13 محرم 1447 هـ   9 تموز 2025 مـ 11:25 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | رؤى وقضايا  |  من البكاء إلى البناء: قراءة في دوافع المجالس الحسينية
2025-07-07   6333

من البكاء إلى البناء: قراءة في دوافع المجالس الحسينية


الشيخ مصطفى الهجري
منذ واقعة كربلاء وحتى يومنا هذا، لم تنقطع مجالس العزاء الحسيني عن الوجود في المجتمعات الشيعية، بل تحولت إلى ظاهرة دينية وثقافية راسخة، تستقطب الملايين من الناس سنويًا، وتمتد عبر الجغرافيا والزمن. غير أن هذه الظاهرة، برغم أهميتها، تثير في كثير من الأحيان سؤالاً جوهريًا: ما الهدف الحقيقي من إقامة هذه المجالس؟ هل هي مجرد طقوس حدادية لإحياء ذكرى الحسين (عليه السلام)، أم أنها أداة فعالة لتحقيق الأهداف التي خرج من أجلها؟
الجواب عن هذا السؤال يرتبط بشكل وثيق بفهم الشيعة لمعنى "إحياء أمر الحسين". إن الاقتصار على الجانب الشكلي للمجالس، دون ربطها بجوهر ثورة الإمام، لا يُعدّ إحياءً حقيقيًا. فالإحياء – كما هو في الرؤية الأصلية – لا ينفصل عن الإصلاح الذي خرج الحسين (ع) من أجله، حين قال«: إني لم أخرج أشِرًا ولا بطرًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي». 
إننا عندما نُفرغ المجالس الحسينية من بعدها الإصلاحي، ونحصرها في الإطار الطقسي فقط، نُعرض هذه المجالس لخطر التحول إلى عادة مفرغة من المضمون، ويغيب بذلك المعنى الأصيل للإحياء. فقد لا يكمن الخلل دائمًا في طريقة إقامة المجالس، بل أحيانًا في المفهوم المسبق الذي يحمله الناس عنها. كثيرون يتعاملون مع العزاء على أنه ممارسة روحية أو اجتماعية معتادة، لا تستدعي منهم مراجعة سلوكهم أو وعيهم أو خياراتهم في الحياة.
هذه الرؤية الشكلية قد تكون مريحة للضمير، لكنها لا تحقق شيئًا من الأهداف التي ضحّى الحسين (عليه السلام) بنفسه وأهله وأصحابه في سبيلها. ولذلك، فإن الحاجة الماسّة اليوم هي إلى مراجعة عميقة في الخطاب الحسيني، تنطلق من تحليل الأهداف الكبرى للثورة، وتربط بينها وبين الواقع الاجتماعي والسياسي الذي نعيشه. لا يكفي أن نبكي على الحسين، بل يجب أن نحيا بالحسين، وأن نُعيد صياغة حياتنا على ضوء مبادئه وقيمه.
المجالس الحسينية – في فلسفتها الأصلية – ليست مواعظ موسمية، ولا مجرد مظاهر حداد، بل هي ورش تربوية لإعادة إنتاج الإنسان الحسيني، الذي يحمل في داخله مشروع الحسين الإصلاحي، ويجسّده في حياته اليومية. هذا الإنسان هو الذي يكون أساسًا لبناء مجتمع حسيني، ينشئ بدوره نظامًا سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا قائمًا على العدالة، ومنيعًا ضد الفساد والظلم.
إن تكرار المجالس الحسينية سنة بعد أخرى، لا يجب أن يتحول إلى روتين ممل أو مناسبة اجتماعية فقط، بل ينبغي أن تكون هذه المجالس محطات للتزود بالإيمان، وشحن الوعي، واستنهاض الهمم. الخطاب فيها لا بد أن يتجاوز مجرد الحزن، إلى النقد والتحليل والمقارنة بين أهداف الحسين وواقعنا الحالي، بين ما أراده الحسين لأمة جده، وما آل إليه حال هذه الأمة.
إن المطلوب من المنابر الحسينية اليوم أن تستعيد روح الثورة، وأن تكون جسورًا بين التاريخ والواقع، بين المبادئ والممارسة. يجب أن تضع نصب أعينها غاية كبرى: أن يتحول مجتمع العزاء إلى مجتمع مقاوم للانحراف والظلم، يعمل على تحقيق الإصلاح الحقيقي في كل جوانب الحياة: في السياسة، والاقتصاد، والإدارة، والتربية، بل وحتى في أساليب الجهاد وبناء الوعي.
بهذا المعنى، تكون المجالس الحسينية مشروعًا حضاريًا، لا مجرد ذكرى. وتصبح بذلك وسيلة إحياء حقيقية، لا فقط استذكارًا للمأساة. إن الشيعة، من خلال هذه المجالس، لا يبكون الحسين فقط، بل يسيرون على دربه، ويجددون في كل عام عهدهم له بأن يبقوا أوفياء لرسالته الخالدة.
ولذلك فإن دافع الشيعة إلى إقامة مجالس العزاء ليس عاطفة لحظية، بل رؤية دينية ورسالية عميقة، ترى في الحسين رمزًا للعدل، وفي مجالسه فرصة لتجديد العهد بالإصلاح، وتحفيزًا لتحويل المجتمعات إلى مجتمعات حسينية، تُقاتل الجهل، وتناهض الظلم، وتسير على درب التضحية والفداء في سبيل القيم العليا.


جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م