لم يظلم أحداً بخلق
المعصية فيه، بل أعطى الإنسان القدرة على الطاعة، وبين له الطريقين،
ثم ترك له حرية السير، فمن اختار الضلال، فإنه يحمل وزره وحده، لا
لأن الله أراده عاصياً، بل لأنه أراد العصيان، والله لا يُكره أحداً
على الطاعة ولا المعصية.
خاتمة
إن النقاش حول "لماذا خلق الله
العصاة؟" يكشف عن خلل أعمق من مجرد الإشكال الظاهري، إنه يعكس سوء
فهم لفلسفة وجود الإنسان ودور الدين في حياته. فالله لم يخلق
الإنسان ليكون أداة بيد القدر، بل خلقه ليكون فاعلاً حرّاً، عاقلاً،
مسؤولاً، قادراً على صناعة مصيره بإرادته. هذه الحرية ليست عبئاً
وجودياً، بل أعظم تكريم إلهي للإنسان، بها يتفاضل الخلق، وبها
يُحاسب الإنسان ويُكرم أو يُهان.
ومن هنا، فإن النظر إلى الدين
بوصفه مجموعة أوامر ونواهٍ تُفرض على الإنسان من الخارج، يُعد فهماً
قاصراً. الدين في حقيقته مشروع بناء الإنسان الكامل، وإعداده لرحلة
وُجد لأجلها، تبدأ في الأرض وتمتد إلى الأبد. فالمعادلة ليست بين
"الله والعاصي" كما يتوهم البعض، بل بين الإنسان وقراراته، بين ما
هو كائن وما يجب أن يكون.
لذلك، لا بد أن يُعيد الإنسان
نظرته إلى الحياة، لا بوصفها مسرحاً للعبث أو ساحة للإكراه، بل
مسؤولية وجودية كبرى، تحمّل فيها الإنسان الأمانة التي أبت السماوات
والأرض أن يحملنها. وعليه أن يفهم أن الدين ليس مجرد قواعد تعاقب من
يخالفها، بل هو خارطة طريق للهداية، تُرشد من أراد، وتدع من
أعرض.
وأمام هذا الوعي، تغدو الأسئلة من قبيل "لماذا خلق الله العصاة؟" أسئلة عابرة، تحلّ تلقائياً حين يعي الإنسان ذاته، ويدرك أنه محور التكليف، لا ضحية له. وهنا تبدأ رحلة التصحيح؛ تصحيح التصور، وتصحيح الإرادة، وتصحيح العلاقة مع الله ومع النفس ومع الوجود. فالفهم السليم للدين هو الخطوة الأولى نحو صلاح الإنسان في الدنيا ونجاته في الآخرة.
الأكثر قراءة
35913
19757