13 محرم 1447 هـ   9 تموز 2025 مـ 11:05 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | رؤى وقضايا  |  لبيك ياحسين .. اجعلها حقيقة متى يضحي الإنسان بنفسه وأعز ما يملك؟
2025-07-07   4746

لبيك ياحسين .. اجعلها حقيقة متى يضحي الإنسان بنفسه وأعز ما يملك؟



الشيخ مقداد الربيعي
تُعدّ التضحية في سبيل المبادئ والقيم العليا من أسمى الصفات الإنسانية وأنبلها، وقد شهد التاريخ الإنساني عبر العصور نماذج مضيئة لأفراد قدموا أرواحهم وكل ما يملكون من أجل قضايا الحق والعدالة. ولعل واقعة كربلاء وثورة الإمام الحسين عليه السلام تمثل أعظم مثال على هذا النوع من التضحية المقدسة. لكن لماذا يختار الإنسان أن يضحي بنفسه في سبيل الأمة أو الرسالة؟ وما هي الدوافع الحقيقية وراء هذا الاختيار الصعب؟

إن فهم دوافع التضحية يتطلب أولاً فهم طبيعة الرسالات الإلهية وأهدافها، فإن جميع الرسالات الدينية تقوم على مواجهة الظلم والفاسدين، والدعوة إلى الإصلاح وتحقيق قيم العدالة بجميع معانيها. هذا يعني أن الأديان في جوهرها تمثل دعوة إلى تحقيق القسط وإقامة العدل والإصلاح، ومواجهة الظالمين والفاسدين والمترفين.

ومن الطبيعي أن تلقى هذه الرسالات مقاومة شديدة من قوى الظلم والفساد، لأن هؤلاء لن يقبلوا برسالة تنتقص من دورهم ونفوذهم وتمس مصالحهم. وهنا تبرز أهمية التضحية كضرورة حتمية لحماية هذه الرسالات وتثبيت قيمها في المجتمع.

إن التضحية تُعدّ المعيار الحقيقي لقياس مدى إيمان الإنسان برسالته ومبادئه. فعندما يصل الأمر إلى مرحلة المواجهة الحقيقية، يصبح أتباع الرسالة أمام خيارين إما أن يتراجعوا عن رسالتهم وعن أهدافهم، وإما أن يواجهوا مع ما يستلزمه هذا الأمر، ويكونوا على استعداد للشهادة والتضحية والفداء وتقديم ما لديهم، بل أغلى ما لديهم، من أجل أن تستمر رسالتهم بما لها من أهداف وقيم.

وإقدام الإمام الحسين عليه السلام على التضحية بنفسه وأهل بيته لهو خير دليل على عظمة هذه الرسالة، التي لا يمكن حصر أهدافها بزمن معين، وإنما تمتد لتشمل الماضي والحاضر والمستقبل، فهي رسالة كل الإنسانية على مدى التاريخ.
فلم تكن تضحيته عليه السلام عملاً عاطفياً أو ردة فعل آنية، بل كانت خطة محكمة لتحقيق أهداف استراتيجية عميقة. فهدف الإمام الحسين عليه السلام الواقعي لم يكن الوصول إلى السلطة، فهو كان يعلم بأن مآل حركته هو الشهادة. ما كان يريده الإمام الحسين عليه السلام هو إسقاط المشروعية الدينية وغير الدينية عن مشروع السلطة الأموية.

لقد أدرك الإمام الحسين عليه السلام أن السلطة الأموية أسست مشروعاً للانقلاب على الدين وتجويفه وتشويهه، وللقضاء على الدين باسم الدين نفسه، أي باسم الإسلام. ولذلك كانت التضحية هي الوسيلة الوحيدة لفضح هذا المشروع وتعريته أمام الأمة.

تعدد أشكال التضحية
التضحية لا تقتصر على بذل الروح فحسب، بل تشمل أبعاداً متعددة، فعندما نتحدث عن التضحيات، فإن التضحية ليست مرتبطة بالنفس أو بالروح فقط، وإنما هي أيضاً مرتبطة بالمال، والوقت، والجهد، والعمر، أي بكل ما لدى المرء.

وتختلف أشكال التضحية المطلوبة بحسب الدور الذي يتخذه الفرد والمجتمع في المواجهة بين الحق والباطل، وأيضاً بحسب المرحلة التي وصلت إليها هذه المواجهة. فقد تكون التضحية في الميدان السياسي أو الاقتصادي، وقد تكون من باب التضحية بالأنا، وحب الذات، وحب الجاه، وحب الموقع، وحب الرئاسة وغيرها.

والسؤال المطروح على كل مؤمن برسالة الحسين هو: هل أنا مستعد لأن أضحي بكل هذه الماديات، وتلك الأهواء والميول من أجل تحقيق رسالة الحسين؟ فإذا استطاع أن يفعل ذلك، فهو صادق في دعواه أنه مع الحسين، وإذا لم يفعل، فهذا شاهد صدق على كذبه.

هذا الاختبار ليس مقتصراً على زمن معين، بل هو سؤال سيال ودائم، وينطبق على كل شخص، لأن الحسين عليه السلام موجود في كل عصر، ولأن رسالة الحسين عليه السلام تبقى حية أبد الدهر.

لقد أظهرت واقعة كربلاء حقيقة مهمة وهي أن «الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون»، كما قال الإمام الحسين عليه السلام (الشاهرودي، مستدرك سفينة البحار، الجزء 1، الصفحة 424).

وقد مدح الله سبحانه القلة في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سورة سبأ، الآية: 13). وفي كربلاء تجلى هذا المعنى بوضوح، حيث وقف مع الحسين عليه السلام قلة قليلة مقابل عشرات الآلاف ممن انحازوا للباطل أو سكتوا عنه.

إن بناء مجتمع قادر على التضحية في سبيل المبادئ يتطلب تربية مستمرة، ولكي يكون مجتمعنا مجتمع تضحية عليه أن يتربى على هذا الإيمان وعلى معاني كربلاء. ولكي ينجح في هذه التربية، يجب أن يبدأ بدروس التضحية من المواقف الصغيرة، ومن الاختبارات العادية، وصولاً إلى الاختبارات الكبيرة.

فالتاجر الذي لا يضحي بشيء من الربح في الزمن الصعب، والموظف الذي لا يضحي ببعض مصالحه من أجل العدالة، كيف يمكن أن نتوقع منهما التضحية الكبرى عند الحاجة؟ الذي يفشل في المواقف الأقل صعوبة، كيف سينجح في المواقف الأصعب؟

وفي الختام
إن التضحية في سبيل الرسالة والأمة ليست مجرد عمل بطولي فردي، بل هي ضرورة حضارية لاستمرار القيم الإنسانية النبيلة ومواجهة قوى الظلم والفساد. إنها الثمن الذي يجب دفعه لحماية الحق وتثبيت العدالة في الأرض.

ولعل أعظم ما في تضحية الإمام الحسين عليه السلام أنها لم تكن مجرد موقف تاريخي مضى، بل بقيت مدرسة حية تعلم الأجيال معنى الكرامة والشرف، ومتى يجب على الإنسان أن يقول "لا" للظلم حتى لو كان الثمن هو الحياة نفسها. فالحياة بلا كرامة ومبادئ لا تستحق أن تُعاش، والموت في سبيل الحق حياة خالدة لا تنتهي.


جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م