

| مقالات | الحقيقة الإسلامية بين وحدة الدين وتعدد المذاهب
2025-10-21 26

الحقيقة الإسلامية بين وحدة الدين وتعدد المذاهب
الشيخ معتصم السيد أحمد
تُثار في الفكر المعاصر إشكالية
خطيرة تستهدف التشكيك في وجود حقيقة إسلامية واحدة تمثّل مراد الله
تعالى، وتنطلق هذه الإشكالية من دعوى أن الحقيقة بطبيعتها أمر نسبي
لا يمكن الجزم به، وأن كل المذاهب الإسلامية – رغم اختلافها
وتناقضها – تعبّر بطريقة متساوية عن تلك الحقيقة. ومن هنا، يُسوّى
بين المذاهب جميعاً، حتى لو كانت متعارضة في أصول العقيدة ومناهج
الفهم. وهذه الدعوى، في ظاهرها دعوة إلى التسامح والانفتاح، لكنها
في عمقها تنسف أساس الدين القائم على اليقين والبرهان، لأنها تجعل
الإسلام نفسه مفهوماً غير محدد الملامح، وتختزل الوحي في تجربة
بشرية قابلة للتبدل والتحوير.
إنّ أول ما ينبغي إدراكه هو أن
الإسلام في جوهره رسالة واحدة من رب واحد، نزلت على رسول واحد، في
كتاب واحد، له هدف واحد، فكيف يمكن القول بأن تلك الرسالة تتعدد إلى
صور متناقضة كلها تمثل الحقيقة؟ فالقرآن الكريم لا يتحدث عن حقائق
متعددة، بل يقرر بوضوح أن الحق واحد لا يتعدد، وأن ما عداه باطل،
قال تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾. ومن هنا
فإنّ التباين بين المذاهب لا يُحسم بإنكار الحقيقة الإسلامية، وإنما
بالبحث عن البرهان الذي يثبت أيّها أقرب إلى ما أراده الله تعالى
فعلاً.
وإذا كانت بعض الاتجاهات الفكرية
الحديثة قد تبنّت مقولة النسبية، فإنّ جذر هذه المقولة يعود إلى
جانب الضعف في الإنسان، حيث تُرجع المعرفة إلى الانفعال بالمحيط
والظروف الذاتية، لا إلى القوة العاقلة القادرة على تجاوز تلك
المؤثرات. فالإنسان الذي يسلّم بانفعاله أمام العوامل النفسية
والاجتماعية يرى أن كل معرفة هي انعكاس لموقف ذاتي، وأنه لا وجود
لحقائق موضوعية ثابتة. أما الإسلام، فقد بنى رؤيته للإنسان على
التوازن بين جانبي القوة والضعف فيه؛ فالعقل هو مصدر القوة الذي
يسمو بالإنسان ويتجاوز به حدود الزمان والمكان والمزاج الشخصي،
بينما الهوى هو مصدر الضعف الذي يجعله أسير أهوائه وظروفه
المادية.
ولهذا كان القرآن شديد العناية
بالتمييز بين العقل والهوى، فكما أمر بالعقل والتفكر والتدبر، نهى
عن اتباع الأهواء التي تُعمي البصيرة. قال تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ
الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وقال: ﴿وَأَمَّا مَنْ
خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾، وقال
أيضاً: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾. فلو كانت الذاتية
حتمية كما تزعم النسبية، لما نهى القرآن عنها، ولما دعا الإنسان إلى
مقاومتها. بل إنّ مجمل الخطاب القرآني قائم على اعتبار الإنسان
مسؤولاً عن تحرير معرفته من سطوة الهوى والشهوة، لأن الانقياد لهما
هو الذي يشوه الحقيقة ويجعلها تابعة للميول لا للواقع.
من هنا يمكن القول إنّ النسبية
المعرفية ليست إشكالية فكرية فحسب، بل هي انحراف أخلاقي أيضاً،
لأنها تبرر للإنسان أن يختار ما يشاء من العقائد دون مسؤولية، وأن
يتعامل مع الحقيقة وكأنها لعبة أذواق. أما المنهج الإسلامي، فيقوم
على الاعتراف بأن للحقائق وجوداً موضوعياً خارج الذات الإنسانية،
وأن مهمة الإنسان هي اكتشافها بالعقل والبرهان لا اختراعها بالهوى
والانفعال. فكلّما تجرد الباحث عن ذاته اقترب من الحقيقة، وكلّما
استسلم لهواه ابتعد عنها.
وعند إجراء تحقيق موضوعي في تشكّل
المذاهب الإسلامية، يتضح أن كثيراً منها لم ينشأ من بحث علمي خالص،
بل من دوافع سياسية أو قبلية أو شخصية، أدّت إلى انحرافات في الفهم
أو التأويل. ولذا لا يمكن التسليم بأن جميع المذاهب تعبّر بالضرورة
عن الإسلام كما أراده الله تعالى، بل إنّ كثيراً منها صورٌ بشرية
متأثرة بالظروف والتجاذبات التاريخية. ومع ذلك، فإنّ رفض القول
بنسبية الحقيقة لا يعني الدعوة إلى التعصب أو إلغاء الحوار، بل على
العكس، يعني احترام البرهان والعقل والمنهج العلمي، وفتح باب النقاش
للوصول إلى الحق الواحد لا إلى "حقائق" متناقضة.
فمن الضروري التمييز بين أمرين:
الاعتراف بوجود المذاهب بوصفها حقائق اجتماعية تاريخية، والاعتراف
بمشروعية كل مذهب بوصفه معبّراً عن الحقيقة الإلهية. الأول واقعٌ لا
يمكن إنكاره، أما الثاني فلا يصح التسليم به إلا بالبرهان. فاحترام
المذاهب لا يعني قبولها جميعاً كطرق متكافئة إلى الله، لأن الله
واحد، ودينه واحد، وشريعته واحدة. والقول بتعدد الحقائق هو في جوهره
قول بتعدد الأديان داخل الإسلام نفسه، وهو ما لا يقبله منطق
القرآن.
من هنا فإنّ واجب كل مسلم أن
يتحرّى الحقيقة بعيداً عن العصبية والانفعال، وأن يجعل ميزانه العقل
والبرهان لا الانتماء المذهبي أو الوراثة الاجتماعية. فالمذهبية
ينبغي أن تُمحَّص بالحق، لا أن يكون الحق تابعاً لها. وإذا كان
الناس يختلفون في المذاهب، فليس الحل في إلغاء الحقيقة من الأساس،
بل في توسيع مائدة الحوار العلمي الصادق حتى يتبيّن الصواب من
الخطأ، ويتجلّى وجه الإسلام الأصيل من بين الاتجاهات
المتعارضة.
وما من شك أن الإسلام نفسه وضع
آليات داخلية لاكتشاف الحقيقة، أهمها معيار البرهان، حيث قال تعالى:
﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾. فالبرهان هو
الحَكَم الذي يفصل بين المذاهب، لا العاطفة ولا الكثرة ولا التاريخ.
ومن هنا لا يصحّ القول إن كل مذهب يملك حصّة من الحق بنفس الدرجة،
لأن الله لا يكلّف الناس بالوصول إلى "نسب" من الحقيقة، بل بدينٍ
واحدٍ هو الحق الكامل، وما دونه باطل نسبي.
وإذا كان التشيع – في نظر الباحث
المنصف – يمتلك منظومة متكاملة من الحجج والأدلة التي تربطه بجوهر
الرسالة، فإنّ هذا لا يُقدَّم ادعاءً، بل يُترك للحوار العلمي
والبحث الموضوعي أن يُظهره، لأن الانتصار للحقيقة لا يتحقق
بالشعارات بل بالبرهان والتجرد. فالحق يُعرف بدليله، لا بانتماء
أصحابه إليه.
وفي نهاية المطاف، لا يمكن للعقل
الإسلامي أن يقبل القول بنسبية الحقيقة دون أن يفقد جوهره الإيماني،
لأن الإيمان ذاته قائم على اليقين لا على الاحتمال. ومن هنا، فإنّ
رفض النسبية لا يعني الانغلاق، بل يعني الإيمان بأن الحقيقة يمكن
الوصول إليها إذا طهّر الإنسان نفسه من الهوى، واستعمل عقله الذي هو
نور الهداية الإلهية. فبين العقل والهوى يتحدّد مصير الإنسان في
معرفة الحق من الباطل، وبهما تُبنى الأمة على أساس الوعي والبرهان
لا على الانفعال والاتباع.
كلمة أخيرة:
إنّ الإسلام لا ينكر صعوبة الطريق
إلى الحقيقة، لكنه يرفض اعتبارها مستحيلة. فالذاتية والهوى عقبات،
لا قدَر محتوم. وما دام الله قد أمر بالتعقل ونهى عن الهوى، فهذا
دليل على أن الحقيقة يمكن أن تُعرف، وأنها واحدة لا تتعدد، لأنّ ربّ
الحقيقة واحد، وكتابه واحد، ورسوله واحد، والحق لا يتجزأ.
الأكثر قراءة
35904
19756