
| الإسلام ... حياة | موالاة الكفار: النبوءة القرآنية وواقع المسلمين اليوم
2025-12-04 33

موالاة الكفار: النبوءة القرآنية وواقع المسلمين اليوم
الشيخ مقداد الربيعي
يقدم العلامة الطباطبائي في تفسيره
"الميزان" قاعدة مهمة مفادها: أن تأكيد القرآن الكريم المتكرر على
أمور قد تبدو بسيطة في ظاهرها، إنما هو نبوءة قرآنية بوقوع هذه
الأمور حتماً في المستقبل. فالتأكيد القرآني ليس عبثاً، بل هو تحذير
استباقي مما سيحدث لا محالة.
ونجد مصاديق واضحة لهذه القاعدة في
عدة مواضع: فقد أكد القرآن على ضرورة مودة أهل البيت عليهم السلام
في وقت كانت الأمة تعظمهم وتحبهم، لكن المستقبل كشف عن حكمة هذا
التأكيد حين وقع عليهم الظلم. وكذلك حذّر القرآن من الاختلاف بين
المسلمين وهم يعيشون أشد حالات الوحدة والأخوة، ثم تحقق التحذير
بافتراقهم إلى ثلاث وسبعين فرقة، متجاوزين في تشتتهم ما وقع لليهود
والنصارى. وكذلك نهى عن الحكم بغير ما أنزل الله، وعن الطغيان، وعن
إلقاء الاختلاف بين الطبقات، وعن اتباع الهوى، وشدد في هذه النواهي،
ثم وقع ما وقع.
التشديد القرآني في النهي عن
موالاة غير المسلمين
من أبرز الأمور التي حذر منها
القرآن بصورة متكررة ومشددة "موالاة الكفار وأهل الكتاب"، بل ليس من
البعيد القول بأن التشديد الواقع في هذا النهي لا يعادله أي تشديد
في سائر النواهي الفرعية.
وقد بلغ الأمر أن عدّ الله سبحانه
من يوالي أهل الكتاب والكفار منهم، فقال: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾، ونفاهم من نفسه بقوله: ﴿وَمَنْ
يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ (آل عمران: 28)،
وحذرهم أبلغ التحذير فقال مرة بعد أخرى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ
نَفْسَهُ﴾ (آل عمران: 28-30). وبناءً على القاعدة التي نبه عليها
الطباطبائي، فإن مدلول هذه الآيات مما سيقع حتماً لا مبدل له ولا
محول.
لكن ما المراد من موالاة الكافرين
في المقام؟
الأخطار التي تواجه الشرائع
السماوية
بعد أن كان المؤمنون يخشون زوال
دينهم إما بقتل النبي صلى الله عليه وآله أو بالقضاء على المسلمين
بالتعذيب والحروب، طمأنهم القرآن بزوال هذا الخطر بعد أن قويت
شوكتهم في السنة العاشرة للهجرة، فأنزل الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ
يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ
وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾
(المائدة: 3).
لكن هذا لا يعني زوال الخطر
تماماً، فالشرائع السماوية تواجه عادة نوعين من الأخطار:
الخطر الأول: خطر وجودي يهدد أصل
التنزيل، يتمثل في محاولات المنكرين القضاء على الدين، وهو ما حصل
في حياة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وقد زال هذا الخطر بآية
إكمال الدين.
الخطر الثاني: خطر التأويلات
والتفسيرات الخاطئة للدين، أي تشويه الشريعة وانحرافها عن صراطها
المستقيم. ولذا كانت مهمة الأئمة عليهم السلام الأولى حفظ الدين
ودفع ما يلحق به من انحرافات.
وقد ورد من طريق العامة والخاصة
قول النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام بأنه يقاتل على
التأويل كما كان هو صلى الله عليه وآله يقاتل على التنزيل. فقد روى
أحمد والحاكم وغيرهما بالإسناد عن أبي سعيد الخدري قوله: «كنا
جلوساً ننتظر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فخرج علينا من
بعض بيوت نسائه، فقمنا معه فانقطعت نعله، فتخلف عليها علي يخصفها
فمضى رسول الله ومضينا معه، ثم قام ينتظره وقمنا معه، فقال: إن منكم
من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قاتلت على تنزيله، فاستشرفنا
وفينا أبو بكر وعمر، فقال: لا، ولكنه خاصف النعل. فجئنا نبشره،
وكأنه قد سمعه».
التحذير القرآني من التأويلات
المنحرفة
وقد حذر القرآن الكريم من خطر
التأويل المنحرف بقوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ
فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ.
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ
إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ
وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ. وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ
النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ
لَا تُنْصَرُونَ﴾ (هود: 110-113).
فكشف الكتاب أن ظاهرة التأويل
المنحرف قد سبقت في أمم سالفة، وحذر من تكرار تجربتهم التي تؤدي إلى
نار الذلة والفقر والصعوبات في الدنيا والعذاب في الآخرة. فلا ولي
للمؤمنين إلا الله سبحانه، ومن يوالي غيره لا يُكتب له النجاح:
﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا
تُنْصَرُونَ﴾.
وهذا هو الخطر الذي حذر منه القرآن
الكريم، فترك شريعة الاسلام والأخذ بقوانين غيره يمثل جوهر الانحراف
وموالاة غير المسلمين، وهذا ما نراه من محاولة البعض تطبيق الشرائع
والنظم الغربية في بلاد المسلمين والتي كان لها الأثر الكبير
والواضح في التفكك الأسري وشيوع مظاهر الانحلال والضعف في مختلف
مناحي الحياة.
ولا يفهم من كلامنا المتقدم أننا
ندعو للرجعية ورفض كل ما من شأنه التقدم وامتلاك اسباب التحضر،
وإنما المقصود أن الإسلام قد وضع أطراً عامة لا يجوز تجاوزها عند
وضع التشريعات والقوانين، وليس مبرراً أن تكون هذه الشرائع
والقوانين قد سادت في المجتمعات الغربية، لآثارها الظاهرة، ولكونها
غير مناسبة لمجتمعاتنا على تقدير كفايتها لهم.
سنة الله في تغيير النعم
وهذا الانحراف في مسار المجتمع
أعني موالاة الكافرين يقابله الجزاء المحتوم، ومن المعلوم أن الله
سبحانه لا يفاجئ قوماً بنقمة أو عذاب من غير أن يستحقوه، قال تعالى:
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا
عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الأنفال:
53)، فبيّن أن تغييره للنعمة لا يكون إلا عن استحقاق، وأنه يتبع
تغيير الناس ما بأنفسهم. وقد سمى الدين أو الولاية الدينية نعمة حيث
قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾
(المائدة: 3).
فتغيير هذه النعمة من قبلهم،
والتخطي عن ولاية الله بقطع الرابطة معه، والركون إلى الظالمين،
وموالاة الكفار وأهل الكتاب هو المتوقع منهم حسب التحذيرات
القرآنية. والواجب عليهم أن يخشوا ذلك على أنفسهم فيخشوا الله في
سخطٍ لا راد له. وقد توعدهم بقوله: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ﴾ (المائدة: 51)، فأخبر أنه لا يهديهم إلى سعادتهم،
وسعادتهم في الدنيا إنما هي أن يعيشوا على سنة الدين والسيرة
الإسلامية في مجتمعهم.
واقع المجتمع الإسلامي
المعاصر
وإذا انهدمت بنية هذه السيرة
الدينية الإسلامية، اختلت مظاهرها الحافظة لمعناها من الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وسقطت شعائره العامة، وحلت محلها سيرة
الكفار التي لم تزل تستحكم أركانها وتستثبت قواعدها. وهذا هو الواقع
الذي عليه مجتمع المسلمين اليوم.
ولو تدبرت في السيرة الإسلامية
العامة التي ينظمها الكتاب والسنة، ثم في هذه السيرة الفاسدة التي
حُملت اليوم على المسلمين، ثم تدبرت في قوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ
يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾ (المائدة: 54)،
لوجدت أن جميع الرذائل التي تحيط بمجتمعنا معاشر المسلمين اليوم -
مما اقتبسناها من الكفار ثم نمت وتكاثرت فينا - إنما هي أضداد ما
ذكره الله في وصف القوم الموعودين.
فجميع رذائلنا الفعلية تتلخص في أن
المجتمع اليوم لا يحب الله ولا يحبه الله، أذلة على الكافرين، أعزة
على المؤمنين، لا يجاهدون في سبيل الله، يخافون كل لومة.
وهذا هو الذي تفرسه القرآن في وجه
القوم، وإن شئت فقل: هو النبأ الغيبي الذي أنبأ به العليم الخبير
بأن المجتمع الإسلامي سيوالي الكافرين في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (المائدة: 51)، وقوله: ﴿وَلَوْ كَانُوا
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا
اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾
(المائدة: 81).
الوعد الإلهي المشروط
بالنصر
وقد وعد الله المسلمين بالنصر إن
نصروه، وبتضعيف أعدائهم إن لم يقووهم ويؤيدوهم، فقال: ﴿إِنْ
تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ (محمد: 7)، وقال: ﴿وَلَوْ آمَنَ
أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ
وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى
وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا
يُنْصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا
إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران:
112). وليس من البعيد أن يُستفاد من قوله: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ
اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ أن لهم أن يخرجوا من الذلة والمسكنة
بموالاة الناس لهم وتسليط الله تعالى إياهم على الناس.
الوعد بالقوم الصالحين
ثم وعد الله سبحانه المجتمع
الإسلامي - وشأنهم هذا الشأن - بالإتيان بقوم يحبهم ويحبونه، أذلة
على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله لا يخافون
لومة لائم. والأوصاف المعدودة لهم - كما عرفت - جماع الأوصاف التي
يفقدها المجتمع الإسلامي اليوم. ويُستفاد بالإمعان في التدبر فيها
تفاصيل الرذائل التي تنبئ الآية بأن المجتمع الإسلامي سيبتلى
بها.
الأكثر قراءة
37309
19931


