10 رجب 1447 هـ   30 كانون الأول 2025 مـ 7:24 صباحاً كربلاء
سجل الايام
في مثل هذا اليوم من عام 195هـ، ولد الإمام محمّد الجواد، وهو تاسع أئمة أهل بيت النبي محمد صلوات الله عليهم أجمعين، وقد عاش (25) سنة؛ كانت مدة إمامته فيها (17) سنة.
القائمة الرئيسية

 | مقالات  |  الدين بين الثبات القيمي والتكيّف التاريخي
2025-12-23   68

الدين بين الثبات القيمي والتكيّف التاريخي



الشيخ معتصم السيد أحمد
حين يُطرح سؤال الثابت والمتحوّل في الدين، لا يُطرح بوصفه سؤالاً نظرياً مجرداً، بل بوصفه سؤالاً يمسّ جوهر العلاقة بين الوحي والحياة، وبين النص والواقع، وبين المطلق الإلهي والإنسان المحدود المتغيّر. فالدين الذي لا يمتلك ثوابت يفقد هويته، والدين الذي لا يفسح مجالاً للتحوّل يفقد قدرته على الاستمرار والتفاعل مع التاريخ. ومن هنا تنشأ الحاجة إلى بناء تصور متوازن يميّز بين ما ينبغي أن يبقى ثابتاً بوصفه روح الدين وقيمته، وبين ما يتحوّل بوصفه آلية تطبيق هذه القيم في سياقات مختلفة.

إن الحديث عن حقائق ثابتة لا يمكن أن ينفصل عن الحديث عن القيم الكلية والقواعد العامة، لأن هذه القيم هي وحدها القادرة على العبور فوق الأزمنة، وعلى الانطباق على الوقائع المتغيرة دون أن تفقد معناها أو فاعليتها. أما التفاصيل الجزئية، المرتبطة بزمان أو مكان أو ظرف اجتماعي خاص، فإنها بطبيعتها لا تملك هذه القابلية على الاستمرار. ولهذا فإن البحث عن الثابت لا يكون في الجزئيات، بل في الأصول، ولا يكون في الصور، بل في المعاني.

ومن هنا تتضح العلاقة الجوهرية بين ثبات الدين وكونه مبدأً إلهياً. فالدين، في عمقه، ليس نتاجاً تاريخياً ولا استجابة ظرفية لحاجات اجتماعية عابرة، بل هو ارتباط بالحق المطلق، بالله تعالى، وبأسمائه الحسنى التي تمثل الجسر الواصل بين الغيب والشهود، وبين المطلق والنسبي. فما يتصل بالله من الدين ثابت بثباته، وما يتصل بالإنسان متحوّل بتغيّر أحواله. وهذه الثنائية ليست تناقضاً، بل هي سرّ حيوية الدين وقدرته على الاستمرار.

إن أسماء الله الحسنى تمثل نقطة البداية في فهم هذه العلاقة. فهي من جهة تجلّيات فعل الله في الخلق، ومن جهة أخرى قيم يمكن للإنسان أن يسعى إليها ويتخلّق بها. فالعدل، والرحمة، والحكمة، والحق، ليست مجرد صفات إلهية متعالية، بل هي في الوقت نفسه معايير أخلاقية وقيمية يُطلب من الإنسان أن يقترب منها بقدر طاقته. وبهذا المعنى تصبح الأسماء الإلهية حلقة الوصل بين الله المطلق والإنسان النسبي، وبين الثابت والمتغيّر، حيث تستمد القيم ثباتها من مصدرها الإلهي، وتستمد التطبيقات مرونتها من واقع الإنسان.

وعند الانتقال إلى السنة النبوية وسنة المعصومين عليهم السلام، تتجلى إشكالية الثابت والمتحوّل بصورة أوضح. فالسنة ليست نصاً واحداً جامداً، بل هي خطاب حيّ تفاعل مع واقع تاريخي محدد، ومع بشر لهم ظروفهم وأسئلتهم وإشكالاتهم. ومن هنا تبرز أهمية التمييز بين ما صدر عن المعصوم على نحو القضية الحقيقية، أي ما يعبر عن حكم عام وقيمة كلية، وبين ما صدر على نحو القضية الخارجية، أي ما ارتبط بواقعة خاصة أو ظرف معين.

هذا التمييز ليس ترفاً علمياً، بل هو ضرورة منهجية لفهم الدين فهماً صحيحاً. فعدم التمييز يؤدي إلى أحد طرفين متناقضين: إما الجمود الكامل على حرفية النصوص، واعتبار كل ما ورد في السنة صالحاً للتطبيق بذات الصورة في كل زمان ومكان، وإما التفريط بالسنة وإقصاؤها عن دائرة الفاعلية بحجة تاريخيتها وعدم قابليتها للتطبيق. وكلا الاتجاهين يفضي إلى اختلال عميق في فهم الدين ووظيفته.

أما الطريق الوسط، فهو الاستفادة من السنة بوصفها مصدراً للهداية، لكن بعد تحريرها من خصوصياتها التاريخية، وردّها إلى الأصول العامة والقيم الكلية التي تشكّل الثوابت الدينية. فالسنة، في جوهرها، ليست مجموعة أوامر ونواهٍ مجزأة، بل هي تجسيد عملي لمنظومة قيمية متكاملة، وإذا أُحسن فهم هذه المنظومة أمكن تنزيلها على الوقائع المتغيرة دون الوقوع في الجمود أو التفريط.

وفي هذا السياق، يقدّم القرآن الكريم إطاراً مفاهيمياً بالغ الأهمية لفهم الثابت والمتحوّل، وذلك من خلال اصطلاحي المحكم والمتشابه. فالمحكم يمثل الأصول والقيم الكلية التي يقوم عليها البناء الديني، بينما يمثل المتشابه تطبيقات هذه القيم على الوقائع المختلفة. وبهذا الفهم، لا يكون المتشابه غامضاً أو مستغلقاً على الفهم، بل يكون متعدداً في دلالاته بسبب تعدد مصاديقه في الواقع.

ومن هنا يمكن إعادة النظر في التفسير الشائع الذي يربط بين المحكم وإمكان الفهم، وبين المتشابه وعدم إمكانه. فهذا التفسير يصطدم مع طبيعة القرآن نفسه، الذي يصرّح بوضوح أنه كتاب ميسّر للذكر والفهم، وأنه يخاطب الإنسان بوصفه كائناً عاقلاً قادراً على التدبر. وإذا وجدت صعوبة في فهم بعض الآيات، فإن هذه الصعوبة لا تعود إلى النص، بل إلى طبيعة المتلقي وحدود أدواته المعرفية. فكيف يمكن تصنيف آيات القرآن بحسب تفاوت مستويات الناس في الفهم، مع أن الخطاب موجه للجميع؟

وهنا يأتي دور التأويل بوصفه الآلية المنهجية المسؤولة عن ردّ المتشابه إلى المحكم، أي ردّ المتحوّل إلى الثابت. فالتأويل ليس خروجاً على النص، ولا عبثاً بالدلالات، بل هو سعي لاكتشاف القيم والحِكم الكامنة خلف الظواهر النصية. وهو بهذا المعنى بحث في بنية النص، لا لإلغائه، بل لتفعيله وربطه بالحياة.

ولا يقتصر دور التأويل على الكشف عن الحكمة، بل يتعداه إلى ربط هذه الحكمة بالمتغيرات الواقعية، وتشخيص الحكم المناسب لها. وهذه المساحة هي التي تحفظ للدين مرونته وقدرته على التفاعل مع التحولات المستمرة، دون أن يفقد مرجعيته أو يتخلى عن ثوابته. وهي في الوقت نفسه مساحة نسبية في المعرفة، لأن تشخيص الموضوعات يتأثر بتغير الظروف واختلاف المعطيات، دون أن يمسّ ذلك بالقيم التي يستند إليها الحكم.

وإذا أردنا تصوير التسلسل المنطقي للثوابت في الدين، أمكننا الحديث عن ثلاث دوائر مترابطة. الدائرة الأولى هي النظام المعرفي الذي يشكّل الرؤية العقائدية للإنسان، وتصورَه للوجود والحياة والغاية. وهذه الدائرة تمثل الأساس الذي لا يقوم الدين بدونه. والدائرة الثانية هي القيم التي تنبثق من هذا التصور العقائدي، والتي تشكّل المعايير العليا للسلوك الإنساني. أما الدائرة الثالثة فهي التصور الثقافي والسلوكي الذي يتجلى في الممارسة اليومية للإنسان.

وهناك ترابط طبيعي بين هذه الدوائر الثلاث، غير أن الأولى والثانية تمثلان الثابت الذي لا يتحوّل، بينما تمثل الثالثة مجال التحوّل والتغير. فثقافة الإنسان وسلوكه، وإن استندا إلى قيم ثابتة، إلا أنهما يتأثران بالواقع الخارجي المتغير، وبالظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ومن هنا ينشأ الاختلاف بين الناس في وجهات النظر، لا بسبب اختلاف القيم، بل بسبب اختلاف تشخيص الموضوعات وتقدير المصالح والمفاسد.

وعليه، فإن الثابت الحقيقي في حياة الإنسان المسلم هو الرؤية العقائدية وما ينبثق عنها من قيم، أما تطبيق هذه القيم على الوقائع الخارجية فهو مجال للاجتهاد والتحوّل، لأن الموضوعات نفسها متغيرة بطبعها. وهذا التفريق يتيح فهماً عميقاً للدين بوصفه منظومة قيمية حيّة، لا مجموعة أحكام جامدة.

غير أن هذا المنطق لا ينطبق على كل مجالات الدين بالدرجة نفسها. فموضوعات العبادات، بخلاف المعاملات والسلوكيات الاجتماعية، ليست موضوعات عرفية ظرفية، بل هي موضوعات تعبّدية ثبت اعتبارها الشرعي بنحو خاص. ولهذا تبقى ثابتة بثبات هذا الاعتبار، ولا تخضع لمنطق التحوّل المرتبط بتغير الموضوعات الخارجية. وهذا بدوره يكشف عن دقة التوازن في التشريع الإسلامي بين ما هو ثابت تعبدي، وما هو متغير عرفي.

في ضوء هذا الفهم، يتضح أن إشكالية الثابت والمتحوّل ليست مشكلة في النص، ولا في الدين ذاته، بل في طريقة القراءة والتعامل. فحين يُفهم الدين من خلال قيمه الكلية وأصوله العميقة، يصبح قادراً على مواكبة الحياة دون أن يذوب فيها، وعلى الثبات دون أن يتحول إلى عبء على الإنسان. وهنا بالضبط تتجلى حكمة الوحي، الذي جمع بين الثبات في المصدر، والمرونة في التطبيق، ليبقى الدين رسالة هداية، لا ذكرى تاريخية ولا نظاماً منغلقاً على ذاته.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م