13 محرم 1447 هـ   9 تموز 2025 مـ 11:18 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | رؤى وقضايا  |  قداسة مزعومة: يزيد بين اختلاق الفضائل وتغييب الحقائق: قراءة في صناعة الصورة
2025-07-07   5

قداسة مزعومة: يزيد بين اختلاق الفضائل وتغييب الحقائق: قراءة في صناعة الصورة


الشيخ مصطفى الهجري
في مراحل متعددة من تاريخ الأديان، ظهرت محاولات لمنح بعض الأشخاص صفة القداسة التي تجعلهم فوق النقد والمساءلة، حتى لو ثبت تاريخيًا ما يناقض تلك الصورة. وقد اتخذت هذه القداسة أشكالًا شتى، منها ما نعرفه في السياق المسيحي الكاثوليكي تحت عنوان "صكوك الغفران"، حيث كانت الكنيسة تبيع صكًا لمن يدفع مبلغًا ماليًا، يُمَحى بموجبه أو يُخَفف عنه عذاب الآخرة.

هذه الظاهرة لم تخلُ منها الساحة الإسلامية، وإن اختلفت في الصورة، فقد ظهرت على شكل صكوك غفران غير رسمية لكنها فاعلة التأثير، تمثلت في اختلاق روايات مادحة تمنح المغفرة لشخصيات معينة، حتى وإن كانوا منبوذين أخلاقيًا أو سياسيًا، مما يجعل نقدهم التاريخي محظورًا أو مستهجنًا، بل قد يُعدّ طعنًا في الدين ذاته.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك، "صك الغفران" الذي منح لمقاتلي بدر، وهو أمر دار حوله نقاش علمي حي بين من يرى فيه تكريمًا صادقًا من الرسول لهؤلاء الذين خاضوا أولى المعارك المفصلية للإسلام، ومن يرى أن ذلك لا يمكن أن يُتخذ ذريعة لإسقاط المساءلة عن أي تصرف خاطئ منهم لاحقًا، فضلًا عن توظيفه سياسيًا فيما بعد. 

ولأن بعض الشخصيات لم يشملها هذا الصك، كان لا بد من اختراع صك جديد لها، ومن ذلك ما حصل مع يزيد بن معاوية، الذي لم يكن من الصحابة ولا من أهل بدر، وقد قوبلت أفعاله وخاصة في واقعة كربلاء بامتعاض المسلمين، فتم اختلاق روايات تمنحه المغفرة لمجرد كونه فاتح القسطنطينية أو مشاركًا في جيشها، وهو تأويل مشكوك فيه، يدل على صبغة دعائية أكثر منها دينية.

وقد نُسب لابن كثير مثل هذا التبرير الغريب حين قال: «إن الله ما كان ليرزق يزيد الخلافة على المسلمين إلا لسر، وهو صلاح وإيمان أمه ميسون بنت بجدل... حيث تحجبت عن غلام معاوية رغم أنه مخصي، فرأت كأن قمرًا يخرج منها، وفسر برجل تأخذ له الخلافة»! (البداية والنهاية، ج8، ص155).

لكن هذا التأويل لا يصمد أمام أبسط معايير النقد التاريخي، لا سيما أن الجميع متفق على أن خلافة يزيد وأبيه معاوية كانت "ملكًا عضوضًا" وليست خلافة راشدة، كما ورد في الحديث: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكًا».

إن محاولة تصوير يزيد – المعروف تاريخيًا بشربه وإدمانه اللهو – على أنه رجل صالح، هي تعبير عن حالة عزلة فكرية لدى المدافعين عنه، كمن يرتدي ثوبًا مرقعًا من كل جانب ويتجول بين الناس وقد تعوّد على نظراتهم حتى لم يعد يشعر بها، كما شبّه بذلك أحد الباحثين: «فصار يرى نفسه معزولا عن غيره، فكأنما تكونت حوله هالة تمنع شهب النظرات من الوصول إليه، فهو بلا شعور من هذه الناحية».

وهذا ما يقع فيه بعض المدافعين عن يزيد، حيث ينغمسون في روايات مشكوك فيها أو مرسلة، مثل تلك التي تنسب للحسين بن علي عليه السلام مشاركته في جيش القسطنطينية بإمرة يزيد، كما جاء عند ابن عساكر. وهي محاولة مكشوفة للطعن في ثورة الحسين وإفراغها من مشروعيتها الأخلاقية، وكأن الرجل خرج على من سبق أن رضي بإمرته!

لكن حين نراجع المصادر التاريخية الكبرى مثل الطبري، وابن الأثير، وابن كثير، واليعقوبي لا نجد أي إشارة تدل على مشاركة الحسين في تلك الحملة، ولو حصلت فعلًا لكانت من الأحداث التي لا يمكن تجاوزها.

إن هذا النهج في "تصنيع القداسة" يشبه كثيرًا النهج الذي اتبعته الكنيسة الكاثوليكية في تبرئة أتباعها من الخطايا مقابل الأموال، إلا أن ما يجري في بعض الخطابات الإسلامية هو "تبرئة معنوية" مقابل الولاء السياسي أو العقائدي. وهذا يُفضي إلى نتائج خطيرة على العقل المسلم، إذ يحصن بعض الأشخاص من النقد، مهما كانت جرائمهم، ويُحول الدين إلى أداة تبرير للواقع، بدلًا من كونه معيارًا للحكم عليه.

إن الأمة التي تعجز عن ممارسة النقد التاريخي العادل المنضبط بالمصادر والموازين، وتغرق في قداسات وهمية مصنوعة لأغراض سياسية، ستكون أمة مشوشة البصيرة، تتعاطى "المقلوبات الفكرية" .

وبهذا، فإن نقد هذه الظاهرة ليس طعنًا في الدين، بل هو وفاء للدين الحق وتنزيه له عن التورط في تبرئة من لا يستحق.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م