2 محرم 1447 هـ   28 حزيران 2025 مـ 2:27 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | أخلاقيات الإسلام |  السلطة الروحية وبناء المعنى: حين تتكلم الروح في زمن الصمت
2025-06-10   117

السلطة الروحية وبناء المعنى: حين تتكلم الروح في زمن الصمت


الشيخ معتصم السيد أحمد
في زمنٍ باتت فيه القيم تُقاس بمقاييس السوق، والمعايير تُضبط على إيقاع النفع والفائدة، تعيش الروح الإنسانية حالة من الغربة. فالكائن البشري، وقد حُوصر بمنظومات مادية صلبة، صار يرى نفسه مجرد مستهلك أو منتج أو رقم في معادلات الاقتصاد. ووسط هذا الغبار الكثيف من العروض السريعة والانشغالات اليومية، تظل هناك بقعة مضيئة في أعماق الإنسان لا ينطفئ فيها الشوق إلى معنى أعمق، ونداء أعلى، هو ما يمكن التعبير عنه بالحاجة الفطرية إلى مرجعية روحية تُنير الوعي وتمنح الحياة معناها العميق.

وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذه الحاجة حين قال: «فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته. ويذكروهم منسي نعمته. ويحتجوا عليهم بالتبليغ. ويثيروا لهم دفائن العقول»، فالدين ومرجعياته الروحية ضرورة فطرية تهدف إلى إحياء البصيرة الداخلية لا مجرد تقديم الأوامر الخارجية.

تلك المرجعية الروحية التي يتوق الإنسان إليها لا تُفرض بالقهر، ولا تُمارَس بالإكراه، ولا تُشرعَن بالقوانين الوضعية، وإنما تُكتسب من خلال صفاء الروح وعمق المعنى، ومن قدرتها على إيقاظ الضمير وإرشاد الوجدان إلى ما هو أسمى من الغرائز والمصالح. هي سلطة ناعمة لكنها نافذة، خفيّة لكنها مُغيرة، ووجودها في حياة الإنسان يشبه حضور النور: لا يُلمس باليد، ولكن يُبصر به الطريق. إنها ليست نقيضاً للعقل، بل امتداد له في أفقٍ أسمى؛ وليست خصماً للحرية، بل هي التي تمنح الحرية معناها حين تخلّصها من عبودية الهوى والمصلحة.

وفي هذا السياق، قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾، وهو بيان قرآني لمركزية التزكية الداخلية في توجيه الإنسان نحو الخير والحق.

فحين نتحدث عن السلطة الروحية، فإننا لا نشير إلى كيان مؤسسي بالضرورة، ولا إلى وظيفة دينية مغلقة، بل نتحدث عن نوع خاص من الحضور، حضور يستمد سلطته من قدرته على مخاطبة العمق الإنساني، من تأثيره في الوجدان، ومن قدرته على إعادة ترتيب العلاقة بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان والكون، بل وبين الإنسان والزمن.

ولعلّ هذا هو السر في أن المجتمعات، في مختلف الأزمنة والثقافات، كانت دائماً تميل إلى تتويج أشخاص معينين بالمهابة الروحية، حتى وإن لم يملكوا سلطة سياسية أو امتيازاً مادياً. فالعظماء الحقيقيون، لم يكونوا دائماً ملوكاً أو قادة جيوش، بل كانوا في أحيان كثيرة أولئك الذين تحدّثوا بلغة الروح، وأشعلوا شموعاً في دهاليز العتمة الداخلية للناس. قد لا تكون هذه السلطة قابلة للقياس أو التكميم، لكنها تترك أثرها واضحاً في النفوس، كما يترك النسيم أثره على سطح البحيرة.

قال الإمام الصادق عليه السلام: «كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإنّ ذلك داعيةٌ»، وهي دعوة لتمثّل الحضور الروحي بالصمت العملي لا بالضجيج اللفظي.

ولأن هذه السلطة غير مادية، فإن المنهج المادي بطبيعته يعجز عن إدراكها أو تفسيرها. فالمنطق الذي لا يعترف إلا بما يُقاس ويُحسب، يرفض أن يعترف بأن للإنسان بعداً معنوياً تتجلّى فيه قوى الحب والعطاء والحنين والوجد، ولهذا كثيراً ما وُصِفت هذه السلطة بأنها نوع من السحر أو الخداع، لا لشيء سوى لأنها لا تخضع لشروط المختبر. لكن، أليس الإنسان نفسه أعقد من أن يُختزل إلى سلسلة من التفاعلات الكيميائية؟ وأليست اللحظة التي يذرف فيها دمعة حبّ، أو يقف فيها بخشوع أمام مشهد جمالي، دليلاً على أنه كائن يتجاوز مادّته؟

وقد قال تعالى: ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ﴾ [السجدة: 9]، فهذه النفخة الإلهية هي أصل تلك الأبعاد التي لا تُفسَّر بالمادة وحدها.

إنّ السلطة الروحية تُمارس تأثيرها من خلال الإيحاء لا الإلزام، ومن خلال القدوة لا السيطرة، ومن خلال الإشراق الباطني لا الاستعراض الخارجي. ومَن يمتلك هذه السلطة لا يحتاج إلى خطاب عنيف ولا إلى حملة دعائية، يكفيه أن يكون صادقاً في ذاته، حتى يتجاوب معه وجدان الآخرين. وهذا ما يجعل هذه السلطة خطراً على النُّظم المادية التي تسعى إلى السيطرة على الإنسان من الخارج، لأنها تفتح له باباً على التحرر من الداخل.

وقد وصف الإمام علي عليه السلام هذا النمط من التزكية المؤثرة بقوله: «عباد الله، إن من أحب عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه، فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف، فزهر مصباح الهدى في قلبه... فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى، وصار من مفاتيح أبواب الهدى، ومغاليق أبواب الردى»، وهي صورة روحية راقية للنفوس التي تضيء لغيرها دون صخب.

وهنا تكمن المفارقة: في حين تحاول السلطة السياسية أن تُهيمن من خلال الرهبة، والسلطة الاقتصادية أن تُغري من خلال الرغبة، تأتي السلطة الروحية لتقول للإنسان: إنك لا تُختزل فيما تُنتجه أو تملكه، بل فيما تحمله في داخلك من نور ومعنى.

السلطة الروحية لا تكتفي بأن تعلّم الإنسان الأخلاق، بل تمنحه سبباً لتبنيها. إنها لا تكتفي بأن تأمره بالخير، بل تجعل الخير مَطلباً داخلياً ينسجم مع فطرته، وتعيد ربطه بالله لا بوصفه فكرة مجردة، بل بوصفه الحضور الأسمى الذي تشتاق إليه الأرواح.

وقد قال الإمام الحسين عليه السلام في دعاء عرفة: «متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟» وهو تعبير دقيق عن الحضور الروحي الدائم الذي تشعر به النفس الصافية.

وهذا هو ما يجعل رجل الدين أو المصلح أو المفكر الروحي المختلف، حين يكون صادقاً، نموذجاً ينجذب إليه الناس من دون أن يحتاج إلى فرض أو قهر. وقد رأينا عبر التاريخ كيف كان الناس يتقاطرون إلى الصالحين والزاهدين وأهل النور، من دون دعايات، فقط لأنّ الروح تهتدي إلى من يُشبهها، وتبحث عما يُوقظ فيها إشراقها المنسي.

ولكن لا يمكن الحديث عن السلطة الروحية من دون التطرق إلى الانحرافات التي شوّهت وجهها. ذلك أن كل سلطة معرضة للاستغلال، وخاصة حين تكون ناعمة وعميقة، فقد يسعى بعض المتلبسين بلباس الدين أو الحكمة إلى تسخير هذه السلطة لتحقيق مصالحهم، أو فرض وصايتهم على الآخرين، تحت شعارات زائفة. وهذه الانحرافات، وإن كانت واقعية، إلا أنها لا تنقض أصل الفكرة، كما لا تنقض جرائم الأطباء مبدأ الطب، ولا تغني عن الحاجة إليه.

وقد قال الإمام الصادق عليه السلام: «إذا رأيتم العالم محباً لدنياه فاتهموه على دينكم، فإن كل محبّ لشيء يحوط ما أحب»، وهو تحذير واضح من الزهد الظاهري المتستر على طمع دنيوي.

كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «أوحى الله إلى داود عليه السلام: لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدّك عن طريق محبتي، فإن أولئك قطاع طريق عبادي المريدين، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي عن قلوبهم»، فخطر المستأكل بالدين لا يقتصر على انحرافه الشخصي، بل يمتد ليفسد قلوب السالكين ويقطع عليهم الطريق.

وقد نبه القرآن الكريم من هذا الخطر، كما في قصة السامري الذي امتلك سلطة روحية مزيفة أغرت بني إسرائيل بعبادة العجل، "قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ"، أو كما في تصويره لمن استغل العلم دون تقوى فصار "فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث". وهذه التنبيهات ليست إدانة للسلطة الروحية في أصلها، بل دعوة لتمييز الصحيح من الزائف، والحق من البهرج.

إن الأزمة ليست في وجود السلطة الروحية، بل في غياب المعايير الناظمة لها. فهي ليست حالة شعبوية عاطفية، وإنما مقام معنوي لا يُنال إلا بالتزكية، ومَن أراد أن يتصدى لها دون أن يكون قد مرّ بمراحل الطهر والتزكي والنية الخالصة، فإن حضوره سيكون مجرد ضوء باهت سرعان ما ينطفئ.

ومن هنا، فإن الدفاع الحقيقي عن السلطة الروحية لا يكون بالخطابات، بل ببعثها حيّة في الواقع، من خلال بناء نماذج صادقة، تحمل الهمّ الإنساني، وتُعيد إلى الإنسان ثقته بروحه، وتُحرّره من عبوديته للمظاهر.

وأخيراً، قد يكون من المفيد أن نسأل: ماذا يبقى للإنسان إذا جُرِّد من الروح؟ هل تكفيه التكنولوجيا ليرى في الحياة معنى؟ هل تغنيه المكاسب المادية عن الحنين؟ وهل يستطيع أن يجد الطمأنينة في ضجيج الشاشات؟ لا شك أن العقل مطلوب، والعلم ضروري، والتخطيط المادي مهم، لكنّ كل هذا لا يُغني عن حاجة الإنسان إلى "صوت" يسمعه في داخله، لا من خارجه. هذا الصوت هو سلطة الروح، وهو الذي يجعل الحياة جديرة بأن تُعاش.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م