تعد الحرية واحدة من القيم الإنسانية الأساسية التي لطالما شغلت عقول
المفكرين عبر العصور، سواء في الفلسفة أو الدين أو السياسة. وقد شكلت
مسألة الحرية حجر الزاوية في العديد من النقاشات الفكرية، حيث تفاوتت
الآراء حول معناها وحدودها، وفي هذا السياق يبرز التباين الجوهري بين
المفهوم الإسلامي للحرية والتصورات التي تقدمها الفلسفات المادية
الحديثة. فالفكر الإسلامي يقدّم للحرية بعداً روحياً وأخلاقياً عميقاً
يتجاوز النظرة المادية المحدودة التي ترى من خلالها الفلسفات المادية
الإنسان بوصفه كائن بيولوجي محكوم بقوانين الطبيعية.
ففي الإسلام، تُعتبر الحرية قيمة عظيمة، لكنّها ليست حرية مطلقة أو
بلا حدود. على الرغم من أن الإسلام يقرّ بأن الإنسان يمتلك الإرادة
والقدرة على الاختيار، إلا أن هذه القدرة يجب أن تُوجه نحو المسار
الذي يحقق للإنسان تكامله الروحي والأخلاقي. بمعنى آخر، يمكن
للإنسان أن يختار بين الخير والشر، لكنه في النهاية مسؤول أمام الله
عن اختياراته، ولا يمكنه أن يفعل ما يشاء بلا ضوابط، إذ يتحمل تبعات
اختياره إذا انحرف عن الطريق المستقيم.
فعندما يختار الإنسان، فإنه ليس مجرد كائن يحقق رغباته الخاصة، بل
هو كائن مكلف بتوجيه إرادته نحو ما يرضي الله وبما ينفعه في الدنيا
والآخرة. هذا المفهوم يختلف عن المفاهيم الغربية التقليدية التي
تربط الحرية أساساً بالتحرر من القيود الاجتماعية أو السياسية.
ومن هنا، نجد أن مفهوم الحرية في الإسلام يرتبط ارتباطاً وثيقاً
بمسؤولية الفرد عن اختياراته أمام الله وأمام القيم التي تحكم
الاجتماع الإنساني، قال تعالى: (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ
رَهِينٌ)، فما يختاره الإنسان بمحض إرادته هو الذي يحدد مصيره في
الدنيا والآخرة، قال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ
فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا
أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ
وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي
الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا)
كما أن الحرية في الفكر الإسلامي تشمل التفاعل مع الآخرين بشكل
عادل، أي أن حرية الفرد لا تتناقض مع حرية الآخرين. في هذا السياق،
نجد أن الإسلام يرفض أي شكل من أشكال الظلم أو الاستبداد، حيث لا
تكون الحرية حقيقة إلا عندما تتماشى مع مصلحة المجتمع، وتنسجم مع
المبادئ الأخلاقية التي شرعها الله، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ
بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا
تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ)
على عكس التصور الإسلامي الذي يرى الإنسان ككائن مركب بين الروح
والجسد، ومنح له إرادة حرة وعقلاً قادراً على التمييز واتخاذ
القرارات بناءً على القيم والأخلاق، تركز الفلسفات المادية الحديثة
على الإنسان باعتباره ظاهرة مادية بحتة. وفقاً لهذه الفلسفات، كل
سلوك أو قرار يتخذه الإنسان هو مجرد استجابة لعمليات فيزيائية
وكيميائية في الدماغ، خاضعة لقوانين الطبيعة والوراثة. بذلك، يتم
تقليص الإنسان إلى مجرد آلة بيولوجية تعمل ضمن حدود تفاعلات مادية
غير قابلة للتغيير، مما يجعل فكرة "الحرية" أو "الإرادة الحرة" مجرد
وهم ناتج عن التفاعلات العصبية والظروف البيئية، ولا علاقة لها بأي
بعد روحي أو أخلاقي.
أحد أبرز الفلاسفة الذين تناولوا هذه القضية هو سام هاريس، الذي
افرد كتاباً خاصاً تحت عنوان "الإرادة الحرة"، يوضح هاريس فيه أن
حرية الإرادة التي يشعر بها الإنسان هي في الواقع نتيجة تفاعلات
كيميائية في الدماغ، وأن الإنسان غير قادر على تحديد أفعاله بشكل
مستقل عن هذه العمليات البيولوجية. وبالتالي، فإن الحريات التي يظن
الإنسان أنه يمتلكها ليست سوى (وهم) ناتج عن نظام معقد من التفاعلات
المادية التي لا يستطيع الفكاك منها.
وعليه، تظل الحتمية المادية المسيطرة على كل جوانب الوجود تقيد
الإنسان داخل حدودها، لأنه جزء منها لا يستطيع الفكاك منها. والمخرج
الوحيد الذي يفتح أمام الإنسان طريق التحرر من قبضة المادة هو الله،
الذي منح الإنسان روح الإرادة والعقل والعلم، فرفع بذلك شأنه عن
سائر المخلوقات. أما من يرفض هذا المنطق ويشذ عن هذا الفهم، فلا مفر
له من الوقوع في فخ الحتمية في نهاية المطاف. مهما حاول دعاة
الإلحاد إخفاء هذه الحقيقة تحت شعار الحرية، فإن هذا لن يحقق لهم
النجاح، حتى وإن ارتفعت أصواتهم. فالصخب والضجيج لا يمكن أن يخفي
حقيقة لا يمكن إخفاؤها.
فالفارق الأساسي بين الفكر الإسلامي والفلسفات المادية فيما يتعلق
بمفهوم الحرية يكمن في الأسس الفلسفية التي يقوم عليها كل منهما،
فالفكر الإسلامي يتبنى نظرة شمولية متكاملة للحرية، حيث ترتبط
الحرية ارتباطاً وثيقاً بالإرادة الإلهية، فالإنسان لا يفعل ما يشاء
دون قيد أو شرط، وإنما يفعل في إطار المبادئ التي فرضها الله سبحانه
وتعالى، وفي هذا السياق، تُعتبر الحرية اختباراً أخلاقياً وروحياً
يعكس مدى قدرة الإنسان على اختيار الخير والتحرر من شهوات النفس في
سبيل تحقيق العدالة والفضيلة.
أما الفلسفات المادية، فتعتبر أن الحرية هي مجرد مسألة بيولوجية،
تتعلق بالقدرة على اتخاذ القرارات بناءً على التفاعلات الفيزيائية
والبيولوجية في الدماغ، فمن منظور مادي بحت، يُعتبر الإنسان كائناً
مادياً يخضع لقوانين الطبيعة، ويُستبعد أي بُعد روحي أو معنوي في
تفسير حركته وقراراته. في هذا السياق، يشير الفلاسفة الماديون إلى
أن ما يُسمى بالحرية هو في الحقيقة مجرد إحساس زائف بالاختيار، ناتج
عن عمليات بيولوجية قد يعتقد الإنسان أنها تتعلق بإرادته الحرة،
لكنها محكومة في الواقع بعوامل مادية محددة. لذلك، في الفلسفات
المادية، ليست الحرية سوى تمثيل نفسي لعملية معقدة من التفاعلات
الميكانيكية في الدماغ والجهاز العصبي.
إن الحسم بين هذين التصورين ليس أمراً سهلاً، فكل تصور منهما يعكس
مساراً فكرياً مختلفاً تماماً، فالفكر الإسلامي يتجاوز البُعد
المادي للحرية ليربطها بمسؤولية الإنسان أمام خالقه. هذا التوجه
الإسلامي يعكس بعداً أخلاقياً وروحياً عميقاً، حيث يُنظر إلى الحرية
على أنها ليست مجرد قدرة على الاختيار بين البدائل المتاحة في
الدنيا، بل هي أيضاً مسؤولية أمام الله، تتطلب التزاماً بالقيم
الدينية والاجتماعية التي ترتكز على العدالة والرحمة.
ومن هنا يمكننا القول إن الفكر الإسلامي يقدم للحرية مفهوماً يتجاوز
حتمية المادة، إذ يمنح الإنسان القدرة على اختيار الطريق الذي يؤدي
إلى الكمال الروحي والمادي، وبذلك تصبح الحرية وفق الفكر الإسلامي
عملية متكاملة، تشمل كل جوانب الحياة البشرية: العقلية، النفسية،
الاجتماعية، والروحية، فالإنسان في الإسلام يُعتبر حراً عندما يتبنى
الإرادة الحرة التي تُفضي إلى اتباع الهداية الربانية.
أما في الفلسفات المادية، التي تتبنى منظوراً طبيعياً أو بيولوجياً،
يتم اختصار مفهوم الحرية إلى مجرد الاستجابة لعوامل بيئية
وبيولوجية، وهو ما يؤدي إلى إلغاء أي بعد أخلاقي أو روحي لهذه
الحرية. بالنسبة للفلاسفة الماديين، الحرية لا تتجاوز كونها مجموعة
من الاختيارات التي يتخذها الفرد بناءً على ظروفه البيئية
والتفاعلات البيولوجية في دماغه. وبالتالي، فإن الحرية في هذا
السياق تكون محكومة بقوانين حتمية تحكم الإنسان بشكل كامل، سواء كان
ذلك عن طريق الوراثة أو البيئة المحيطة به.
إن هذا التباين بين التصورين يثير العديد من التساؤلات الجوهرية حول
معنى الحرية في كل منهما، ففي ظل الفكرة المادية، هل يمكن أن يُعتبر
الإنسان حراً حقاً إذا كانت كل اختياراته محكومة بقوى بيولوجية أو
بيئية خارجة عن إرادته؟ إذا كان الإنسان مجرد منتج للتفاعلات
البيولوجية والبيئية، فهل لديه حرية حقيقية أم أن ما يشعر به من
حرية هو مجر (وهم) ناتج عن عدم دراسته للظروف التي تحكمه؟ وهل يظل
الإنسان حراً إذا كان مقيّداً بالهياكل البيولوجية التي تحدد طريقة
تفكيره واتجاهاته؟
وفي المقابل، في الفكر الإسلامي، هل يمكن اعتبار الإنسان في هذه
الحالة حراً حقاً؟ وهل يمكن لهذا التصور أن يتوافق مع مفهوم الحرية
الشخصية في العصر الحديث الذي ينادي بالتحرر من القيود الدينية أو
الأخلاقية؟
من هنا، يمكن القول أن الحرية في الفكر الإسلامي تعكس مستوى أعلى من
الوعي المسؤول. فالإنسان في الإسلام ليس مجرد كائن بيولوجي محدود
بالقوانين الطبيعية، بل هو كائن مكلف روحياً وأخلاقياً، يمتلك حرية
الإرادة التي يجب أن تُستخدم في خدمة أهداف سامية تتجاوز الذات
الفردية. في هذا السياق، يصبح السؤال: "هل الإنسان حر حقاً؟" ذا
طابع أعمق، يتعلق بماهية الإنسان وهدفه من الوجود، وليس مجرد القدرة
على اتخاذ القرارات الشخصية. لذلك، فإن الحرية في الإسلام تصبح
مسؤولية اجتماعية وأخلاقية، حيث يتم تقييم اختيارات الإنسان وفقاً
لما يحققه من عدالة وتوازن في المجتمع.
أما في الفلسفات المادية، فإن الحرية تُختصر إلى مستوى محدود يعبر
عن قدرات الإنسان على الاختيار، لكن هذا الاختيار ليس حقيقياً بما
أن كل فعل هو نتيجة لظروف سابقة لا يمكن الفكاك منها. من هنا، تصبح
الحرية في الفكر المادي مسألة ضيقة لا تتجاوز حدود الاختيارات
البيئية والشخصية التي قد يراها الفرد متاحة أمامه.
وفي الختام عند المقارنة بين المفهوم الإسلامي للحرية والفلسفات
المادية، نلاحظ بوضوح الفروق الجوهرية في فهم كل منهما لهذه
القيمة الإنسانية. بينما يرى الإسلام أن الحرية هبة من الله،
ترتبط بمسؤولية دينية وأخلاقية تجاه الذات والمجتمع، فإن الفلسفات
المادية تختزل الحرية في مفاهيم بيولوجية وبيئية ضيقة. هذه
المقارنة تفتح الباب أمام تساؤلات فلسفية عميقة حول طبيعة الحرية
الإنسانية، وضرورة النظر إليها من منظور أخلاقي وروحي يتجاوز حدود
المادة.
الكاتب الشيخ معتصم السيد أحمد