10 رجب 1447 هـ   30 كانون الأول 2025 مـ 7:23 صباحاً كربلاء
سجل الايام
في مثل هذا اليوم من عام 195هـ، ولد الإمام محمّد الجواد، وهو تاسع أئمة أهل بيت النبي محمد صلوات الله عليهم أجمعين، وقد عاش (25) سنة؛ كانت مدة إمامته فيها (17) سنة.
القائمة الرئيسية

 | مقالات  |  غياب الأب واختلال القيم: قراءة في أزمة التربية الغربية
2025-12-23   68

غياب الأب واختلال القيم: قراءة في أزمة التربية الغربية


الشيخ مصطفى الهجري

 

كان الأب في السابق يمارس داخل الأسرة مسؤولية تلقين قيم الانضباط والمسؤولية، ويعد أولاده ـ خاصة الذكور منهم ـ للخروج من شرنقة العائلة ليتعامل بمسؤولية مع العالم الخارجي. ثم كان الأب يعهد بهم الى مدرس يمارس بالإضافة الى التعليم وظيفة قريبة من وظيفة الأب وهي التطبيق الصارم للقوانين الشرعية والاجتماعية، والانضباط بالحدود الأخلاقية. وكانت هذه الوظائف "الذكورية" تتكامل مع الوظائف الاصلية الطبيعية للمرأة في الأسرة والمجتمع.

 

أما اليوم فقد أختل التوازن، وصار غياب الأب في الأسرة والمدرسة، والاعتماد الكلي على الأم في التربية والتعليم من أعظم أسباب الاختلالات النفسية الرهيبة التي يعاني منها الشباب في المجتمعات الغربية.

 

في فرنسا مثلاً يعيش 80% من أبناء الأزواج المنفصلين مع أمهاتهم، و16% منهم لا يرون آبائهم أبداً، و16% يرونه أقل من مرة واحدة في الشهر! جدل النسوية والذكورية، ص115.

 

لقد صار دور الأب في المجتمعات الغربية منحصراً في الانفاق المادي ـ إن وجد ـ مع لقاءات سريعة ودورية مع الأطفال يستحيل فيها أن يمارس الأب وظيفته التربوية الأساسية. بل صار البعض يصطلح على هؤلاء الآباء بـ"آباء يوم الأحد" ليصف الآباء الذين لا يلتقون بأبنائهم سوى في عطلة يوم الأحد، ويكون اللقاء فرصة لأداء بعض الأنشطة الترفيهية التي ليست من صميم العملية التربوية اليومية. 

 

بل حتى في الأسر الأخرى التي فيها حضور جسدي للوالدين معاً، فإن الأب يمت في كثير من الأحيان غائباً من الناحية العملية عن تربية الأطفال.

 

لقد انتشرت في مجتمعات الغرب اليوم صورة نمطية للأسرة العصرية، تعتني فيها الأم بجميع تفاصيل حياة أطفالها: طعامهم ولباسهم وصحتهم وأخلاقهم ومتابعة واجباتهم المدرسية، والتواصل مع المعلمين وإدارة المدرسة، وحتى اصطحابهم للمدرسة ذهاباً وإياباً والى محلات التسوق لاقتناء ما يحتاجون اليه. وبالمقابل فإن الأب لا يكاد يخصص لأولاده إلا فتاتاً من الوقت، وفضلاً من الجهد، بل هو ـ إن لم يكن خارج البيت ـ يضع رجلاً على رجل أمام التلفاز لمشاهدة مباريات كرة القدم المسائية.

 

بل إن هذه الصورة ليست مختصة بالسر التي يكون الأب فيها عاملاً خارج البيت والم داخله، بل تتعداه الى الأسر التي يقتسم فيها الوالدان العمل خارج البيت بأوقات متساوية تقريباً، وتختص المرأة بأن تكرس ما يبقى لها من وقت للسهر على تربية أطفالها. وهذا ما يصلح عليه بـ"الأم المزدوجة".

 

ثم الأدهى من ذلك كله أن هذا الالتصاق بين الأم وأطفالها لا يختص بمراحل الحضانة الأولى ـ كما في الإسلام ـ حين يكون ارتباط الطفل بأمه فطرياً، بل غالباً يستمر الى مرحلتي المراهقة والشباب فيما يسمى بظاهرة "الأمهات الحاضنات" مما يفرز إشكالات نفسية خطيرة جداً.

 

ثم إن الحضور المكثف للمرأة في مجال التربية مع الغياب الحقيقي او الرمزي للرجال في هذا المجال، ليس لب القضية؛ فقد كانت وما زالت حضانة الأطفال الصغار دائماً من حق النساء وهن أقدر عليها وأكثر كفاءة فيها من الرجال ولم يكن ذلك مفضياً الى تأنيث القيم الأسرية كما هو ملاحظ اليوم. ولكن جوهر المشكلة في أمرين:

الأول: تمدد هذه الحضانة الى ما بعد مرحلة الطفولة، كما سبق ذكره.

الثاني: تغير جذري في الأدوار المخصصة لكل من الرجل والمرأة داخل الأسرة خصوصاً وفي المجتمع عموماً، وذلك بتخلي كل منهما عن أدواره التقليدية ودخوله في أدوار مختلفة، تحت ذريعة تحقيق المساواة الكاملة بين الجنسين.

 

في ضوء ما سبق، يتبيّن أن أزمة الأسرة الغربية ليست ناتجة عن غياب الرعاية، بل عن اختلال التوازن في الأدوار التربوية بين الأب والأم. فإقصاء الدور الأبوي، وتمديد الحضانة إلى ما بعد مراحلها الطبيعية، وتفكيك الوظائف الفطرية باسم المساواة، أفرز جيلاً يعاني اضطرابات نفسية وهشاشة قيمية عميقة. إن إعادة الاعتبار للأبوة بوصفها مسؤولية تربوية لا إنفاقية فقط، وإعادة التوازن بين الأدوار داخل الأسرة، تمثل شرطاً أساسياً لاستعادة الصحة النفسية والاجتماعية للأبناء والمجتمع.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م