

| الإسلام ... حياة | الإسلام المغيَّب: أزمة الوعي السياسي وخيارات الأمة المعاصرة
2025-08-20 70

الإسلام المغيَّب: أزمة الوعي السياسي وخيارات الأمة المعاصرة
الشيخ معتصم السيد أحمد
حين نحلّل المشهد السياسي الراهن
في العالم الإسلامي، تتبدى أمامنا صورة غامضة تفتقر إلى الملامح
الإسلامية الحقيقية. فالإسلام، الذي من المفترض أن يكون نظاماً
متكاملاً لإدارة شؤون الحياة، تم استبعاده من دائرة الفعل السياسي،
واختُزل إلى هوية رمزية أو إطار شعاري لا يتجاوز البُعد العاطفي
والانتماء العام. لقد رضيت المجتمعات الإسلامية ـ في أغلبها ـ بأن
يكون الإسلام مجرد عنوان ثقافي، يُذكر في المناسبات، ويُستحضر في
الشعارات، دون أن يُفعّل كمشروع حضاري حاكم.
هذا الحضور الشكلي للإسلام، إنما
يقوم على تأكيد المبادئ العقائدية العامة والالتزام ببعض العبادات
والمعاملات الفردية، دون الغوص في المضمون الفلسفي والسياسي العميق
لتلك العقائد، أو التفاعل الجاد مع الأبعاد الحضارية والتشريعية
للإسلام. وهكذا غابت المعاني الكبرى للدين عن الحياة العامة،
وانفصلت الأمة عن المفهوم الكلي للإسلام كنظام شامل.
وهكذا سادت في البلاد الإسلامية
أنظمة سياسية لا تنتمي إلى الإسلام لا شكلاً ولا مضموناً، وأصبحت
العلمانية، التي تفصل الدين عن الدولة، هي النموذج السائد. وما
يُثير القلق أن هذا الانفصال لم يُواجه برفض داخلي واسع، بل قبِل به
وعي الأمة في معظم تجلياته، وكأنّ الإسلام لم يعد خياراً سياسياً
مطروحاً أو ممكناً.
فالأمة لم تشعر بتناقض بين إيمانها
بالإسلام من جهة، وبين تبنيها لأنماط سياسية مستوردة من اليمين أو
اليسار من جهة أخرى، حتى التيارات ذات الخلفيات الإلحادية ـ
كالأحزاب الشيوعية ـ وجدت لها موطئ قدم في أكثر من بلد إسلامي،
وتفاعل معها الناس دون أدنى شعور بالتنافر مع معتقداتهم. هذه الحالة
تكشف بوضوح عن انفصام حادّ بين الهوية الدينية للأمة، وبين خياراتها
السياسية.
إن هذا الواقع لا يمكن فهمه بمعزل
عن طبيعة الوعي الذي تحمله الأمة عن الإسلام. فحصر الدين في الجانب
التعبدي الفردي، دون الالتفات إلى رؤيته الشاملة للثقافة والسياسة
والحكم، هو تعبير صارخ عن خلل عميق في فهم الدين نفسه. وهذا ما
يستدعي مشروعاً معرفياً شاملاً، يعيد تقديم الإسلام بوصفه نصاً
حياً، قادراً على التفاعل مع تطلعات الإنسان المعاصر، وليس مجرد
منظومة تاريخية نلجأ إليها للتعزية أو التبرير.
في هذا السياق، ظهرت بعض المحاولات
لإحياء المشروع السياسي للإسلام، لكن أغلبها ظلّ مشوشاً، غامض
المعالم، متفاوتاً في الرؤية والمنهج. وقد انعكس هذا الاضطراب في
التباينات الحادة بين الحركات الإسلامية، التي فشلت ـ في الغالب ـ
في إقناع الأمة بمشروعها السياسي، رغم أن المنطق الطبيعي يفترض أن
يكون التيار الإسلامي هو الأكثر حضوراً وتأثيراً، بما أنه يُعبّر عن
هوية الغالبية.
وقد دفعت هذه المفارقة بعض
التيارات إلى تبني الإسلام السياسي كردّ فعل على تدهور الواقع،
فرفضت كل ما هو قائم، واتهمت الأمة نفسها بالتخلي عن الإسلام، وذهبت
للبحث في التاريخ عن إسلامٍ مفقود. وهكذا نشأت حركات متطرفة، سعت
لتبرئة الإسلام من إخفاقات الواقع، وألقت باللوم على الأمة التي
اختارت غيره. وفي محاولة لتصحيح المسار، عمدت تلك التيارات إلى
إحياء التجارب التاريخية، واعتبارها نماذج يُحتذى بها، لا سيما
الخلافة الإسلامية، التي جرى التعامل معها كمشروع بديل للديمقراطية
والحكم المعاصر.
غير أن هذه العودة إلى الماضي لم
تكن بريئة من التناقض. فالإشادة بالتراث التاريخي في الحكم الإسلامي
تعني بالضرورة الإدانة للحاضر، وتؤسس لقطيعة داخلية يعيشها المسلم
المعاصر، حيث يشعر بأنه لا يستطيع أن يكون مسلماً بحقّ، إلا إذا
تمثّل ماضياً لم يعشه، وانفصل عن واقعٍ يحيطه من كل الجهات. ومن هنا
نشأت أزمة الانفصال بين الدين والواقع: فمن أراد الدين غاب عن
الحياة، ومن أراد الحياة غاب عن الدين.
وقد غذّى الخطاب السلفي هذا
الانفصام، حتى صار الإسلام التاريخي هو الصوت الأعلى، وصار الحديث
عن "إحياء الخلافة" دعوة شائعة، رغم ما تحمله من تناقضات، ليس فقط
مع الواقع السياسي، بل مع قيم الإسلام نفسه، التي تُقدّم الإنسان
كفاعل في واقعه لا كمنسحب إلى ظلال التاريخ. إن بروز جماعات كطالبان
وداعش وغيرها من التيارات الراديكالية، ما هو إلا انعكاس لحالة من
الهروب من الحاضر إلى الماضي، لا يمكن فهمها دون قراءة في النفسية
الجماعية، وفي الثقافة التي كرّست هذا الاتجاه، وأيضاً في التوظيف
السياسي لهذه الجماعات.
لأجل ذلك كله، فإن أي مشروع سياسي
إسلامي معاصر لن يكون ذا جدوى ما لم يُراجع بشكل جذري الوعي
التاريخي للدين، ويخوض عملية نقد للتجارب السياسية الماضية، التي
غالباً ما اتسمت بالاستبداد واستغلال الدين لأغراض السلطة. فمن
المفارقات المحزنة أن الأمة الإسلامية ـ رغم وعيها بفشل التجارب
السياسية ذات الصبغة الدينية، خصوصاً في العهدين الأموي والعباسي ـ
لا تزال تنظر إلى تلك العهود بعين التبجيل، وترفض مناقشتها
نقدياً.
بل إن كثيراً من الحركات الإسلامية
بنت تصوراتها على تلك النماذج التاريخية، ودعت إلى إعادة إنتاجها
كما هي، دون أن تلتفت إلى أنها في جوهرها نماذج سلطوية عصبوية،
أقامت أنظمة حكم جائرة تحت راية الدين. ولذلك، لم يكن مستغرباً أن
تتعامل بعض الشعوب مع الأنظمة السياسية القائمة في العالم الإسلامي
اليوم، لا باعتبارها حالة شاذة أو طارئة عن الإسلام، بل بوصفها
استمراراً طبيعياً لإرث سياسي تاريخي لم يُخضع للمراجعة أو النقد،
وبقي يُقدَّس باسم الدين. فغياب التفكيك المعرفي لذلك التراث، وتجنب
مساءلته، ساعد في ترسيخ أنماط من الحكم لا تستند إلى قيم الإسلام
الحقيقية، لكنها ما تزال تُمنح غطاءً دينياً مستمداً من التجارب
الماضية.
والمثال المعاصر الصارخ على ذلك ما
جرى في سوريا، فبعد سقوط حكومة بشار الأسد على يد "هيئة تحرير
الشام" (جبهة النصرة سابقاً) بقيادة أحمد الشرع المعروف بـ"أبو محمد
الجولاني"، رأينا كيف رفعت جماعاته في دمشق شعار الدولة الأموية،
وتحدث عدد من أفراده في مقاطع مصورة عن ضرورة إعادة العهد الأموي،
كأنما هو النموذج السياسي الأمثل للإسلام، متجاهلين ما مثّله ذلك
العهد من انحرافات حادة عن القيم ومبادئ العدالة، ومشرعنين بذلك
إعادة إنتاج تاريخ سلطوي لا علاقة له بجوهر الإسلام في الحكم
والسلطة.
إن الخروج من هذا المأزق يتطلب
فهماً جديداً للإسلام، لا يفصل بين هويته الدينية ومشروعه الحضاري،
ولا يكتفي بإحياء الماضي أو استدعاء النموذج التاريخي، بل يعمل على
صياغة رؤية سياسية معاصرة، تستند إلى النص الديني، وتجيب على تحديات
الواقع، وتتفاعل مع أسئلة العصر من داخل المرجعية الإسلامية، لا من
هوامشها أو من خارجها.
في ضوء هذا التحليل، يتضح أن أزمة
الخيارات السياسية في العالم الإسلامي ليست وليدة عوامل خارجية
فحسب، بل هي انعكاس مباشر لخلل عميق في وعي الأمة بذاتها ودينها
وتاريخها. فقد تخلّت الأمة، في كثير من الأحيان، عن مشروعها الحضاري
الحقيقي، واستعاضت عنه إما بنماذج غربية دخيلة أو بإحياء مشوّه
لتجارب تاريخية لم تكن تمثل روح الإسلام، بل كانت في كثير من
الأحيان غطاءً للاستبداد والاستغلال باسم الدين.
إن استعادة الإسلام كمشروع سياسي
وثقافي وحضاري لا يمكن أن تتم دون مراجعة جادة وشجاعة لذلك التراث،
ودون تحرير العقل الإسلامي من أسر الماضي وتناقضات الحاضر. فالمطلوب
اليوم ليس اجترار نموذج الخلافة كما كان، ولا الذوبان في تجارب
الآخرين، بل بناء رؤية سياسية جديدة تستلهم النص الديني بروح
معاصرة، وتستجيب لتحديات الواقع دون أن تنفصل عن القيم الإسلامية
الأصيلة.
عندها فقط يمكن للأمة أن تعيد وصل
ما انقطع، وأن تستعيد قدرتها على إنتاج نموذجها الخاص في الحكم
والحياة، نموذج لا يقوم على الشعارات أو التبجيل الأعمى، بل على وعي
حيّ، ومسؤولية أخلاقية، وصدق في الانتماء.
الإسلام المغيَّب: أزمة الوعي
السياسي وخيارات الأمة المعاصرة
الشيخ معتصم السيد أحمد
حين نحلّل المشهد السياسي الراهن
في العالم الإسلامي، تتبدى أمامنا صورة غامضة تفتقر إلى الملامح
الإسلامية الحقيقية. فالإسلام، الذي من المفترض أن يكون نظاماً
متكاملاً لإدارة شؤون الحياة، تم استبعاده من دائرة الفعل السياسي،
واختُزل إلى هوية رمزية أو إطار شعاري لا يتجاوز البُعد العاطفي
والانتماء العام. لقد رضيت المجتمعات الإسلامية ـ في أغلبها ـ بأن
يكون الإسلام مجرد عنوان ثقافي، يُذكر في المناسبات، ويُستحضر في
الشعارات، دون أن يُفعّل كمشروع حضاري حاكم.
هذا الحضور الشكلي للإسلام، إنما
يقوم على تأكيد المبادئ العقائدية العامة والالتزام ببعض العبادات
والمعاملات الفردية، دون الغوص في المضمون الفلسفي والسياسي العميق
لتلك العقائد، أو التفاعل الجاد مع الأبعاد الحضارية والتشريعية
للإسلام. وهكذا غابت المعاني الكبرى للدين عن الحياة العامة،
وانفصلت الأمة عن المفهوم الكلي للإسلام كنظام شامل.
وهكذا سادت في البلاد الإسلامية
أنظمة سياسية لا تنتمي إلى الإسلام لا شكلاً ولا مضموناً، وأصبحت
العلمانية، التي تفصل الدين عن الدولة، هي النموذج السائد. وما
يُثير القلق أن هذا الانفصال لم يُواجه برفض داخلي واسع، بل قبِل به
وعي الأمة في معظم تجلياته، وكأنّ الإسلام لم يعد خياراً سياسياً
مطروحاً أو ممكناً.
فالأمة لم تشعر بتناقض بين إيمانها
بالإسلام من جهة، وبين تبنيها لأنماط سياسية مستوردة من اليمين أو
اليسار من جهة أخرى، حتى التيارات ذات الخلفيات الإلحادية ـ
كالأحزاب الشيوعية ـ وجدت لها موطئ قدم في أكثر من بلد إسلامي،
وتفاعل معها الناس دون أدنى شعور بالتنافر مع معتقداتهم. هذه الحالة
تكشف بوضوح عن انفصام حادّ بين الهوية الدينية للأمة، وبين خياراتها
السياسية.
إن هذا الواقع لا يمكن فهمه بمعزل
عن طبيعة الوعي الذي تحمله الأمة عن الإسلام. فحصر الدين في الجانب
التعبدي الفردي، دون الالتفات إلى رؤيته الشاملة للثقافة والسياسة
والحكم، هو تعبير صارخ عن خلل عميق في فهم الدين نفسه. وهذا ما
يستدعي مشروعاً معرفياً شاملاً، يعيد تقديم الإسلام بوصفه نصاً
حياً، قادراً على التفاعل مع تطلعات الإنسان المعاصر، وليس مجرد
منظومة تاريخية نلجأ إليها للتعزية أو التبرير.
في هذا السياق، ظهرت بعض المحاولات
لإحياء المشروع السياسي للإسلام، لكن أغلبها ظلّ مشوشاً، غامض
المعالم، متفاوتاً في الرؤية والمنهج. وقد انعكس هذا الاضطراب في
التباينات الحادة بين الحركات الإسلامية، التي فشلت ـ في الغالب ـ
في إقناع الأمة بمشروعها السياسي، رغم أن المنطق الطبيعي يفترض أن
يكون التيار الإسلامي هو الأكثر حضوراً وتأثيراً، بما أنه يُعبّر عن
هوية الغالبية.
وقد دفعت هذه المفارقة بعض
التيارات إلى تبني الإسلام السياسي كردّ فعل على تدهور الواقع،
فرفضت كل ما هو قائم، واتهمت الأمة نفسها بالتخلي عن الإسلام، وذهبت
للبحث في التاريخ عن إسلامٍ مفقود. وهكذا نشأت حركات متطرفة، سعت
لتبرئة الإسلام من إخفاقات الواقع، وألقت باللوم على الأمة التي
اختارت غيره. وفي محاولة لتصحيح المسار، عمدت تلك التيارات إلى
إحياء التجارب التاريخية، واعتبارها نماذج يُحتذى بها، لا سيما
الخلافة الإسلامية، التي جرى التعامل معها كمشروع بديل للديمقراطية
والحكم المعاصر.
غير أن هذه العودة إلى الماضي لم
تكن بريئة من التناقض. فالإشادة بالتراث التاريخي في الحكم الإسلامي
تعني بالضرورة الإدانة للحاضر، وتؤسس لقطيعة داخلية يعيشها المسلم
المعاصر، حيث يشعر بأنه لا يستطيع أن يكون مسلماً بحقّ، إلا إذا
تمثّل ماضياً لم يعشه، وانفصل عن واقعٍ يحيطه من كل الجهات. ومن هنا
نشأت أزمة الانفصال بين الدين والواقع: فمن أراد الدين غاب عن
الحياة، ومن أراد الحياة غاب عن الدين.
وقد غذّى الخطاب السلفي هذا
الانفصام، حتى صار الإسلام التاريخي هو الصوت الأعلى، وصار الحديث
عن "إحياء الخلافة" دعوة شائعة، رغم ما تحمله من تناقضات، ليس فقط
مع الواقع السياسي، بل مع قيم الإسلام نفسه، التي تُقدّم الإنسان
كفاعل في واقعه لا كمنسحب إلى ظلال التاريخ. إن بروز جماعات كطالبان
وداعش وغيرها من التيارات الراديكالية، ما هو إلا انعكاس لحالة من
الهروب من الحاضر إلى الماضي، لا يمكن فهمها دون قراءة في النفسية
الجماعية، وفي الثقافة التي كرّست هذا الاتجاه، وأيضاً في التوظيف
السياسي لهذه الجماعات.
لأجل ذلك كله، فإن أي مشروع سياسي
إسلامي معاصر لن يكون ذا جدوى ما لم يُراجع بشكل جذري الوعي
التاريخي للدين، ويخوض عملية نقد للتجارب السياسية الماضية، التي
غالباً ما اتسمت بالاستبداد واستغلال الدين لأغراض السلطة. فمن
المفارقات المحزنة أن الأمة الإسلامية ـ رغم وعيها بفشل التجارب
السياسية ذات الصبغة الدينية، خصوصاً في العهدين الأموي والعباسي ـ
لا تزال تنظر إلى تلك العهود بعين التبجيل، وترفض مناقشتها
نقدياً.
بل إن كثيراً من الحركات الإسلامية
بنت تصوراتها على تلك النماذج التاريخية، ودعت إلى إعادة إنتاجها
كما هي، دون أن تلتفت إلى أنها في جوهرها نماذج سلطوية عصبوية،
أقامت أنظمة حكم جائرة تحت راية الدين. ولذلك، لم يكن مستغرباً أن
تتعامل بعض الشعوب مع الأنظمة السياسية القائمة في العالم الإسلامي
اليوم، لا باعتبارها حالة شاذة أو طارئة عن الإسلام، بل بوصفها
استمراراً طبيعياً لإرث سياسي تاريخي لم يُخضع للمراجعة أو النقد،
وبقي يُقدَّس باسم الدين. فغياب التفكيك المعرفي لذلك التراث، وتجنب
مساءلته، ساعد في ترسيخ أنماط من الحكم لا تستند إلى قيم الإسلام
الحقيقية، لكنها ما تزال تُمنح غطاءً دينياً مستمداً من التجارب
الماضية.
والمثال المعاصر الصارخ على ذلك ما
جرى في سوريا، فبعد سقوط حكومة بشار الأسد على يد "هيئة تحرير
الشام" (جبهة النصرة سابقاً) بقيادة أحمد الشرع المعروف بـ"أبو محمد
الجولاني"، رأينا كيف رفعت جماعاته في دمشق شعار الدولة الأموية،
وتحدث عدد من أفراده في مقاطع مصورة عن ضرورة إعادة العهد الأموي،
كأنما هو النموذج السياسي الأمثل للإسلام، متجاهلين ما مثّله ذلك
العهد من انحرافات حادة عن القيم ومبادئ العدالة، ومشرعنين بذلك
إعادة إنتاج تاريخ سلطوي لا علاقة له بجوهر الإسلام في الحكم
والسلطة.
إن الخروج من هذا المأزق يتطلب
فهماً جديداً للإسلام، لا يفصل بين هويته الدينية ومشروعه الحضاري،
ولا يكتفي بإحياء الماضي أو استدعاء النموذج التاريخي، بل يعمل على
صياغة رؤية سياسية معاصرة، تستند إلى النص الديني، وتجيب على تحديات
الواقع، وتتفاعل مع أسئلة العصر من داخل المرجعية الإسلامية، لا من
هوامشها أو من خارجها.
في ضوء هذا التحليل، يتضح أن أزمة
الخيارات السياسية في العالم الإسلامي ليست وليدة عوامل خارجية
فحسب، بل هي انعكاس مباشر لخلل عميق في وعي الأمة بذاتها ودينها
وتاريخها. فقد تخلّت الأمة، في كثير من الأحيان، عن مشروعها الحضاري
الحقيقي، واستعاضت عنه إما بنماذج غربية دخيلة أو بإحياء مشوّه
لتجارب تاريخية لم تكن تمثل روح الإسلام، بل كانت في كثير من
الأحيان غطاءً للاستبداد والاستغلال باسم الدين.
إن استعادة الإسلام كمشروع سياسي
وثقافي وحضاري لا يمكن أن تتم دون مراجعة جادة وشجاعة لذلك التراث،
ودون تحرير العقل الإسلامي من أسر الماضي وتناقضات الحاضر. فالمطلوب
اليوم ليس اجترار نموذج الخلافة كما كان، ولا الذوبان في تجارب
الآخرين، بل بناء رؤية سياسية جديدة تستلهم النص الديني بروح
معاصرة، وتستجيب لتحديات الواقع دون أن تنفصل عن القيم الإسلامية
الأصيلة.
عندها فقط يمكن للأمة أن تعيد وصل
ما انقطع، وأن تستعيد قدرتها على إنتاج نموذجها الخاص في الحكم
والحياة، نموذج لا يقوم على الشعارات أو التبجيل الأعمى، بل على وعي
حيّ، ومسؤولية أخلاقية، وصدق في الانتماء.
الأكثر قراءة
33734
19573