19 جمادي الثاني 1446 هـ   21 كانون الأول 2024 مـ 3:54 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | الاقتصاد الإسلامي |  السوق حسب المنظور الإسلامي
2021-12-16   3105

السوق حسب المنظور الإسلامي

يمتاز السوق حسب المنظور الإسلامي بخاصة مهمة تندرج ضمن رؤية الإسلام المتكاملة للحياة، وعصبها الأهم ـ الاقتصاد ـ وهو ما دفع المشرع الإسلامي لتخصيص جملة من الخصائص (بحكم المحددات والضوابط السوقية) التي تحدد السوق الإسلامي، وما هذا التدخل من المشرع المقدس في تفاصيل جزئية كالسوق، إلا لأن الأخير إنما هو وعاء العملية الاقتصادية، والأخيرة هي داينمو الحراك البشري.
من جهة أخرى، فأن الخصائص السوقية الإسلامية هذه هي بمثابة الضابط والحاكم للعملية التجارية برمتها، أي أنها معيار ثابت تُحدد من خلاله صوابية الممارسة الاقتصادية التجارية بين المسلمين من جهة وبينهم وبين غيرهم من جهة ثانية. 
وعلى هذا وذاك، فيمكننا الزعم بأن للإقتصاد الإسلامي خصائص سوقية خاصة به، تحتكم لمشرع حكيم جل شأنه؛ يرى فيها ضوابطا مهمة تضمن اتساق الحياة وتناغم المصالح إذا ما اضطربت وتزاحمت وتعقدت بحكم حاجات الطلب والعرض. 
وإذا ما نظرنا الى آلية التعامل السوقي في السوق الإسلامية، لوجدنا بأن معيار المنافسة هو منطلقها، والمنافسة هنا إنما يراد بها المنافسة في الإنتاج والتسويق، لأن فيها ضمان لحركة ارزاق الناس، وبخلافه فإن البلادة هي من ستتحكم بهم، مع أن المنافسة السوقية هذه إنما هي القادح لزيادة الإنتاج من جهة واكتفاء المستهلك من جهة ثانية، أي إن فيها مصلحة للمنتج والمستهلك على حد سواء.
وتستند المنافسة السوقية الشريفة في المجتمع الإسلامي الى جملة أدوات، يتوسلها كوسائل معتبرة في تحقيق غايته، ومن ذلك: 

ـ التنافس والتسابق الى الخيرات:
وهو أسٌ تربوي أخلاقي، يؤسسه الإسلام في كافة مناحي الحياة، لأن فيه إحكام للسلوك الفردي والمجتمعي، فإذا تعود المجتمع على التنافس في الأعمال الخيرية والتسابق لفعل الصالحات من الأعمال، قطعا سينتقل هذا التنافس الى التعامل السوقي، ويجد ويجتهد التجار في فعل الخير، ومنه بطبيعة الحال، ترك الربا مثلا؛ والابتعاد عن احتكار السلع أو النجش في أسعارها، فضلا عن احاطة اعمالهم بكل ما تحتاجه من حلية ومشروعية، وبذلك يحققون حالة التوازن الأخلاقي المطلوبة في السوق، فضلا عن أن تسابقهم هذا سيدفعهم الى الإكثار من الإنتاج المفيد، وتحسين وسائله، وهو ما يؤدي بالضرورة الى خفض التكاليف، وهذا ما سيخدم المستهلك من خلال حصوله على حاجته بالأسعار المعقولة.

ـ حرية العمل والتكسب:
يحكم الإسلام الحراك السوقي بحكومة الحرية، فالجميع أحرار فيما يعملون ويكسبون، بشرط "لا ضرر ولا ضرار"، كما أن الحرية الاقتصادية ـ حسب المنظور الإسلامي ـ محكومة بمعادلة العرض والطلب، إذ أن الأخيرة تتحكم به، ومن مصاديق ذلك أن غلاء الأسعار سيتوازن بقلة الطلب من المستهلك، وبذلك فأن المنتج سيضطر لخفضها امتثالا لحكومة السوق، وهنا لا يتخوف السوق الإسلامي من تحكم طائفة معينة من التجار او المنتجين، بل ولا يحتاج الى تدخل الدولة في ذلك، لأن في معادلة العرض والطلب الضمانة الفضلى لحكم السوق وضبطه، كما أن هذه المعادلة ستولد منهجا سوقيا جديدا، إلا وهو تعدد المنتجين، أو بتعبير أدق، تعدد القوة الاقتصادية المتحكمة بالسوق، وعدم حصرها في منتج واحد، الأمر الذي يحول دون ظهور الحالة الاحتكارية التي تحاول حصر الإنتاج وتحديده، او رفع الأسعار واستغلال المستهلكين.

ـ الشفافية السوقية:
تنزع السوق الإسلامية الى نزعة واضحة وشفافة في تعاملاتها العامة والخاصة، وتبتعد عن الغرف والدوائر المظلمة، إذ تدعو المنظومة الأخلاقية السوقية في الإسلام الى ضرورة التداول المعلوماتي حول السوق، حرصا منها على الشفافية والمصداقية، خصوصا فيما يعنى بظروف الأسعار ونوع السلع وجودتها وصفاتها ومصدرها وطريقة تصنيعاها وما الى ذلك، لأنه يعتبر الاقتصاد معرفة بشرية لا يمكن أن تُحتكر لأنها ملك للجميع، وهو ما يجعل من المستهلك البسيط على علم ودراية بحركة السوق وتجاذباته، بل وفي مجموع شؤون السوق المختلفة، ومن مصاديق هذا التأسيس نهي الإسلام عن التعامل بالمعاملات الاقتصادية منقوصة الأثر، كبيع الضرر وبيع المنابذة والملامسة، ومنع الغبن في البيع، وحق الرد بالغبن وعدم الأهلية وما الى ذلك، محتكمة الى قاعدة اقتصادية اخلاقية قوامها، البيع بالخيار، غذ تؤدي الشفافية السوقية هذه الى توافر القدر الكافي من المعلومات التي تجعل أغلب البائعين والمشترين يملكون التصور المانع من استغلالهم او استغفالهم، وهو ما يؤسس الى ما يسمى اليوم بوحدة السوق، إذ أن نوع السلطة وجودتها يؤهلان للسعر المكافئ، ويسري هذا على كل السوق طالما هم مسلمين، وهذا ما يؤدي الى توالد الأفكار البناءة ومنها مثلا فكرة أن المنافسة لا تعني زيادة الأرباح بأية وسيلة كانت، إنما هو زيادة الإنتاج وتحسينه ايضا.

ـ الأخلاق حكومة السوق:
كما يؤسس الإسلام الى منظومة اخلاقية سلوكية خاصة بالسوق، يتطلبها كل عمل فيه، امتثالا لتوصيات اهل بيت النبوة عليهم الصلاة والسلام، ومن ذلك قول أمير المؤمنين علي عليه الصلاة والسلام: "يا معشر التجار، الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر" وقوله الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام: "من أراد التجارة فليتفقه في دينه ليعلم بذلك ما يحل له مما يحرم عليه، ومن لم يتفقه في دينه ثم اتجر تورط في الشبهات"، وتندرج ضمن هذه الأخلاق مثلا قاعدة: لا يبيع بعضكم على بيع أخيه، أي أن على التاجر المسلم إذا رأى خسارة لا مرد لها ستحيق بمنافسه من جراء سبق أحرزه في ميدان الإنتاج المشترك بينهما، أن يبرئ ذمته بإسداء النصح له بأن يغير من طريقة إنتاجه أو يدعوه إلى مشاركته في مشروع تعاوني أو يرشده إلى مباشرة عمل آخر يكون أكثر انسجاما مع ملكاته وهلم جرا، أما أن يكيد له في السر والعلن ليخرجه من السوق ويستأثر بها وحده، فهذا ما لا تجيزه روح التنافس الإسلامي، ناهيك عن منعه ـ الإسلام ـ للغش؛ أيا كانت طريقته ومصدره، لأن فيه تظليل لطرف ما، كالتدليس في وصف السلع والبضائع لاستدراج العملاء، فقد ورد عن نبي الإنسانية محمد صلوات الله عليه وآله بعد أن مر في سوق المدنية، ورأى طعاما جيدا، فقال لصاحبه: "ما أرى طعامك إلا طيبا"، وسأل عن سعره فأوحى الله تعالى إليه أن يدير يده في الطعام، ففعل فأخرج طعاما رديا فقال لصاحبه: "ما أراك إلا وقد جمعت خيانة وغشا للمسلمين".
ووفقا لما بيّناه في أعلاه، يمكن وصف خصائص السوق الإسلامية بما يلي:
ـ بعدها عن الإكراه والقيود على تصرفات المنتجين والمستهلكين، فهم  احرارا في ما يفعلون، إلا فيما يولد ضررا لغيرهم، احتكاما لحركة السوق وفقا لقاعدة (العرض والطلب).
ـ التكافؤ بين عرض المنتج وطلب المستهلك هو الضابطة الأقوى في حكم السوق وضبطه، وبالتالي فأن التكافؤ بين العرض والطلب سيحدد الأسعار ويضمن عدم وجود أي خلل في العملية الاقتصادية، سواء كان الخلل بالمنتج او المستهلك.

 

العلوية فاطمة الجابري

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م