24 جمادي الثاني 1447 هـ   15 كانون الأول 2025 مـ 11:25 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | مقالات  |  سُنَن الاستبدال لماذا تتقدّم أمم وتتراجع أخرى؟
2025-12-12   34

سُنَن الاستبدال لماذا تتقدّم أمم وتتراجع أخرى؟


الشيخ معتصم السيد أحمد
يقدّم التاريخ الإنساني مشهداً دائم الحركة، تتبادل فيه الأمم مواقعها كما تتبادل الفصول أدوارها في دورة السنة. دولٌ تنهض من رحم الضعف، وأخرى تهوي من قمّة القوة، وأممٌ تشكّل مركز الحضارة لقرون ثم تُصبح هامشاً بعيداً، بينما يتصدّر غيرها المشهد من جديد. وليس هذا التقلب عشوائياً ولا خاضعاً لمحض القوة العسكرية أو الاقتصادية، بل تحكمه سنن ثابتة وصفها القرآن الكريم بدقة حين تحدّث عن الاستبدال بوصفه قانوناً من قوانين التاريخ: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ}. وهذه الآية ليست خطاباً لجماعة بعينها، بل قانوناً ممتداً يخترق الأزمنة، يؤكد أنّ موقع الأمم ليس قدراً أبدياً، بل مقامٌ معلّق بمدى وفائها بالشروط التي تُبقيها في دائرة النهوض.

إنّ الاستبدال ليس حدثاً فجائياً يأتي كالصاعقة، بل هو نتيجة تدريجية تتشكل في أعماق المجتمع قبل أن تظهر على السطح. تبدأ القصة عادةً بدعوة أو فكرة أو منظومة قيمية جديدة تنشأ داخل أمة تبحث عن معنى، فيتجمّع حولها أفراد يحملون رؤية مختلفة، ومن مجموع هذه الإرادات تنشأ حركة اجتماعية تتجه نحو تغيير الواقع. فالنهضة لا تبدأ بجيوش ولا باقتصاد، بل بفكرة تسبق كل شيء، لأن الفكرة هي الشرارة التي تُشعل إرادة التغيير في النفوس، ومن دونها يبقى المجتمع راكداً مهما توفرت له الثروة أو القوة.

وحين تتجسد الفكرة في مشروع عملي، يبدأ المجتمع في التحول: تتغير أولوياته، تتجدد روح العمل، تُعاد صياغة منظومة القيم، ويزداد الشعور بالمسؤولية تجاه المستقبل. عندها تبدأ الأمة بالصعود. هذا الصعود يلقى عادة مقاومة من القوى القديمة أو من العقليات التي تستسلم للجمود، لكن سنة الله تقضي بأن الفكرة الحية أقوى من البنية الهرمة، وأن من امتلك روح المبادرة لا يبقى في الهامش طويلاً.

وعلى الجانب الآخر، حين تبدأ أمة بالتراجع، لا يحدث ذلك لأن عدوّاً هاجمها فجأة، بل لأن شيئاً من الداخل انهار قبل الهجوم الخارجي بزمن طويل. فالتاريخ يبين أن الأمم لا تُهزم إلا من داخلها أولاً، وحين تتفكك بنية النفس الجماعية، يصبح السقوط الخارجي مجرد نتيجة متأخرة. هذا ما حدث لبابل التي انهارت أخلاقياً وإدارياً قبل أن يسقط جدارها العسكري، وما جرى لروما حين أرهقها الترف والفساد قبل أن تغزوها القبائل الشمالية، وما أصاب الأندلس التي انهارت وحدتها الداخلية قبل أن تلتهمها الحروب الخارجية. وفي كل هذه النماذج، يتكرّر المشهد نفسه: يبدأ الاستبدال حين تفقد الأمة ما كانت تنهض به في الأصل، وحين يتراجع الإنسان داخلها عن دوره في صناعة المستقبل.

والقرآن يربط بين هذا التراجع وبين القانون العام الذي يحكم مصائر المجتمعات: {إِنَّ اللّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. فالتغيير يبدأ من النفس، وينتهي في الواقع. وإذا تعطلت النفس، تعطّل معها كل شيء. وإذا تخلّى الناس عن رسالتهم أو فقدوا وعيهم بذواتهم أو استسلموا للترف والجمود، فإن سنة الاستبدال تبدأ عملها. وليس الاستبدال عقوبة بمعنى العقوبة البشرية، بل هو انتقال طبيعي في مسار الحياة، يشبه انتقال القيادة من شخص أنهى مهمته إلى آخر يملك من الشروط ما يؤهله لحملها.

ومن العجيب أن الاستبدال لا يعني دائماً فناء الحضارة السابقة بالكامل، بل غالباً ما تبقى آثارها ممتدة في الحضارة التالية. فالعلوم اليونانية انتقلت إلى العالم الإسلامي فأصبحت جزءاً من بنيته العلمية، وعلوم المسلمين انتقلت إلى أوروبا فأصبحت أساس نهضتها الحديثة، والمعارف التي قدّمها الشرق القديم أصبحت رصيداً مشتركاً للبشرية كلها. وهكذا يصبح الاستبدال ليس فقط انتقال السلطة بين الأمم، بل انتقالاً للمعرفة والقيمة والخبرة أيضاً. فهو حركة تجديدية تعيد توزيع الأدوار بين الأمم، لا حركة إلغاء مطلقة.

ومع ذلك، يبقى السؤال: لماذا تتقدم أمم وتتراجع أخرى رغم توفر الظروف المادية نفسها؟ الجواب أن التقدم لا يعتمد على الإمكانات وحدها، بل على الروح. فالأمم التي تملك روح المبادرة، وتنهض بقيم قوية، وتؤمن بقدرتها على التغيير، يمكنها أن تبدأ نهضتها ولو كانت فقيرة. بينما الأمم التي تفقد هذه الروح يسهل انهيارها ولو كانت غنية. والدليل أن كثيراً من الحضارات العظيمة سقطت وهي في ذروة القوة الاقتصادية أو العسكرية لأنها فقدت روحها الداخلية، ففقدت معها قدرتها على البقاء.

ومن مظاهر الاستبدال الكبرى في التاريخ أن الأمم التي تنحرف عن قيمها الأساسية، أو تتخلى عن العدل، أو تُسرف في الظلم، أو تستهلك طاقاتها في صراعات داخلية، تصبح غير صالحة لحمل رسالة الحضارة، فيأتي غيرها ممن يملك استعداداً أفضل. وهذه ليست رؤية تشاؤمية، بل قانون بنّاء يجعل الأمم دائماً في حركة نحو الأفضل. فالاستبدال ليس نهاية، بل بداية؛ ليس موتاً مطلقاً، بل ولادة لمرحلة جديدة. إنه يشبه الدورات الطبيعية في الكون: فصلٌ يذبل ليأتي بعده فصلٌ يزهر. وكل أمة مسؤولة عن اختيار موقعها في هذا المسار: أن تكون بين الأمم التي تنهض، أو بين الأمم التي تُستبدل.

وفي عصرنا الحديث، نرى ملامح واضحة لهذا القانون. قوى كانت في الماضي مجرد هوامش استعمارية أصبحت اليوم في مقدمة الاقتصاد العالمي، ودول كانت في مركز العالم صارت تعاني من التصدع الداخلي. وهذا التحول لا يحدث لأن الزمن يجور على أحد أو لأن الحظ يبتسم لآخر، بل لأن الأمم التي تتقدم عرفت كيف تحيي قيمها الداخلية، وكيف تنسجم مع سنن التاريخ، بينما التي تتراجع أهدرت طاقتها أو تنازلت عن شروط بقائها. وهكذا تكون حركة الأمم جزءاً من نظام محكم لا يحابي أحداً ولا يستثني أحداً.

وفي النهاية، فإن إدراك سنّة الاستبدال يمنح الأمة وعياً عميقاً بمسؤوليتها. لأنه يعلّمها أن مواقعها ليست أبدية، وأن مصيرها ليس مكتوباً في حجر، وأن قدرتها على البقاء أو السقوط مرتبطة بما تختاره في حاضرها لا بما ورثته من ماضيها. وكل أمة تريد البقاء ينبغي أن تنظر في داخلها قبل أن تنظر حولها، وأن تعيد اكتشاف رسالتها قبل أن تتحدث عن مشاريعها، وأن تبني إنسانها قبل أن تبني عمرانها. فالمستقبل لا يُمنح، بل يُصنع، والأمم التي لا تصنع مستقبلها تُستبدل بأمم تصنعه.

هكذا تتقدم أمم وتتراجع أخرى، ليس صدفة، ولا تقلباً سياسياً عابراً، بل وفق قوانين لا تتغير، تؤكد أن الحضارات مثل الإنسان: تولد، تنمو، تشتد، ثم تضعف، لتفسح المجال لمن يأتي بعدها. ومن يفهم هذه السنن يملك فرصة النجاة، ومن يغفلها يجد نفسه خارج حركة التاريخ، لأن القانون الإلهي لا يتوقف، والاستبدال ماضٍ في الأمم ما دامت الحياة على هذه الأرض.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م