26 ذو القعدة 1446 هـ   23 أيار 2025 مـ 2:09 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | أحكام مجتمعية |  الإجهاض بين الرؤية الدينية والفلسفة المادية
2025-04-26   166

الإجهاض بين الرؤية الدينية والفلسفة المادية

الشيخ معتصم السيد أحمد
يثير موضوع الإجهاض جدلاً واسعاً في الأوساط الفكرية والدينية والقانونية، إذ تتقاطع فيه أسئلة الهوية الإنسانية، والحقوق الفردية، والمسؤولية الأخلاقية. وغالباً ما يُصوَّر موقف الأديان من هذه المسألة وكأنه حكم قطعي جامد، لا يراعي تفاصيل الواقع ولا يتفهم تعقيدات الحالات الإنسانية، فيُقال: إن البويضة طفل، وإن الإجهاض جريمة قتل، وكأن الحوار قد انتهى بمجرد إطلاق هذا الحكم. لكن هل هذا التصور دقيق فعلاً؟ وهل الموقف الديني من الإجهاض يخلو من التدرج والتفصيل والرحمة؟

في الواقع، إن الإجهاض في نظر الأديان السماوية ليس حكماً طارئاً أو منفصلاً عن منظومة متكاملة من القيم، بل هو امتداد لفهم خاص للإنسان والحياة والكرامة. فكل الأديان الكبرى تنظر إلى الجنين على أنه إنسان في طور التكون، وله حق أصيل في الحياة لا يجوز التعدي عليه بلا مبرر، تماماً كما لا يجوز قتل الإنسان البالغ. هذا الموقف لا ينبع من تجاهل للواقع أو تعنت أخلاقي، بل من تقدير عميق لقيمة الحياة نفسها، واعتبارها هبة إلهية لا يملك أحد حق سلبها. ولذلك فإن تحريم الإجهاض لا يُفهم كحكم متصلّب، بل كجزء من منظومة تصون الحياة من لحظة بدايتها.

ومع ذلك، لا يُنكر الدين أن الواقع أكثر تعقيداً من أن يُختزل في قاعدة واحدة. فحين تتعارض حياة الجنين مع حياة الأم، فإن الشريعة تُقدّم الحياة الفعلية على الحياة المحتملة، وتُجيز الإجهاض درءاً للخطر، واختياراً لأخف الضررين. وهذا يعكس مرونة أخلاقية لا تُفرّط بالقيم، ولا تُغفل أولوياتها. بل يمكن القول: إن هذه الاستثناءات في حد ذاتها دليل على إنسانية الحكم، لا نقض له.

وهنا يكمن الفرق بين الموقف الديني والموقف المادي من مسألة الإجهاض. فبينما يتأسس الأول على رؤية روحية ترى في الإنسان مخلوقاً مكرماً له قيمة جوهرية، لا تختزل في وعيه أو إحساسه، يتعامل الثاني مع الإنسان بوصفه كائناً بيولوجياً تطور عن غيره من الكائنات، ولا يتمتع بأي امتياز وجودي سوى ما تمنحه له قدراته البيولوجية. ولهذا، فإن الجنين في هذا التصور ليس أكثر من خلية حية لم تكتسب "الحق في الحياة" بعد، ولا مانع من إنهائها ما دامت لا تشعر بالألم، فالأمر معلق بإرادة الأم إن شاءت تركته وإن شاءت انهت حياته.

وقد عبّر عن هذا بوضوح ريتشارد دوكنز، حين قال إن الإجهاض ليس فعلاً غير أخلاقي ما دام لا يُسبب ألماً، بل ذهب إلى أن الجنين البشري أقل إنسانية من خنزير بالغ. هذا التصريح لا يعبر فقط عن تباين في القيم، بل عن انزياح كامل في تعريف "الإنسانية" ذاتها، من كونها جوهراً فطرياً إلى مجرد وظيفة عصبية أو حسية.

ومن هنا تتسع الفجوة بين المنهجين. فالمؤمن يرى في الإنسان كائناً نفخ الله فيه من روحه، واستخلفه في الأرض، وجعل له من الكرامة ما لا يقارن بأي كائن آخر. ولهذا، فإن الإجهاض لا يُرفض فقط لأنه ينهي حياةً لم تكتمل، بل لأنه يمسّ بجوهر التكريم الإلهي للإنسان. أما في المنظور المادي، فلا يبقى من هذا الجوهر شيء، بل يُنظر إلى الحياة كظاهرة بيولوجية قابلة للتصرف حسب الضرورة والمصلحة.

وليس من الغريب، والحال هذه، أن يكون الجدل حول الإجهاض أكثر حدة حين يُنظر إليه من زاويتين متناقضتين تماماً: الأولى تعتبر الإنسان مخلوقاً ذا قدسية، والثانية ترى فيه منتجاً للتطور الطبيعي بلا أي قيمة فوقية. وحين يُفقد الشعور بهذه القدسية، يصبح الجنين مشروع إنسان لا يُفكّر في مصيره إلا من خلال ما تريده الأم. 

في الختام، لا يمكن فهم الموقف من الإجهاض دون الرجوع إلى الجذور الفلسفية التي تحدد معنى الإنسان وقيمة الحياة. فحيث تكون الحياة مقدسة، يكون الإجهاض فعلاً خطيراً لا يُستباح إلا في أضيق الحدود. أما حين تُختزل الكرامة في القدرة على الإحساس أو الإنتاج، فإن الحياة تُعامل كخيار يمكن التنازل عنه. وهنا تتجلى أهمية الرؤية الدينية، لا في إصدار الأحكام فحسب، بل في الدفاع عن معنى الإنسان ذاته.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م