

| أحكام مجتمعية | الإنسانوية تختلس الإنسانية!
2025-06-10 179

الإنسانوية تختلس الإنسانية!
السيد علي العزام الحسيني
مفردة"الإنسانيّة" من الناحية
الأدبية هي مصدر مجعول من الإنسان، على غرار الوطنية من الوطن،
والحيوانية من الحيوان، وهكذا، ويقصد بهذا الإجراء التمحيض في الصفة
التي يحملها الاسم، وذلك يعني أنّ الإنسانية تشير إلى الإنسان من
حيث هو، وبما يحمله من قيم أوليّة طبيعيّة، يشترك فيها أبناء النوع
الإنساني، ويتفرّد بها عن الطبيعة البهيمية، إنّها معانٍ مطبوعة في
جوهر الضمير البشري لو جرّد عن اللواحق العارضة والصفات الطارئة.
وبهذا المعنى تشيع في زماننا الدعوة للقيم الإنسانيّة، ويتمّ تداول
مفردة "الإنسانيّة" للإشارة إلى معيار عام وأخلاقيات جامعة تحكم
سلوك البشر، ولوضع مرجعيّة لتقييم الأفعال والأشخاص، فيقال: هذا
العمل إنساني، وذاك غير إنساني، وفلان يقوم بعمل إنساني، وهذا مجتمع
غير إنساني، وذاك المجتمع إنساني.. وهكذا.
الدعوة للإنسانيّة تعني الدعوة
لقيم كونية شاملة، والاحتكام لأخلاق بمقاييس عالمية يرتضيها الجميع
بحكم أنّها غير منتمية لدين بعينه، ولا خاصّة بفئة من البشر، بل
منبثقة من الطبيعة الأولى للإنسان. يتداول الناس المفردة بحسن بنيّة
للإشارة إلى أخلاقيات الرحمة والعطاء والتعاون والعطف وغيرها من
معانٍ سامية وقيم نبيلة يتفرّد بها الكائن البشري على الحيوان. ومن
ثمّ فالمفردة عند معظم الناس لا تحيل إلى مذهب فكري خاص أو اتجاه
فلسفي، ولا تنطوي في دلالته على موقف سلبي من الدين والإيمان برب
العالمين، بل هذا المعنى غالبًا غير ملتفت إليه من قبلهم، مع أنّ
هناك رؤية مادية-إلحادية تختبئ خلف المفردة وتختلس القيم الإنسانية
لتمرّر أجنداتها من خلاله، ولا تتعاطى مع مفردة (الإنسانية) تعاطيًا
عفويًا بريئًا بقدر ما تشير به إلى مذهبها ورؤيتها، ومن ثمّ يخصّ
المذهب باسم بالإنسانوية دون الإنسانية التي أضحت مشتركًا بين
السياقين بما يوجب اللبس والخبط بين المعنيين.
ولو أردتُ تصوير الفرق بين الأمرين
فلن أجد صورة أقرب لما نحن فيه من الفرق الفارق بين العلم(Science)
من جهة، والعلمويّة (Scientism) من جهة أخرى، فالعلم بطبيعته محايد،
لا يقول في نفسه شيئًا عن المذاهب الفلسفية ولا ينتمي إلى المذاهب
الفكرية المختلفة، وأما العلموية فهي رؤية فلسفية غير محايدة، تزعم-
دون أي دليل علمي- أن ما لا يثبته العلم فلا حقيقة له!، ومن هنا
فالإضافة الصغيرة المتمثلة بالحروف الثلاثة (Ism) التي تقلب الأمور
وتغيّر المعنى، سواء في العلموية أم في الإنسانوية (Human-ism)، من
حيث إنّها دعوة إلى الإنسانية المنزوعة عن الإيمان بالخالق
والمستغنية عن الغيب.
إنّ الإنسانية
المستغنية(=الإنسانوية) هي مذهب فلسفي خاص، وعقيدة لها منظّرون
وجمعيات عالمية ومراكز أبحاث منتشرة في دول العالم المختلفة، تحمل
رؤية ماديّة صرفة عن الكون و الحياة والإنسان، وتسعى لتصدير رؤيتها
عبر مصطلح جديد لا ينطوي على سمعة سيئة و حمولة سلبية عند البشر،
إنّها تقوم على الرفض التام للغيب، والنفي الكلي لما وراء الطبيعة،
والإنكار المطلق للمطلق(الإله) وإحلال الإنسان(ببعده المادي) محله،
وإذ يسكّ هذا المذهب اسمه على الإنسانية وينحت لنفسه اسمًا منها
فإنّه وبلا شك يصادر المعاني الجبلية التي فطر الإنسان عليها والقيم
السامية التي أودعها الخالق في مخلوقه المكرّم.
ومذهب الإنسانوية -حسب منظروه-
يقوم على سبعة مبادئ، منها: عدم الإيمان بالله واليوم الآخر، ولسنا
نتقول عليهم ذلك، فهذا ستيفن لو مثلًا، وهو من دعاة هذا المذهب
المعاصرين، يقول دون مواربة ما نصّه: "الإنسانويون: إمّا ملحدون أو
على الأقل لا أدريون. إنّهم يتشككون في الزعم بوجود إله" وقرّر
أيضًا من غير مخاتلة في جملة مبادئ مذهبه: "الإيمان بأنّ هذه الحياة
هي الحياة الوحيدة لنا، فلا توجد حياة أخرى تعود فيها أرواحنا إلى
أجسادنا بعد موتنا. كما لا توجد جنة أو نار " ثمّ أضاف: تنطوي
الإنسانوية على إيمان شديد بوجود وأهميّة القيمة
الأخلاقيّة..(الإنسانوية،ص10ط: مؤسسة هنداوي، سنة 2016م).
وإذ يؤكّد هذا المذهب على إيمانه
الشديد بوجود القيم الأخلاقية وبأهيمتها، فإنّ السؤال الأهم الذي
يثور في وجه روّاده هو ما إذا كان بإمكان لمذهبهم أن ينهض في تشييد
رؤية فلسفية للمعاني الإنسانية متناسقة وبناء منظومة قيم أخلاقيّة
تحت مظلّة تتنكر للإيمان بالمطلق ولا تقرّ إلا بالحياة المادية؟!،
ويجب التوضيح إلى أنّنا لا نشير هنا إلى تقييم الأفراد أخلاقيًا،
فمما لا ينبغي المكابرة فيه أنّ هناك أفرادًا من المؤمنين ليسوا
أخيارًا، كما أنّ هناك لادينيين أو ملحدين على أخلاق، وإنّما الكلام
هنا عن أنّ القيم الأخلاقية تتسق مع الرؤية الإيمانية، فيما لا يسع
الإلحاد إذا أراد أن يتصالح مع نفسه أن ينهض في تأسيس وتبرير القيم
الإنسانية؛ بل حتى أخلاقيات اللاديني هي في الواقع ترجع في مصدرها
إلى الدين، دين ظهر في الماضي ثم اختفى في عالم النسيان، ولكنه ترك
بصماته قوية على الأشياء المحيطة، تؤثر وتشع من خلال الأسرة والأدب
والأفلام والطرُز المعمارية... إلخ. لقد غربت الشمس حقًا، ولكن
الدفء الذي يشعّ في جوف الليل مصدره شمس النهار السابق. (انظر:
الإسلام بين الشرق والغرب، ص209).
المهمّة في هذا الجانب تبدو
مستعصيّة، وشبه مستحيلة، وبين يدينا كلمات شذرية تلمح إلى عمق
المشكلة البنيوية التي تحيط بالإنسانوية في هذا الجانب، فكتب أشرس
الملحدين في عصرنا الراهن (ريتشارد دوكنز) يقول ما نصّه: "من الصعب
أن ندافع عن الأخلاقيات المطلقة على أسس غير دينية" (وهم الإله، ص
234)، وكان فوكوياما قد تساءل مشككًا في أن يكون هناك أساس
علماني(لاديني) للاعتقاد بأنّ البشر مؤهلون لمكانة أخلاقية خاصة أو
كرامة خاصة.( نهاية الإنسان،ص217). وعلى أي حال، فالإشكالية
النبيوية التي تواجه المذهب الإنساني بإيجاز في أنّ هناك قيمًا
إنسانية أخلاقية مطلقة كالعدل والخير والحقّ، يحتكم إليها الناس في
فكرهم وسلوكهم، ومعلوم أنّ تلك القيم لا بدّ لها من مصدر موجِد،
يكسيها الوجود وتستمد منه هذه الإطلاق. وكانت قد أعادت هذه الحجة
رئيس مشروع الجينوم البشري فرانسيس كولنز إلى الإيمان، وذكر أنّه
بسببها أدرك أنّ موقفه ضد الإيمان بالله مجرد أفكار طفولية، وأنّها
قد حطمت أفكاره عن العلم والإيمان من أساسها. (فرانسيس كولنز - لغة
الإله ص27 ، ط الأولى : 2016م).
والزبدة، إنّ قطع الصلة بالله
والدين والغيب بالكليّة، يفضي إلى وضع مرجعيّة بديلة تستلّ منها
الكرامة الإنسانية أو المكانة الساميّة التي يفرز عنها أخلاقيات
الرحمة والتعاطف والتعاون والإحسان للغير وهلم جرًا. وجميع البدائل
المتصوّرة في المقام- ككون القيم الإنسانية نابعة من الطبيعة
وبدوافع أنانية تطورية أو أنّها من مواضعات الاجتماع البشري-؛ تفتّ
من عضد القيم وتعدم معادلها الموضوعي في الخارج، وتلقي بها في غياهب
الوهم والنسبية، وتؤول بها إلى سراب بقيعة، فيما تسموا بها الرؤية
الدينية إلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وتوصل بينها وبين
الرحمة الإلهية، وقد ورد في الخبر: إنّ لله عزّ وجلّ مئةَ رحمة،
أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه، فبها يتعاطفون
ويتراحمون، وأخّر تسعا وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة.
(تفسير الصافي للكاشاني، ج1،ص82).
الأكثر قراءة
32420
19406
14915