1 جمادي الاول 1447 هـ   23 تشرين الأول 2025 مـ 3:34 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | العدل |  مشكلة السلطة الكونية: لماذا يرفض الإنسان الخضوع لله؟
2025-09-28   161

مشكلة السلطة الكونية: لماذا يرفض الإنسان الخضوع لله؟

الشيخ باسم الحلي
بين الحرية والاستقلالية، تبرز إشكالية عميقة تتعلق بطبيعة الخضوع للسلطة الإلهية. هل يمثل الإيمان بالله والانقياد لأوامره قيداً على حرية الإنسان، أم أنه في حقيقته تحرير من قيود أكثر خطورة وعمقاً؟ هذه المعضلة الفلسفية تأخذنا إلى جوهر الصراع بين الرغبة في الاستقلال المطلق والحاجة إلى إطار أخلاقي ثابت.

نموذج الفيلسوف توماس ناجل يقدم لنا اعترافاً صادقاً وصريحاً بهذا الصراع الداخلي. يقول ناجل بوضوح: «أريد أن يكون الإلحاد حقيقيًا وأشعر بالانزعاج من حقيقة أن بعض الأشخاص الأكثر ذكاء واستنارة من الذين أعرفهم هم من الذين يؤمنون بالدين. لا يقتصر الأمر على أني لا أؤمن بالله، بل أيضا آمل أن أكون على صواب في اعتقادي. آمل ألا يكون هناك إله! ولا أريد أن يكون هناك إله، ولا أريد أن يكون الكون مخلوقا». هذا الاعتراف الصادق يكشف عن طبيعة نفسية عميقة في رفض فكرة الألوهية.

ناجل نفسه يشخص حالته بأنه يعاني من "مشكلة السلطة الكونية"، فهو لا يطيق فكرة وجود كائن أعلى خلق الكون ويدير شؤونه. هذا الموقف مفهوم من ناحية الدوافع الإنسانية، فالكثير منا يرغب في اتخاذ قراراته بنفسه، وتوجيه مسار حياته دون تدخل خارجي، وتحديد معاييره الأخلاقية وأهدافه دون أن يكون مسؤولاً أمام سلطة عليا.

لكن هذا التمرد على فكرة السلطة الإلهية لا يخلو من مشاكل جوهرية. فريدريك نيتشه، الفيلسوف الألماني الشهير، جسّد هذا التمرد في أقصى صوره عندما أعلن: «لقد كانت فكرة وجود الله إلى حد الآن تمثل الاعتراض الأكبر على الوجود، لذلك فإننا ننفي وجود الله.... وننفي المسؤولية التي يحملنا الله لها وبذلك فقط نخلص العالم». 

نيتشه اعتبر إنكاره لوجود الله بمثابة إعلان استقلال، ونبذ لكل القيود الدينية والأخلاقية. لكن محاولته للتحرر من هذه "القيود" قادته إلى تبني فلسفة أخلاقية مدمرة، حيث اعتبر أن "الخير" هو كل ما يجعل البشرية أقوى، و"الشر" كل ما جاء من ضعف. هذا المنطق المنحرف جعله يرى أن الأخلاق الدينية التي تحث على الرحمة والشفقة بالضعفاء ضارة بالبشرية، وأنه ينبغي مساعدة الانتقاء الطبيعي على القيام بعمله في إفناء الضعفاء.

وهذا التلازم بين رفض الانسان العبودية لله والخضوع له وبين طغيانه وسعيه للظلم أشار اليه القرآن الكريم بوضوح في قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) العلق: 6 ـ 7. فالرؤية هنا بمعنى الاعتقاد، فيكون المعنى أن الانسان اذا اعتقد بالاستغناء عن الله فإنه سيطغى، يقول العلامة الطباطبائي في تفسير الآية السابقة: «وجملة { أن رآه استغنى } في مقام التعليل أي ليطغى لأنه يعتقد نفسه مستغنياً عن ربه المنعم عليه فيكفر به، وذلك أنه يشتغل بنفسه والأسباب الظاهرية التي يتوصل بها إلى مقاصده فيغفل عن ربه من غير أن يرى حاجة منه إليه تبعثه إلى ذكره وشكره على نعمه فينساه ويطغى».
وفي مجمع البيان قصة تناسب المقام فقد «روي في سبب نزول قوله تعالى: { أرأيت الذي ينهى } الآية إن أبا جهل قال: هل يعفر محمد وجهه بين اظهركم؟ قالوا: نعم. قال: فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنَّ رقبته فقيل له: ها هو ذلك يصلِّي فانطلق ليطأ على رقبته فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه فقالوا: ما لك يا ابا الحكم؟ قال: إن بيني وبينه خندقاً من نار وهؤلاء اجنحة، وقال نبي الله: والذي نفسي بيده لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً فأنزل الله { أرأيت الذي ينهى } إلى آخر السورة». رواه مسلم في الصحيح. فلاحظ كيف غاضه تعبد النبي وتذلله لربه بتعفير وجهه!! 

المشكلة الأساسية في منطق الرفض هذا أنه يقوم على وهم كبير، وهو إمكانية تحقيق حرية مطلقة دون قيود أو مساءلة. لكن الواقع يثبت أن هذا مستحيل منطقياً وعملياً. في عالم يحدد فيه كل فرد هدفه وحقيقته وأخلاقه بشكل مستقل تماماً، ستنشأ حتماً تضارب في المصالح والقيم. إذا كان هدفي أو أخلاقي يؤذيك ويمنعك من تحقيق أهدافك، فأيهما أحق بالتطبيق؟

هذا السؤال يكشف عن استحالة قبول كل الآراء المتعارضة حول الأخلاق والحقيقة. فلو قبلنا هذا المبدأ، فلن يكون لدينا أساس منطقي للقول إن شخصاً مثل أدولف هتلر كان شريراً، ولن نجد مبرراً لإدانة الكذب أو شهادة الزور، لأن كل شخص سيعتبر اختياراته صحيحة بغض النظر عن تأثيرها على الآخرين.

الحقيقة الغائبة عن هؤلاء المفكرين أن الخضوع لله لا يمثل قيداً على الحرية، بل تحريراً من قيود أكثر خطورة. فالإنسان الذي يرفض السلطة الإلهية لا يصبح حراً حقاً، بل يقع أسيراً لسلطات أخرى أكثر استبداداً: سلطة الأهواء النفسية، وسلطة الضغوط الاجتماعية، وسلطة المصالح المادية، وسلطة الخوف من المجهول. قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) الجاثية: 23.

الله في الفهم الصحيح للدين ليس ديكتاتوراً يسلب الإنسان حريته، بل هو من وهب الإنسان حرية الاختيار من الأساس. نحن لسنا دمىً مسيّرة، بل كائنات مختارة نتحمل مسؤولية خياراتنا. والله لا يجبرنا على طاعته، بل يدعونا إليها لأنها في مصلحتنا. (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) الانسان: 3.
عندما يخضع الإنسان لله طواعية، فإنه يتحرر من عبودية النفس وأهوائها المدمرة. يصبح قادراً على اتخاذ قرارات مبنية على معايير ثابتة وعادلة، وليس على نزوات متقلبة أو مصالح ضيقة. يجد في هذا الخضوع إطاراً أخلاقياً يحميه من الانحراف، ومنظومة قيمية تعطي معنى لحياته.

أما الإنسان الذي يسعى للحرية المطلقة، فإنه في النهاية يقع في أسر قيود أكثر شراسة. يصبح عبداً لشهواته، أسيراً لمخاوفه، تائهاً في متاهة الخيارات اللانهائية دون بوصلة أخلاقية تهديه.

الأمر الأكثر إثارة للتساؤل هو استمرار "مشكلة السلطة الكونية" حتى مع الفهم الصحيح لطبيعة الله. إذا كان الله غفوراً رحيماً، صالحاً عادلاً، أميناً صادقاً محباً، فلماذا العناد في رفض سلطته؟ لماذا نصر على عدم وجود إله بهذه الصفات؟

الجواب يكمن في الكبر الإنساني والرغبة في أن نكون آلهة أنفسنا. نريد أن نحدد الخير والشر بأنفسنا، أن نضع القوانين التي تناسبنا، أن نكون المرجعية العليا في حياتنا. لكن هذا الطموح المدمر يقودنا في النهاية إلى الفوضى الأخلاقية والضياع الروحي.

خلاصة القول
الخضوع لله ليس استعباداً بل تحرير، وليس قيداً بل انطلاق نحو الحرية الحقيقية. إنه تحرر من طغيان النفس وعبودية الشهوات وأسر الأهواء. في هذا الخضوع يجد الإنسان كرامته الحقيقية، وفي هذه العبودية لله يكتشف حريته الأصيلة.

أما السعي للاستقلال المطلق عن السلطة الإلهية، فهو في حقيقته طريق إلى عبوديات أخرى أكثر مذلة وأشد قسوة. إنه وهم الحرية الذي يقود إلى أسر الذات وضياع البوصلة الأخلاقية التي تهدي الإنسان إلى بر الأمان.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م