20 جمادي الثاني 1446 هـ   22 كانون الأول 2024 مـ 4:53 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | حقوق الإنسان |  منظور الإسلام لحقوق الإنسان: جدلية القيم والغايات
2024-12-09   406

منظور الإسلام لحقوق الإنسان: جدلية القيم والغايات

منظور الإسلام لحقوق الإنسان: جدلية القيم والغايات

الكاتب: الشيخ معتصم السيد احمد

مصطلح "حقوق الإنسان" كما يُعرف اليوم هو نتاج تطور تاريخي وثقافي نشأ في الغرب، مما يجعل من الضروري أن نتوقف عند دلالاته المفاهيمية والخلفيات الفكرية التي أنتجته. فالكلمات، وإن بدت واضحة في ظاهرها، تحمل معاني ودلالات تتأثر بالسياقات الفلسفية والأيديولوجية التي نشأت فيها. وكلمتا "الحقوق" و"الإنسان" ليستا استثناءً؛ إذ خضعتا لشحن ثقافي عميق جعلهما من أكثر المفاهيم إشكالية في تحديد مضامينها.

تشكل مفهوم "حقوق الإنسان" في الفكر الليبرالي في ظل فلسفة عصر النهضة الأوروبية، التي رفعت من قيمة الفرد إلى حد جعله محوراً للكون ومصدراً للقوانين. هذه الفلسفة اعتبرت الإنسان قيمة مطلقة تفوق المجتمع ذاته، مستمدةً هذه الرؤية من "القانون الطبيعي". وقد بني هذا القانون على تصور الإنسان الطبيعي ككائن مادي مكتفٍ بذاته، لا يخضع لأي قيود اجتماعية أو تاريخية أو أخلاقية، إذ يُختزل وجوده ضمن إطار الزمان الطبيعي المحكوم بالغرائز والاحتياجات المادية، بعيداً عن الزمان الإنساني الذي تحكمه القيم والأخلاق.

غير أن هذا التصور يحمل في طياته تناقضاً واضحاً بين الشعارات الإنسانية المعلنة والأسس الفلسفية التي تقوم عليها هذه الثقافة. فإذا كان الإنسان مجرد كائن مادي تحكمه الطبيعة العمياء، فكيف يمكن تأسيس قيم إنسانية تتجاوز المادة، أو مبادئ أخلاقية تسعى إلى تحقيق العدالة والكرامة؟ إن غياب الاعتراف بالروح الإنسانية المرتبطة بمصدر كمال غيبي يُفرغ القيم الأخلاقية من أي مبرر وجودي، ويحوّل الحرية والديمقراطية والعقلانية والعلمانية إلى أدوات تخدم الجانب المادي والأناني للإنسان.

في المقابل، تقدم النظرة الإيمانية، القائمة على التوحيد، تصوراً مختلفاً جذرياً، إذ ترى الإنسان ككائن مزدوج الأبعاد: مادي وروحي. هذا التكامل يمنح الإنسان قدرة على تجاوز الطبيعة بفعل القيم الأخلاقية والمعنوية التي يتمسك بها، مما يوفر له استقراراً معرفياً وأخلاقياً. الإسلام، على وجه الخصوص، ينظر للإنسان على أنه يحمل في داخله ارتباطاً بالمطلق الذي يثري حياته بالمعاني والقيم، مما يضعه في سياق أسمى يتجاوز التغيرات المادية. أما في غياب هذا البعد الروحي، فإن الإنسان يصبح أسير التغير المادي، مما يُفقده الثوابت والقيم المشتركة التي تؤسس لاستقرار حياته ومعنى وجوده.

ومن هذا المنطلق فإن حقوق الإنسان، في سياقها الليبرالي، ليست مجرد قوانين عالمية موحدة، بل تعبير عن رؤية خاصة للإنسان والحياة نشأت ضمن الفلسفة الغربية. هذه الرؤية تضع الفرد في مركز الاهتمام، مما يجعلها تعكس منظومة ثقافية محددة بدلاً من أن تكون شاملة لكل المجتمعات. وعندما يُفرض هذا التصور بمعزل عن الخصوصيات الثقافية للشعوب الأخرى، فإنه يتحول إلى انتهاك لحقوق الآخرين الذين يمتلكون مفاهيم مغايرة عن الإنسان وحقوقه. على سبيل المثال، تحمل النظرة الماركسية تصوراً مختلفاً للكون وللإنسان لا يتوافق مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو ما يفسر انتقاد كارل ماركس للفكرة الليبرالية لهذه الحقوق. فقد اعتبر ماركس أن حقوق الإنسان في إطارها الليبرالي ليست سوى انعكاس لمصالح الطبقة البرجوازية، وليست حقوقاً إنسانية عامة كما تدعي. حيث يتحول "الحق في الحرية" إلى مبرر لتجاهل الآخرين، مما يعزز النزعة الأنانية والفردية. كذلك، فإن "حق الملكية" يركز على تأكيد حق الفرد في ممتلكاته دون اعتبار لحقوق الآخرين، خاصة أولئك الذين يعانون من الفقر والحرمان. وهكذا يطرح ماركس تساؤلات عملية تعكس جوهر المشكلة: ما جدوى الحرية لمن يعيش تحت سيطرة رب العمل؟ ما فائدة حق الملكية لمن لا يملك شيئاً؟ وما معنى الأمن لمن يواجه الموت جوعاً؟ وفقاً لماركس، تبقى الحقوق الاجتماعية والاقتصادية شعارات فارغة إن لم تُترجم إلى شروط فعلية تتيح تحقيقها، مما يجعل الحديث عنها، في غياب تلك الشروط، مجرد أداة لتعزيز مصالح فئة معينة[1].

هذه القراءة تكشف تأثير الخلفيات المعرفية والفلسفية على صياغة وتفسير مفهوم حقوق الإنسان. لذا، فإن تعميم هذا المفهوم الغربي على الفكر الإسلامي دون النظر في فلسفة الإسلام المتعلقة بالإنسان والحقوق يعدّ خطأً منهجياً. الإسلام يقدم رؤية متوازنة تدمج بين حقوق الفرد وواجباته تجاه المجتمع، مع التأكيد على البعد الروحي والمعنوي بجانب الأبعاد المادية. وهذا يوضح أن معالجة الفجوة المفاهيمية لا تُحل بمجرد استبدال المصطلح بمفهوم آخر، مثل "الكرامة الإنسانية" الذي اقترحه بعض المفكرين كبديل متوافق مع الإسلام. بل يتطلب الأمر استيعاباً أعمق للرؤية الإسلامية التي تستند إلى قيم العدل والشمولية، والتي تراعي الطبيعة المركبة للإنسان من روح وجسد، وتضمن تحقيق توازن حقيقي بين الفرد والمجتمع. 

فالإسلام ينظر إلى الإنسان باعتباره خليفة في الأرض، مكلفاً بعمارتها على أساس منظومة قيمية تجمع بين العدالة الفردية والمسؤولية الاجتماعية. هذا التصور يجعل مفهوم الحقوق في الإسلام جزءاً لا يتجزأ من فلسفة شاملة تعلي من شأن الأخلاق وتؤكد المسؤولية تجاه الآخر. من هنا، تبرز الحاجة إلى صياغة رؤية أصيلة لمفهوم الحقوق في الإسلام، مستمدة من مبادئه الراسخة وتعاليمه الثابتة، بعيداً عن أن تكون مجرد استجابة أو محاكاة للنماذج الفكرية الغربية.

لا يمكننا إنكار الجهود الكبيرة التي بُذلت في العالم العربي والإسلامي للتأكيد على حقوق الإنسان، حيث ظهرت بيانات ومواثيق عديدة لتعزيز هذا المفهوم ضمن الإطار الإسلامي، مثل: البيان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان (1980)، وبيان حقوق الإنسان في الإسلام (1980)، وإعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام (1990)، والإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان الصادر في طهران (1989). إلى جانب العديد من الكتابات التي تناولت حقوق الإنسان من منظور إسلامي. ومع ذلك، فإن أغلب تلك الجهود كانت متأثرة بالتفاعل الإيجابي أو السلبي مع المواثيق الدولية، مما جعلها تتسم بمنهجيات متباينة.

يرى العلامة محمد مهدي شمس الدين، في إطار تقييمه لهذه الكتابات، أنها غالباً ما تنطلق من ثلاث خلفيات أساسية:

الروح الدفاعية: حيث تسعى بعض الأبحاث إلى الدفاع عن الإسلام ضد اتهامات بأنه يخالف مبادئ حقوق الإنسان، فتتخذ وضعية المدافع عن الذات أمام هجوم خارجي.

التناظر: يمثلها الكتابات التي تحاول إثبات أن الإسلام يحتوي على حقوق إنسانية مشابهة لتلك التي أعلن عنها في الغرب أو في المواثيق الدولية، مما يجعل الإسلام يبدو وكأنه يحاول التماشي مع السياق الغربي.

التظلم: وتتمثل في تسليط الضوء على الانتهاكات التي يتعرض لها المسلمون حول العالم، مع الاستناد إلى مبادئ حقوق الإنسان المعلنة دولياً لإثبات تظلمهم.[2]

من جانب آخر، نجد أن بعض الكتابات التي حاولت التأصيل لحقوق الإنسان في الإسلام انطلقت من مبادئ منصوص عليها في المواثيق الدولية، ثم حاولت البحث عن أدلة لها في النصوص الدينية. هذا النهج الانتقائي يعاني من عيوب عديدة، أبرزها الوقوع في التناقض أو التضارب مع النصوص الإسلامية. فقد يلجأ البعض إلى رفض بعض النصوص الشرعية أو تأويلها بتأويلات بعيدة عن سياقها، كما حدث في قضايا مثل التمييز في الميراث بين الرجل والمرأة، أو الحجاب الذي اعتُبر من قِبل البعض تقييداً لحرية المرأة.

هذا التأثير المباشر بالمعايير الغربية أظهر الحاجة إلى إعادة صياغة مفهوم حقوق الإنسان وفق رؤية إسلامية شاملة، تأخذ في الاعتبار القيم الكبرى التي تحكم فلسفة الإسلام تجاه الإنسان والحقوق. فحقوق الإنسان في الإسلام ليست قائمة على ردود أفعال تجاه النقد الغربي أو محاولة المواءمة مع المفاهيم الغربية، وإنما هي جزء لا يتجزأ من التصور الكلي للإسلام عن الإنسان، غايته في الحياة، ودوره كخليفة في الأرض.

تأسيساً على ذلك، يجب إعادة النظر في منهجية البحث عن حقوق الإنسان في الإسلام، من خلال تبني رؤية شاملة تستند إلى القيم المحورية التي ترسم غاية الوجود الإنساني. فالإسلام ينظر إلى الحقوق والواجبات باعتبارها مرتبطة بالغاية الكبرى من خلق الإنسان، وهي عبادة الله وعمارة الأرض وفقاً لمنهج قيمي شامل. بناءً على هذا المنظور، فإن الحقوق ليست مطلقة أو قائمة على أهواء فردية، بل هي متوازنة مع المسؤوليات الجماعية، ومتجذرة في القيم الأخلاقية والروحية التي تنظم حركة الإنسان في الكون.

في ظل محدودية هذا المقال، لن يكون من الممكن التعمق في كل تفاصيل فلسفة الإسلام المتعلقة بالإنسان والحقوق، لكن يمكن الإشارة إلى الملامح العامة التي تشكل هذه الفلسفة، ووضع معايير أساسية لفهم الحقوق التي يجب مراعاتها وعدم التفريط فيها. وسنسعى إلى تكثيف الحديث من خلال تقسيم القضايا إلى نقاط رئيسية لتوضيح الإطار الذي ينبثق منه التصور الإسلامي لحقوق الإنسان:

1-   الإنسان مخلوق ذو بُعدين:

الإسلام ينظر إلى الإنسان على أنه كائن مزدوج البنية، يجمع بين الجسد المادي والنفس الروحية، مما يمنحه تميزاً عن بقية المخلوقات. هذا التوازن بين البعدين يُلقي بظلاله على تصور الحقوق، حيث تُصاغ لتلبي احتياجاته المادية، مثل الطعام والملبس والمسكن، وتُعزز كرامته الروحية، كحرية المعتقد والتعبير في إطار القيم الأخلاقية. وبذلك، فإن الإسلام يرفض اختزال الإنسان إلى مجرد كائن مادي كما تفعل الفلسفات المادية، أو كائن روحاني مجرد كما في بعض الرؤى الصوفية المتطرفة.

2-   الغاية من الخلق:

حقوق الإنسان في الإسلام ترتبط بغاية أسمى تتجلى في قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (الذاريات: 56). هذه الغاية لا تعني العبادة الشعائرية فحسب، بل تشمل عمارة الأرض وإقامة العدل وتحقيق الخير للبشرية. ومن هذا المنطلق، الحقوق ليست مطلقة بل تخضع لمعيار الغاية النهائية، بحيث تكون وسيلة لتحقيق المقاصد الإلهية الكبرى، ومنها التكامل الروحي والاجتماعي.

3-   الأخلاق كأساس للحقوق:

الحقوق في الإسلام ليست منفصلة عن الأخلاق، بل هي مشروطة بتحقيق القيم العليا مثل العدل والإحسان والرحمة. فمثلاً، حق الفرد في الملكية لا يعني الإثراء على حساب الآخرين، بل يجب أن يقترن باستخدام الثروة في سبيل الخير العام. هذا التكامل بين الحقوق والأخلاق يضمن أن الحقوق لا تتحول إلى أدوات للظلم أو الاستغلال، كما يُلاحظ أحياناً في الأنظمة التي تفصل بين الأخلاق والقانون.

4-   الحقوق مرتبطة بالواجبات:

الإسلام يرفض النظرة التي تجعل الإنسان مستفيداً من الحقوق دون أن يتحمل واجباته تجاه الآخرين. فالحق في الحياة، على سبيل المثال، يقابله واجب احترام حياة الآخرين وعدم الاعتداء عليها. وكذلك الحق في الحرية يقابله واجب الالتزام بعدم الإضرار بحرية الآخرين أو تعدي حدود الله. هذه العلاقة التبادلية تحافظ على التوازن في المجتمع وتمنع الفوضى الناتجة عن إطلاق الحريات بلا قيود.

5-   العدالة الاجتماعية كأساس لحقوق الإنسان:

العدالة في الإسلام لا تعني المساواة المطلقة في كل شيء، بل تأخذ في اعتبارها احتياجات الأفراد وقدراتهم وظروفهم المختلفة. فالتفاوت في الميراث بين الرجل والمرأة، مثلاً، ليس تمييزاً، بل تحقيقاً للعدالة بناءً على المسؤوليات الاقتصادية والاجتماعية. العدالة الإسلامية تراعي التوازن بين إعطاء كل ذي حق حقه وتلبية متطلبات المجتمع ككل، مما يجعلها أداة لتحقيق الانسجام الاجتماعي.

6-   الرؤية الجماعية للحقوق:

بخلاف الفكر الليبرالي الذي يُقدّم الفرد وحقوقه كأولوية مطلقة، يؤكد الإسلام على الطبيعة الاجتماعية للإنسان، حيث لا تتحقق ذاته إلا من خلال الجماعة. الحقوق الفردية تُمارَس في إطار مصلحة المجتمع، بحيث تكون الحرية الفردية محكومة بمصلحة الجماعة. وهذا المنظور يمنع النزعات الأنانية ويعزز الشعور بالمسؤولية الاجتماعية.

7-   الحقوق ثابتة ومتجددة:

الشريعة الإسلامية تجمع بين نصوص ثابتة تحتوي على القيم والمبادئ الكلية، وبين مساحة للاجتهاد لتكييف الحقوق مع متغيرات الزمن. هذه المرونة تجعل الحقوق الإسلامية قادرة على الاستجابة للتحديات المعاصرة دون أن تفقد اتصالها بجذورها الثابتة. فمثلاً، الحقوق المرتبطة بالتعليم والرعاية الصحية يمكن أن تتطور بناءً على احتياجات المجتمع، لكنها تبقى ملتزمة بمبدأ العدل والمساواة.

8-   عالمية الحقوق الإسلامية:

الحقوق في الإسلام تنبع من حقيقة أن الإنسان مكرم في جوهره بغض النظر عن لونه أو عرقه أو دينه، كما جاء في قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم) (الإسراء: 70). هذه العالمية تتناقض مع النظرة التي تجعل الحقوق حكراً على فئات معينة أو مرهونة بظروف سياسية أو اقتصادية. الإسلام يدعو إلى ضمان هذه الحقوق لكل إنسان باعتباره جزءاً من الأسرة البشرية الكبرى.

في الختام يمكننا أن نقول إن فلسفة الإسلام للحقوق تُظهر رؤية شاملة ومتكاملة تربط بين الروح والجسد، الفرد والمجتمع، الثبات والتجدد، الأخلاق والحقوق. ومن خلال هذه الرؤية، يقدم الإسلام بديلاً متوازناً يُلبي احتياجات الإنسان دون أن يتخلى عن القيم والمبادئ العليا التي تُشكل غايته النهائية. هذه الفلسفة تجعل من حقوق الإنسان ليس فقط مسألة قانونية، بل منظومة أخلاقية وإنسانية تهدف إلى تحقيق العدل والخير في الدنيا والآخرة. 


[1] - راجع كتاب سليفان ماتون، حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس، ترجمة محمد الهلالي، الرباط، 1995

[2] محمد مهدي شمس الدين، حقوق الإنسان في الإسلام، إصدارات منظمة افعلان الإسلامي، القاهرة، 1988، ص389.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م