17 جمادي الاول 1447 هـ   7 تشرين الثاني 2025 مـ 12:41 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | مقالات  |  الحقيقة بين الشك واليقين
2025-11-06   30

الحقيقة بين الشك واليقين


الشيخ معتصم السيد أحمد

في خضم التحولات الفكرية الكبرى التي شهدها العالم المعاصر، تصدّرت مسألة "نسبية المعرفة والحقيقة" قائمة القضايا الفلسفية التي أُثيرت ضد الدين، وخصوصاً ضد الإسلام، في محاولة لتقويض أسس الإيمان واليقين. فحين يُقال إن الحقيقة المطلقة غير قابلة للإدراك، أو إن كل معرفة بشرية نسبية، فإن هذا يعني عملياً نفي إمكانية الإيمان بشيء ثابت، سواء أكان ذلك عقيدة دينية أو قيمة أخلاقية أو حتى حقيقة علمية. وبهذا يصبح الدين ـ بل والفكر الإنساني كله ـ مجرد رأي شخصي أو تجربة ذاتية لا تملك معياراً موضوعياً للحكم على صدقها أو بطلانها.

إنّ الجذور الفلسفية لهذا الاتجاه تعود إلى ما قبل الميلاد، حين برزت في الفكر اليوناني القديم مدارس العدمية والسفسطة التي أنكرت إمكانية الوصول إلى الحقيقة. وقد كان السفسطائيون يرون أن الإنسان هو "مقياس كل شيء"، بمعنى أن ما يراه الفرد صواباً فهو الصواب بالنسبة له، وما يراه باطلاً فهو الباطل في حقه. وبهذا ألغوا أي معيار موضوعي يمكن الاحتكام إليه في تمييز الصدق من الكذب أو الخير من الشر. هذه البذرة الفكرية الأولى للنسبية ظلت حاضرة في الفكر الغربي عبر القرون، وتحوّلت في العصور الحديثة إلى نظريات فلسفية أكثر تنظيماً وتأثيراً.

ومع انطلاق الفلسفة الحديثة، حاول ديكارت أن يجعل من الشك منهجاً للوصول إلى اليقين، لكن هذا المنهج تحوّل عند كثيرين من بعده إلى موقف سلبي يشكّ في كل شيء. فبدلاً من أن يكون الشك وسيلة للبحث، أصبح غاية في ذاته، حتى باتت إمكانية الوصول إلى الحقيقة موضع تساؤل دائم. ثم جاءت البراغماتية في الولايات المتحدة لتقلب المعادلة رأساً على عقب، فجعلت معيار الحقيقة ليس مطابقتها للواقع، بل نفعها العملي. فكل ما ينفع الإنسان ويحقق له مصلحة آنية هو "الحقيقة"، بصرف النظر عن مطابقته للواقع الموضوعي. وهكذا تحوّلت الحقيقة من كونها وصفاً للواقع إلى أداة نفعية متغيرة بتغير الزمان والمكان.

لكن الطور الأخطر في مسار النسبية المعرفية جاء مع فلاسفة ما بعد الحداثة في القرن العشرين، مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا وريتشارد رورتي، الذين أعلنوا سقوط مفهوم الحقيقة المطلقة، مؤكدين أن المعرفة ليست سوى بناء لغوي وثقافي يحدده المجتمع والسلطة. ففوكو مثلاً ربط بين المعرفة والسلطة، واعتبر أن ما يُسمى "حقيقة" ليس إلا ما تفرضه القوى المهيمنة. أما دريدا فقد بنى مشروعه التفكيكي على نفي المعنى الثابت للنصوص، قائلاً إن "لا وجود لشيء خارج النص"، أي أن الحقيقة ليست في الواقع بل في اللغة، وأن كل نص يمكن أن يُفسَّر بعدد لا نهائي من التأويلات المتناقضة. في حين رأى رورتي أن الحقيقة ليست سوى ما يتوافق عليه الناس ضمن ثقافتهم، ولا وجود لمعيار فوق لغوي أو فوق اجتماعي يمكن الاحتكام إليه.

هذه المقولات وإن بدت في ظاهرها دفاعاً عن الحرية الفكرية وتعدد وجهات النظر، إلا أنها تنطوي على خطر كبير، لأنها تنسف الأساس الذي يقوم عليه أي حوار أو علم أو إيمان. فإذا كانت الحقيقة مجرد بناء اجتماعي، فإن كل منظومة فكرية أو دينية تفقد معناها، لأن أي معتقد يمكن أن يُنسب إلى سياق ثقافي خاص، دون أن يُقال إنه صحيح أو باطل. ولهذا وجدت هذه النظريات طريقها إلى بعض المفكرين العرب الحداثيين الذين حاولوا توظيفها لتبرير القول بأن الدين نفسه ليس سوى نتاج ثقافي تاريخي، وأن مفاهيم كالتوحيد والشريعة والنبوة ليست حقائق إلهية مطلقة، بل تصورات بشرية متغيرة.

إلا أن هذا الاتجاه يقوم على تناقض داخلي واضح، وهو أول ما يكشف هشاشته الفكرية. فحين يقول القائل: "لا توجد حقيقة مطلقة"، فإن عبارته هذه تُعد في ذاتها حكماً مطلقاً، أي أنها تقرّ بوجود حقيقة واحدة على الأقل، هي أنه "لا توجد حقيقة"! وبهذا تنقض نفسها من الداخل. كما أن التواصل الإنساني نفسه يستحيل إنكار الحقيقة فيه، لأن أي حوار بين شخصين يستلزم التسليم بوجود معانٍ محددة وكلمات لها دلالات متفق عليها، وإلا لما أمكن فهم أي عبارة أو نقاش أي فكرة.

أما النزعة الشكّية، التي بدأت كمنهج بحثي علمي، فقد انتهت إلى طريق مسدود لأنها تناقض طبيعة العقل نفسه. فالعقل البشري قائم على مبادئ فطرية أولية لا يمكن الشك فيها، مثل مبدأ عدم التناقض، ومبدأ الهوية، ومبدأ السببية. ولو أنكر الإنسان هذه المبادئ لما استطاع أن يفكر أو يتكلم أو يتخذ قراراً. فالشخص الذي يشك في وجود الحقيقة، في الواقع يستعمل هذه الحقيقة ذاتها حين يفكر ويبرهن ويجادل، لأنه يسلّم ضمنياً بصحة القوانين العقلية التي يعتمد عليها في تفكيره. ولهذا فإن الشكّ المطلق ليس فقط مرفوضاً دينياً، بل هو مستحيل عقلاً وعملاً.

وأما البراغماتية التي جعلت معيار الحقيقة هو النفع، فهي أيضاً لا تصمد أمام النقد، لأن النفع يختلف باختلاف الأشخاص والظروف. فما ينفع فرداً قد يضر غيره، وما ينفع اليوم قد يصبح ضاراً غداً. فإذا كانت الحقيقة تتبدل مع تغير المنافع، فمعنى ذلك أنه لا وجود لأي معيار ثابت للصدق، وأن الكذب يمكن أن يصبح "صحيحاً" إن كان نافعاً، وهو ما يؤدي إلى فوضى أخلاقية ومعرفية. وفي المقابل، فإن الإسلام يجعل النفع والضرر تابعين للحق، لا العكس، فالحقيقة هي ما يطابق الواقع ويُرضي الله، لا ما يوافق المصلحة الآنية، قال تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ﴾، فالحق من الله ثابت لا يتغير.

أما الفكر ما بعد الحداثي فقد وقع في مأزق أكبر، إذ إن نفي المعنى الثابت للنصوص يجعل اللغة نفسها بلا وظيفة. فإذا كانت كل عبارة تحتمل معاني لا متناهية، فكيف نفهم كلام دريدا نفسه؟ وكيف نعرف أنه قصد بالفعل ما نقرأه؟ إن مقولته "لا وجود لشيء خارج النص" تهدم نفسها لأنها تجعل من المستحيل فهمها على نحو محدد. وكذلك أطروحة فوكو التي تربط الحقيقة بالسلطة، تبرر كل أشكال القهر والطغيان، لأن أي سلطة يمكن أن تدّعي أنها تمتلك "حقيقتها" الخاصة التي تفرضها على الآخرين، فلا يبقى معيار للعدالة أو الظلم.

من هنا، فإن الرد على هذه التيارات لا يكون بالرفض الانفعالي، بل بإعادة بناء الرؤية المعرفية على أساس عقلاني ووحياني متكامل. فالإسلام لا يرفض دور العقل ولا يحصر المعرفة في النصوص، بل يجمع بين نور العقل وهداية الوحي. العقل يثبت وجود الحقائق الثابتة من خلال بدهياته وفطرته، والوحي يكشف له ما وراء عالم الشهادة من سنن وقوانين إلهية. فالمعرفة في الإسلام تقوم على التوازن بين العقل الذي يدرك، والوحي الذي يرشد، وبين الواقع الذي يُختبر، والغيب الذي يُؤمن به.

إنّ القرآن الكريم يؤكد على أن الحقيقة ليست متغيرة ولا نسبية، بل هي ثابتة لأنها من الله تعالى، قال سبحانه: ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾، ويقول أيضاً: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾. فالإيمان بالحق لا يُفرض بالإكراه، لكنه قائم على يقين بأن هناك حقاً واحداً لا يتعدد بتعدد الثقافات، لأن مصدره إلهي لا بشري. وهذا هو ما يمنح الدين قوته في مواجهة التيارات النسبية التي تريد إذابة الثوابت في بحر من الشكوك.

وهكذا يتضح أن فكرة نسبية الحقيقة ليست سوى قناع فلسفي للفوضى الفكرية والأخلاقية. فهي ترفع شعار الحرية، لكنها في النهاية تلغي كل معنى للحرية، لأن من لا يملك معياراً للحقيقة لا يستطيع أن يختار الصواب من الخطأ. في حين أن الإيمان بوجود حق مطلق، كما يقرره الوحي والعقل، يمنح الإنسان أساساً صلباً يبني عليه فكره وحياته، ويصون كرامته من عبث الشك المعرفي الذي يحوّل الإنسان إلى كائن تائه بلا بوصلة.

وبذلك، يمكن القول إن الإسلام يقدم للإنسان رؤية معرفية متكاملة، تحفظ للعقل سلطانه وللوحي نوره، وتجعل الحقيقة هدفاً ممكناً لا وهماً ميتافيزيقياً. فاليقين ليس وهماً كما تدّعي الفلسفات المعاصرة، بل هو فطرة مغروسة في كيان الإنسان، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾. هذه الفطرة هي الضمانة الأخيرة ضد تيارات العدمية التي تريد أن تُطفئ نور اليقين في قلب الإنسان. ومن هنا، فإن الإيمان بالحقائق الثابتة ليس رجعية فكرية، بل هو مقاومة راقية للفوضى، وصون للعقل الإنساني من الانتحار المعرفي الذي تسوقه إليه فلسفات النسبية المعاصرة.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م