8 محرم 1447 هـ   4 تموز 2025 مـ 4:33 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | أفكار ونظريات |  هل تتعارض نظرية التطور مع الإيمان بالخالق؟ قراءة هادئة في الموقف العلمي والفلسفي
2025-06-30   38238

هل تتعارض نظرية التطور مع الإيمان بالخالق؟ قراءة هادئة في الموقف العلمي والفلسفي


الشيخ مقداد الربيعي
لطالما شكّلت العلاقة بين نظرية التطور والإيمان الديني موضوع جدل واسع في الأوساط العلمية والدينية، حيث يعتقد الكثيرون أن هناك تصادماً حتمياً بين الاثنين. إلا أن الواقع يشير إلى أن هذا التصادم ليس حتمياً، بل إن العديد من العلماء والمفكرين، قدماء ومحدثين، قد أكدوا على إمكانية التوافق بين نظرية التطور والإيمان بوجود الخالق.

ومن المثير للاهتمام أن نبدأ بموقف تشارلز داروين نفسه، مؤسس نظرية التطور الحديثة. فعلى عكس ما يعتقده الكثيرون، لم تكن نظرية داروين في أصلها تهدف إلى إنكار وجود الخالق، بل كانت تركز على تفسير آلية الخلق وطريقة حدوثه. يوضح داروين موقفه بقوله: «لا يمر بي الشك خلجة من في أن ما كنت أقطع به - كما قطع الطبيعيون - من القول بأن كل نوع من الأنواع قد خلق مستقلا بذاته خطأ محض، وإني اليوم لعلى تمام الاعتقاد بأن الأنواع دائمة التغير وأن الأنواع التي نعتبرها من توابع الأجناس أعقاب متسلسلة عن أنواع طواها الانقراض» (أصل الأنواع، داروين: 60).

هذا القول يدل بوضوح على أن فرضية التطور عند داروين لا تتعارض مع كون الله خالقاً للأنواع الحيوانية، وإنما تتعارض مع كونه خالقاً لكل نوع بطريقة مستقلة عن الأنواع الأخرى. بل إن داروين نفسه دافع عن موقفه عندما اعتُرض عليه بأنه يجعل الانتخاب الطبيعي كأنه في مقام الخالق، فاعتذر قائلاً: «ولكن من الذي يقوم باعتراض على مؤلف يتحدث عن التقارب بالجاذبية على أساس أنه المسيطر على حركات الكواكب؟! كل إنسان يعلم ما الذي يعنيه وما الذي ينطوي عليه استخدام مثل هذه التعبيرات المجازية، وهذه التعبيرات غالباً ما تكون ضرورية بغرض الإيجاز» (أصل الأنواع: 161).

كما يؤكد مايكل ريوس، وهو من الملاحدة المعجبين بداروين، على أن الحجج الواردة في كتاب "أصل الأنواع" لا تقتضي الإلحاد، فيقول: «ونعلم أن الحجج الواردة في أصل الأنواع لم يجعل منها داروين نفسه ملحداً، فقد كان يعتقد أن هناك مصمماً». وحتى لو انتقل داروين في آخر حياته من الدين الربوبي إلى الإلحاد الارتيابي، فإن سبب انتقاله لم يكن راجعاً إلى فرضية التطور، وإنما إلى أسباب أخرى كمشكلة الشر في الكون أو تأثره بفلسفة هيوم.

ومن أشهر التطوريين المعاصرين الذين يرون عدم التعارض بين فرضية التطور والإيمان بوجود الخالق ستيفن جي كولد، الذي ألف كتاباً خاصاً في هذه القضية أسماه "صخرتا الزمن: الدين والعلم في امتلاء الحياة"، ودعا فيه إلى فرضية التوازي بين العلم والدين، بحيث إن كل واحد منهما له مجال خاص لا يتدخل فيه غيره (صخرتا الزمن: 61).

نظرية التطور الموجه
برزت في العقود الأخيرة نظرية تُسمى "التطور الموجه"، وهي فرضية تقوم على التسليم بأن الأنواع الحيوانية لم تُخلق خلقاً مباشراً، وإنما خُلقت عن طريق التطور كما يقول الداروينيون، ولكن التطور فيها لا يعتمد على الصدفة والعشوائية، وإنما على إرادة الله وحكمته.

يوضح إدوارد لوثر كيسيل، الأخصائي في علم الحيوان والحشرات، هذا الموقف قائلاً: «إن الانتخاب الطبيعي هو أحد العوامل الميكانيكية للتطور، كما أن التطور هو أحد عوامل عملية الخلق، فالتطور إذن ليس إلا أحد السنن الكونية أو القوانين الطبيعية، وهو كسائر القوانين العلمية الأخرى يقوم بدور ثانوي؛ لأنه هو ذاته يحتاج إلى من يبدعه ولا شك أنه من خلق الله وصنعه» (الله يتجلى في عصر العلم، تحرير جون كلوفر مونسيما: 35).

يقول عالم البيولوجيا الجزيئية فرانسيس كولنز في كتابه "لغة الإله": «لقد وجدتني منبهراً ومدفوعاً إلى تصور لا أرى عنه بدلاً في هذه الأيام التي يكشف فيها العلم في كل لحظة الغموض عن معضلة من المعضلات، إن هذا التصور هو مفهوم التطور الإلهي، أو التطور الموجه... وليس هذا المفهوم من ابتداعي، فهو فهم العديد من المتدينين المخلصين الذين تبنوا مفهوم التطور» (كيف بدأ الخلق، عمرو شريف: 234).

أما عالم الأحياء كريستيان دي دون، الفائز بجائزة نوبل، فإنه يصر على القول بأنه «لا معنى في أن الإلحاد مجبر ومفروض بالعلم"، وأعلن أستاذ الأحياء كينيث ميلر من جامعة براون أن نظرية التطور "ليست ضد الله» (القضية الخالق، لي ستروبل: 27).

الموقف الفلسفي الداعم
أجاب الفيلسوف مايكل روز، وهو من علماء التاريخ الطبيعي، عن سؤال: هل يمكن لمن يؤمن بنظرية التطور أن يكون مسيحياً؟ فقال: «نعم بكل تأكيد»، وذكر أنه «لم تُثر حجة سليمة توضح أن الداروينية تشير إلى الإلحاد» (المرجع السابق: 27).

ويؤكد الدكتور رالف لنتون أن «الاعتقاد بالتطور لا يتنافى أبداً مع الاعتقاد بوجود عقل إلهي خلاق، وما دراسة التطور إلا دراسة لآلية الخلق مع الاعتراف في نفس الوقت باستمرارية عمليته» (دراسة الإنسان: 18).

الخلاصة
إن الأدلة التاريخية والعلمية تشير بوضوح إلى أن نظرية التطور، في أصل فكرتها، لا تقتضي إنكار وجود الخالق. فقد أكد العديد من العلماء والمفكرين، من داروين نفسه إلى علماء العصر الحديث، على إمكانية التوافق بين الإيمان بالخالق وقبول نظرية التطور كآلية للخلق. هذا الموقف يفتح المجال لحوار بناء بين العلم والدين، بدلاً من الصراع الذي يصوره البعض كأمر حتمي لا مفر منه.

 

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م