10 رجب 1447 هـ   30 كانون الأول 2025 مـ 7:24 صباحاً كربلاء
سجل الايام
في مثل هذا اليوم من عام 195هـ، ولد الإمام محمّد الجواد، وهو تاسع أئمة أهل بيت النبي محمد صلوات الله عليهم أجمعين، وقد عاش (25) سنة؛ كانت مدة إمامته فيها (17) سنة.
القائمة الرئيسية

 | مقالات  |  من الفطرة إلى اليقين: ملامح نظرية المعرفة في القرآن
2025-12-23   88

من الفطرة إلى اليقين: ملامح نظرية المعرفة في القرآن

الشيخ معتصم السيد أحمد
لا يبدأ القرآن حديثه عن المعرفة من السؤال عن الأدوات، ولا من الجدل حول مصادر الإدراك، بل يبدأ من نقطة أعمق وأكثر تأسيساً، هي الإنسان نفسه وعلاقته بالوجود. فالمعرفة في المنظور القرآني ليست تراكماً ذهنياً للمعلومات، ولا مهارة عقلية محايدة، بل هي مسار وجودي يبدأ من معرفة الله وينتهي ببناء إنسان منسجم مع الكون والحياة. ومن هنا فإن نظرية المعرفة القرآنية لا تُفهم بوصفها تنظيراً فلسفياً مجرداً، وإنما بوصفها مشروعاً لإعادة ترتيب علاقة الإنسان بالحقيقة.

تقوم هذه النظرية على أصل محوري، هو أن معرفة الله تمثل المنبع الذي تفيض منه بقية المعارف. فالله في الرؤية القرآنية ليس فكرة ذهنية ولا فرضية تفسيرية، بل هو الحقيقة الأوضح حضوراً في وجدان الإنسان. وبهذا المعنى فإن الإيمان بالله لا يأتي في نهاية المسار المعرفي، بل في بدايته، لأنه هو الذي يمنح الوجود معناه وواقعيته. فالعالم لا يُدرَك بوصفه حقيقة مستقلة يمكن الوثوق بها، إلا إذا كان صادراً عن حق، قائماً على حكمة، ومنضبطاً بسنن.

وتتجلى معرفة الله في الواقع الإنساني عبر أسمائه الحسنى، التي تمثل في الوقت نفسه سنن الكون الحاكمة، والقيم الأخلاقية والتشريعية المنظمة للاجتماع الإنساني. فالأسماء الإلهية ليست مجرد ألفاظ تعبدية، بل هي مفاتيح لفهم العالم والحياة. فالعدل، والحكمة، والرحمة، والحق، ليست فقط صفات لله، بل هي قوانين كونية ومعايير قيمية ينبغي للإنسان أن ينسجم معها في إرادته وسلوكه.

ومن هنا يتضح أن مسيرة المعرفة الإنسانية في القرآن تقوم على إيجاد تواصل وتناسق بين عالم الغيب وعالم الشهود. فالغيب يمثل جانب الثبات والقيم والمعنى، بينما يمثل الشهود مجال التجربة الإنسانية والتحول والتغير. ودور القرآن في هذه المسيرة ليس أن يقدّم معادلات معرفية جاهزة، بل أن يهيّئ الإنسان نفسياً وقيمياً ليكون قادراً على إدراك الحقيقة دون تشويه أو انحراف. فالمعرفة ليست نتاج العقل وحده، بل هي ثمرة انسجام داخلي بين الفطرة، والعقل، والقيم.

وتبدأ المعرفة عند الإنسان، بحسب هذا التصور، بحدس فطري أولي يجعله يثق في الوجود بوصفه حقيقة واقعية. فالإنسان قبل أن يستدل، وقبل أن يحلل، يشعر ببداهة أن هذا الوجود ليس وهماً، وأنه قائم على معنى. وهذه الثقة الأولية بالوجود لا يمكن تأسيسها من داخل الحس أو العقل وحدهما، لأن كليهما يمكن الشك فيهما. وإنما تتأسس هذه الثقة من خلال الإيمان بالله بوصفه الحقيقة الأظهر، التي بها تكتسب الموجودات واقعيتها. فبدون هذا الإيمان، لا يبقى أي أساس متين للوثوق بالوجود نفسه.

ومن هنا يختلف المنظور القرآني جذرياً عن كثير من الطروحات الفلسفية الحديثة التي جعلت العقل أو الحس مصححاً نهائياً للمعرفة. فالقرآن لا ينفي دور العقل ولا دور الحس، لكنه يرفض فصلهما عن الحقيقة المتعالية التي تمنحهما المصداقية. فالثقة بالإدراكات العقلية والحسية ليست أمراً بديهياً بذاته، بل هي متفرعة عن الثقة في أن هذا العالم حق، وأن وراءه إرادة حكيمة لا تعبث بالوجود. ومعرفة الله بوصفها حقيقة فطرية هي التي تضمن هذا الاطمئنان.

وبهذا المعنى يمكن القول إن كل فلسفة واقعية، حتى لو لم تصرح بذلك، تفترض الإيمان بالله بصورة أو بأخرى، لأنها تحتاج إلى أساس يضمن واقعية الوجود وقابلية المعرفة. وفي المقابل، فإن كل فلسفة تشكيكية أو سفسطائية، حتى لو تجنبت التصريح بالإلحاد، تنتهي عملياً إلى إنكار الحقيقة، لأنها تقطع الصلة بين الإدراك والمعنى، وبين الوجود والحق. فالخلاف هنا ليس خلافاً لفظياً، بل هو خلاف في نقطة البداية.

ولهذا فإن دعوة القرآن إلى الإيمان بالله ليست مجرد دعوة تعبدية، بل هي دعوة معرفية تهدف إلى تعديل رؤية الإنسان للعالم، وتأسيس المنظار الذي يرى من خلاله الحقائق. فالاعتراف بالأشياء، وبما يقع خلفها من معانٍ وحقوق، لا يكون ممكناً إلا بعد الاعتراف بأنها حق. وهذا الاعتراف لا يتأتى إلا بالارتكاز على معرفة فطرية تقود الإنسان إلى الله الذي خلق الخلق بالحق.

ومن هنا يصبح التوحيد، في المنظور المعرفي القرآني، الضامن لصحة المعرفة. فالتوحيد ليس مجرد قضية عقدية، بل هو إطار معرفي يحدد طريقة الإنسان في فهم العالم. فالحقائق الفطرية تمثل الأصل الذي تُبنى عليه بقية المعارف، وثقة الإنسان بمعارفه لا تبدأ من الخارج، بل من الداخل، من وجدانه الذي يشهد بهذه الحقائق قبل أي برهان.

وتحتل الأسماء الحسنى موقعاً مركزياً في هذا البناء المعرفي، لأنها تمثل الأساس في التواصل بين العبد وربه، سواء على المستوى المعرفي أو العبادي. فمعرفة الله لا تتحقق في الفراغ، بل من خلال إدراك هذه الأسماء بوصفها قيماً ومعايير. وبقدر ما يتخلق الإنسان بهذه القيم، يقترب من الحقيقة، وبقدر ما يبتعد عنها، يختل ميزانه المعرفي.

أما الإيمان، بوصفه مصطلحاً قرآنياً، فهو لا يعني مجرد التصديق الذهني، بل يعني الاعتراف بالحق. فثقة الإنسان بمعارفه هي التي تحقق التسليم بوجود الأشياء وبما لها من حقيقة. ومن هنا يتضح أن الإيمان يشكل بذرة الحقوق والتشريعات، لأن كل موجود بعد الاعتراف به يصبح ذا حق يجب مراعاته. فالإيمان بالله وبما خلق يعني الاعتراف بحقوق الله وحقوق المخلوق في آن واحد.

ولهذا فإن الإيمان بالغيب والشهود ليس انقساماً في الرؤية، بل تكامل فيها. فهو اعتراف بحقوق المصدر وحقوق المظهر، بحق الله وبحق الإنسان، وبحق الوجود كله. ومن هذا الاعتراف تنبثق الأخلاق، وتتأسس التشريعات، ويستقيم السلوك الإنساني بصورة فطرية، لا قسر فيها ولا افتعال.

ويُضفي الإيمان على الحياة أهدافاً سامية وقيماً كبرى، فيجعل الحياة بذاتها قيمة تستحق العيش والتضحية. فالحياة التي تخلو من الغايات والمعاني لا تحرك في الإنسان طاقاته الإبداعية، ولا تستنهض إرادته. والإيمان بالحياة هو في جوهره إيمان بالحكمة التي تقف وراءها، وبالفلسفة التي تجعل الوجود معقولاً ومقصوداً. وهذا لا يتضح للإنسان إلا إذا آمن بوجود إرادة حكيمة تحكم هذا الكون.

ويؤكد القرآن أن الإنسان مفطور على معرفة الله وأسمائه الحسنى، وأن جوامع العلم وأصول الحكمة حاضرة في فطرته، وإن غفل عنها. والمقصود بجوامع العلم هنا ليس التفاصيل الجزئية، بل القيم الكبرى والمعايير الأساسية التي تنعكس من الأسماء الإلهية. وهذه القيم تمثل مرجعية للعقل، وبدونها يستحيل عليه الحكم على الأفعال والمواقف. فالعقل لا يعمل في فراغ، بل يحتاج دائماً إلى معيار قيمي يزن به الأمور.

ومن هنا يمكن القول إن الإنسان يستحيل عليه تقييم أي شيء دون الارتكاز على قيمة من القيم. وحتى أكثر الأحكام العقلية تجريداً تستبطن في عمقها افتراضات قيمية، سواء اعترف الإنسان بذلك أم أنكره. وهذا ما يجعل القيم جانب الثبات في المعرفة، لأنها تشكل الإطار المرجعي الذي لا غنى عنه.

أما وظيفة العقل، إذا كانت أصول الحقائق فطرية، فهي استنطاق هذه الفطرة والكشف عنها. ويتم ذلك عبر مسارات متعددة: بالتدبر في القرآن، والتفكر في آيات الكون، والاعتبار بما يجري في الحياة من أحداث وتجارب. فالعقل هنا ليس خالقاً للحقيقة، بل كاشفاً عنها، ومهمته الأساسية هي الربط بين القيم الثابتة والوقائع المتغيرة.

وهنا يتجلى البعد الديناميكي في نظرية المعرفة القرآنية. فالقيم تمثل جانب الثبات، بينما يمثل تحديد العقل للقيم المناسبة للموضوعات الخارجية جانب التحول. فالمعرفة ليست جامدة، لكنها أيضاً ليست نسبية إلى حد الفوضى. إنها حركة دائمة بين أصل ثابت وواقع متغير.

وفي هذا الإطار، تبرز توصيات القرآن المتعلقة بتجنب الأخطاء المعرفية، والتي تركز في جوهرها على ضبط النفس والحد من تأثير الهوى والشهوات. ومن هنا يمكن القول إن إشكالية المعرفة في المنظور القرآني هي إشكالية نفسية أكثر منها عقلية. فالعقل، إذا استسلمت إرادة الإنسان للشهوة، يتحول إلى أداة تبرير، لا إلى أداة كشف.

وما يميز نظرية المعرفة القرآنية أنها تعترف بالإنسان بوصفه كائناً مركباً من عقل وشهوة، ولا تتعامل معه بوصفه عقلاً مجرداً. فالاعتراف بالعقل وحده يؤدي إلى خيبة أمل معرفية بسبب الأخطاء المتكررة، والاعتراف بالشهوة وحدها يؤدي إلى نسبية تذوب فيها الحقيقة. أما الجمع بينهما في إطار قيمي فطري، فهو ما يحقق التوازن ويجعل المعرفة ممكنة وموثوقة.

وبهذا تتجلى نظرية المعرفة القرآنية بوصفها مشروعاً متكاملاً، لا يعزل المعرفة عن الأخلاق، ولا يفصل العقل عن الفطرة، ولا يقطع الصلة بين الغيب والشهود. إنها نظرية تبدأ من الإنسان، لكنها لا تنتهي عنده، بل تعيده إلى موقعه الصحيح في هذا الوجود: شاهداً على الحق، ومسؤولاً عن إدراكه والعمل به.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م