22 ربيع الثاني 1447 هـ   15 تشرين الأول 2025 مـ 6:55 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | رؤى وقضايا  |  صوت الضمير بين نداء الحق ووسوسة الهوى
2025-09-24   94

صوت الضمير بين نداء الحق ووسوسة الهوى


الشيخ معتصم السيد أحمد
في زحام الحياة المعاصرة وتعقيداتها، كثيراً ما يقف الإنسان حائراً أمام قراراته، متردداً بين ما يراه حقاً لنفسه وبين ما يُحتمل أنه حق للغير. وقد تتأرجح الأفكار في ذهنه، مرة تميل إلى الإنصاف والاعتراف بحق الآخر، ومرة أخرى تنحاز إلى المصلحة الذاتية مدفوعة بهوى النفس. في هذه اللحظات الصامتة من الصراع الداخلي، يتجلى حضور "الضمير"، ذلك الصوت الخفي الذي يُحدث ضجة عميقة في وجدان الإنسان، فيلومه حين يخطئ، ويدعوه للعدل حين يظلم، ويوقظه حين يوشك أن يستسلم لإغراء الأنانية.

فالضمير هو تلك المحكمة الداخلية المغروسة في فطرة الإنسان، والتي تراقب أفعاله من الداخل وتخاطب عقله وقلبه بالحق، حتى وإن سكت الجميع. إنه بمثابة الشعور الأخلاقي الذي ينبثق من عمق الوجدان، فيمنح الإنسان القدرة على التقييم الذاتي لأفعاله، ويجعله يشعر بالرضا حين يصيب، وباللوم حين يخطئ.

هذا الصوت لا يصدر من خارج النفس، بل من داخلها، فهو أعمق من العرف الاجتماعي وأرقى من الخوف من القانون، لأن أساسه شعور الإنسان بكرامته وإنسانيته، ولذا فإن حضور الضمير النشط في النفس هو علامة نضج روحي وأخلاقي، كما أن غيابه أو إسكات صوته هو الطريق إلى تبلد الإحساس وموت الشعور، ومن ثم الانزلاق إلى الأنانية المطلقة.

فحين يبدأ الإنسان بتجاهل نداءات الضمير، شيئاً فشيئاً، يخفت صوت هذه المحكمة الداخلية، حتى يغدو غير قادر على التمييز بين الحق والباطل. ومع استمرار هذا الانحراف، تتحول النفس إلى مركز يدور حوله كل شيء، وتُصبح المصالح الذاتية هي المعيار الوحيد للحكم على الأشياء.

وقد حذّر القرآن الكريم من هذا المسار الخطير في قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾، فالإنسان حين يُصادر صوت ضميره الداخلي، ويخضع كل شيء لهواه، يُختم على سمعه وقلبه وبصره، فلا يعود يرى الواقع إلا من خلال ما يخدم مصالحه الشخصية.

وهنا تظهر وظيفة الضمير كقوة مقاومة لهوى النفس، لأنه بطبيعته ينازع المصلحة الذاتية ويُذكّر الإنسان بالقيم العليا، ولذلك يحدث التردد والنزاع داخل النفس في كثير من المواقف، وهو ما عبّر عنه القرآن بـ"النفس اللوّامة"، حيث قال: ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ۝ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾.

الإنسان في تركيبته النفسية يحمل اتجاهين متضادين:
النفس الأمارة بالسوء: وهي التي تدفعه إلى الأنانية والانحراف.
النفس اللوامة: وهي التي تراجعه وتلومه وتدعوه إلى التوازن والاستقامة.


هذه الصراعات الداخلية بين ما تريده النفس وما يمليه الضمير ليست خللاً في طبيعة الإنسان أو ضعفاً في تكوينه، بل هي جزء جوهري من البنية الأخلاقية للإنسان الواعي. فوجود هذا التنازع بين دافع الهوى ونداء العقل أو الضمير، إنما يكشف عن أن الإنسان ليس كائناً مستسلماً لغريزته، بل يمتلك في داخله صوتاً مراقباً يحاكم سلوكه ويزن قراراته. وهذا التوتر بين الجانبين هو ما يصنع إنسانية الإنسان، ويمنحه القدرة على التمييز وتحمل المسؤولية الأخلاقية.

وقد عبّر القرآن عن هذه الحالة بدقة في قوله تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾، فالنص يُقرّ بأن الميل إلى السوء موجود في أصل النفس البشرية، لكنه في الوقت ذاته يشير إلى إمكانية التهذيب والرقي، عبر الرحمة الإلهية التي تتجلى في نور الهداية، وتقوية الإرادة، وتنمية الوعي. فالنزاع الداخلي بين الخير والشر هو ميدان الاختبار الحقيقي، فمن دون هذا التردد الداخلي، تفقد الأفعال معناها الأخلاقي، لأن القيمة الحقيقية تظهر حين يكون الإنسان أمام خيارين متعارضين.  

وعلى الرغم من هذه الطبيعة المركبة للنفس البشرية، والتي تميل بطبعها إلى الشهوات والمصالح الذاتية، فإن الإنسان لم يُترك وحيداً في مواجهة هذا الصراع الداخلي، بل زُوّد بما يُعينه على تجاوزه، ومن أبرز ما يعينه على ذلك: استحضار مقام الله والخوف من حسابه. فالخشية من الله ليست حالة عاطفية عابرة، بل هي وعي عميق برقابة الله الدائمة، واستشعار حضوره في تفاصيل السلوك والقرار. وهي التي تمنح الإنسان البصيرة الكافية لمقاومة اندفاع الهوى، وتزوده بطاقة روحية تساعده على مقاومة الإغراءات التي تستهوي النفس.

وقد لخّص القرآن هذه المعادلة الدقيقة بين ميل النفس إلى الشهوة، وقدرة الإنسان على ردعها، في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾. فهذه الآية تفتح نافذة من الأمل أمام كل من يعاني من الصراع الداخلي، وتؤكد أن النجاة ليست في اقتلاع الرغبات من الجذور – وهو أمر غير ممكن – بل في تهذيبها، وضبطها، وترويضها بنور الخشية وإرادة الإيمان.

وهكذا، يصبح الجهاد الحقيقي للإنسان في حياته اليومية هو مجاهدة نفسه، لا قمعاً لها، بل تربية لها على أن تكون خاضعة لمبادئ الضمير، ومنضبطة ببوصلة القيم، بدلاً من أن تكون منساقة وراء شهوة عابرة أو مصلحة أنانية.

كيف نميز بين صوت الضمير ووسوسة الشيطان؟
يُطرح هذا السؤال كثيراً، خصوصاً في القضايا التي تمسّ حقوق الآخرين، حيث يحتار الإنسان: هل ما أفعله هو استجابة لنداء الضمير؟ أم أني أخدع نفسي، وأن الأمر ليس سوى وسوسة شيطانية تزيّن لي الباطل؟

التمييز هنا يحتاج إلى قاعدة واضحة:
فكرة الضمير غالباً ما تتعارض مع رغبة النفس وميلها، لأنها تدعو الإنسان للتخلي عن الأنانية والتنازل عن بعض مصالحه الخاصة لصالح ما هو أحق وأعدل.

أما الفكرة الشيطانية فهي ما تُزيّن للنفس ما تهواه، وتلبسه لباس الحق والمصلحة، لكنها في الحقيقة ليست إلا خضوعاً للأنانية.


وهذا ما أكدته روايات أهل البيت (عليهم السلام) بوضوح، ومنها: عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم»، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «مخالفة الهوى شفاء العقل». وعنه (عليه السلام): «من خالف هواه أطاع العلم». وعنه (عليه السلام): «حفظ العقل بمخالفة الهوى والعزوف عن الدنيا». وعنه (عليه السلام): «رأس الدين مخالفة الهوى» . 

فحتى لا يبقى الأمر مجرد تنظير، يمكن اعتماد خطوات عملية لاختبار صحة الأفكار الداخلية، من خلال نقد الذات وتجريد الفكرة عن تأثيرات النفس.
فمثلاً، إذا وجد الإنسان نفسه متردداً في مسألة تتعلق بحق، وتارة يرى أن الحق له، وتارة لغيره، عليه أن يسأل:
هل اعتقادي بأني صاحب الحق نابع من شواهد واقعية وأدلة؟
هل إذا عرضت هذه الأدلة على شخص محايد، سيرى أني على حق؟
هل أنا راغب حقاً في معرفة الحقيقة ولو كانت ضدي؟

وغير ذلك من الاسئلة التي تُعين الإنسان على تفكيك الفكرة من دوافعها النفسية، وتُعيده إلى الموقف الأخلاقي المحايد. وهنا يتحقق قوله تعالى: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ۝ وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ﴾، فحتى لو برر الإنسان لنفسه موقفه أمام الناس، فإن قلبه يعلم الحقيقة.

إن وجود الضمير الحي في الإنسان هو أساس كل فضيلة، وهو الذي يجعل الدين فعلاً داخلياً حقيقياً، لا مجرد طقوس ظاهرية. فالدين الذي لا يوقظ الضمير، ولا يُحرّك النفس نحو الحق، يتحول إلى تقاليد باردة، لا تصنع إنساناً نبيلاً ولا مجتمعاً عادلاً.

ولهذا، كان صوت الضمير هو امتداد لنداء الإيمان، وهو ما يُعبّر عنه في بعض العبارات بـ"نداء الرحمن"، في مقابل "نداء الشيطان" وقد ورد في بعض الروايات أن للقلب أذنان، أذن ينفث فيها الوسواس الخناس، واذن ينفث فيها الملك. فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «ما من مؤمن إلا ولقلبه اذنان في جوفه: اذن ينفث فيها الوسواس الخناس، واذن ينفث فيها الملك، فيؤيد الله المؤمن بالملك، فذلك قوله: (وأيدهم بروح منه)». والفصل بينهما لا يتم إلا بتجريد الفكرة من النفس، والنظر فيها بمنظار العقل والتجرد والنية الخالصة.

خاتمة
في عالم يعج بالمغريات والتبريرات والأنانيات، يبقى الضمير هو آخر القلاع الأخلاقية التي تحرس نقاء الإنسان، وتمنعه من السقوط في درك المصلحة الذاتية. وكلما أصغى الإنسان لهذا الصوت الداخلي، وحرص على تغذيته، كلما اقترب من جوهر الإيمان، وكلما أهمله وتمادى في إسكات نداءاته، اقترب من الغفلة التي تُغلق القلب والسمع والبصر.

فليكن الضمير هو البوصلة، حتى في أشد اللحظات حيرة، فهو لا يكذب... بل فقط ينتظر أن نُصغي إليه بصدق.

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م