26 ذو القعدة 1446 هـ   24 أيار 2025 مـ 4:09 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | ديانات |  الأصولية اليهودية والصهيونية: بين المنظور اللاهوتي والتوظيف السياسي
2025-02-22   224

الأصولية اليهودية والصهيونية: بين المنظور اللاهوتي والتوظيف السياسي

الشيخ معتصم السيد احمد

المقدمة

شهد العالم في العقود الأخيرة اهتماماً متزايداً بمصطلح "الأصولية"، حيث أصبح يُستخدم للإشارة إلى تيارات دينية تتسم بالتشدد والتفسير الحرفي للنصوص المقدسة. وقد توسع المفهوم ليشمل مختلف الأديان، ومن بينها اليهودية، التي شهدت بروز تيارات أصولية متشددة، تتبنى رؤية دينية صارمة تستند إلى التوراة والتلمود. في المقابل، ظهرت الصهيونية كحركة ذات بعد سياسي، ورغم أنها استندت إلى بعض المبررات الدينية، فإنها تبنّت تفسيراً عملياً للتراث اليهودي، محولة الأصولية اليهودية من بعدها الغيبي إلى مشروع سياسي يسعى إلى تحقيق أهدافه عبر وسائل مادية وعسكرية. في هذا البحث، نسلط الضوء على الفرق بين الأصولية اليهودية والصهيونية من منظور لاهوتي، موضحين جذورهما الفكرية وآثارهما السياسية والاجتماعية.

 

مفهوم الأصولية: بين الدلالة الدينية والتوظيف السياسي

يرتبط مصطلح الأصولية عموماً بالتشدد في التمسك بالتقاليد الدينية والتفسيرات الحرفية للنصوص المقدسة. وقد بدأ استخدامه مع الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة خلال أوائل القرن العشرين، حيث طالبت هذه الحركة بالالتزام الصارم ببعض العقائد اللاهوتية في مواجهة التيارات الحداثية داخل الكنيسة البروتستانتية. ومع مرور الزمن، أصبح المصطلح يُستخدم لوصف التيارات المتشددة في الأديان الأخرى، ومنها اليهودية.

 

في السياق اليهودي، ترتبط الأصولية بالنصوص الدينية التي تؤكد على التمايز اليهودي عن بقية الشعوب، وتتبنى رؤية انغلاقية ترفض الاندماج مع الآخرين. هذه النزعة تستند إلى مفاهيم دينية تُرسّخ الإحساس بالتفوق اليهودي والانعزال عن بقية الأمم، وهو ما يتجلى في بعض نصوص التلمود التي تضع اليهود في مرتبة أعلى من غيرهم، وتفرض عليهم عدم التعامل مع الأغيار إلا في حدود الضرورة.

 

أما الصهيونية، فهي حركة سياسية نشأت في أواخر القرن التاسع عشر، متأثرةً بالنزعات القومية الأوروبية، وقد سعت إلى تحقيق هدف إقامة دولة يهودية مستقلة. ورغم استنادها إلى بعض المبررات الدينية، فإنها مثلت قطيعة مع الأصولية اليهودية التقليدية، التي كانت ترى أن تحقيق الخلاص اليهودي مرتبط بالتدخل الإلهي، وليس بعمل بشري. ومن هنا، يمكن التمييز بين الأصولية اليهودية التي تركز على الالتزام الديني وانتظار الخلاص، وبين الصهيونية التي جعلت من الدين أداة لتحقيق أهداف سياسية واقعية.

 

الأصولية اليهودية: الأبعاد اللاهوتية والتشدد الديني

تقوم الأصولية اليهودية على تفسير حرفي للنصوص الدينية، لا سيما التوراة والتلمود، حيث يُنظر إلى اليهود كشعب مختار له مكانة خاصة عند الله، ويُعتبر باقي البشر في مرتبة أدنى. وقد ساهمت هذه العقيدة في تعزيز الشعور بالعزلة والتفوق الديني، ما أدى إلى ظهور جماعات يهودية متشددة ترفض أي تفاعل مع غير اليهود.

 

ويظهر هذا الفكر بوضوح في بعض نصوص التلمود، مثل: "يجب ترك غير اليهودي إذا وقع في البئر." وهذا يعكس موقفاً عدائياً تجاه غير اليهود. وجاء في نص آخر: "إذا أقدم غير اليهودي على ضرب يهودي، فإنه يستحق القتل، لكن لا يُقتل اليهودي إذا قتل غير اليهودي. وما يسرقه من غير اليهودي يمكنه الاحتفاظ به." (غرائب التلمود، ص 27-28). هذه النصوص تؤكد على مفهوم الانفصال عن غير اليهود، وترسّخ مبدأ عدم الاعتراف بهم كشركاء متساوين في الإنسانية.

 

الصهيونية: البعد السياسي واستغلال الأصولية

في المقابل، تعد الصهيونية حركة قومية تستند إلى أسس سياسية أكثر منها دينية، حيث سعت إلى إقامة دولة يهودية مستقلة، مستخدمة النصوص الدينية كوسيلة لتعزيز شرعيتها. وبينما كانت الأصولية اليهودية التقليدية ترفض فكرة إقامة دولة يهودية قبل مجيء المسيح المنتظر، فإن الصهيونية قلبت هذه المعادلة، معتبرةً أن اليهود أنفسهم مسؤولون عن تحقيق الخلاص، وليس انتظار التدخل الإلهي.

 

يتضح هذا التحول في مقولة ديفيد بن غوريون، أحد مؤسسي الكيان الصهيوني، حيث قال: "على اليهودي، من الآن فصاعداً، ألا ينتظر التدخل الإلهي لتحديد مصيره، بل عليه أن يلجأ إلى الوسائل الطبيعية العادية مثل الفانتوم والنابالم. فالجيش الإسرائيلي هو خير مفسر للتوراة." (عبد الوهاب المسيري, الصهيونية والعنف, ص 44) هذا التصريح يعكس رؤية صهيونية ترى أن القوة العسكرية والسياسية هي الوسيلة لتحقيق الأهداف اليهودية، بدلاً من الاعتماد على الغيبيات الدينية.

 

ومن هنا، فإن الأصولية الصهيونية تختلف عن الأصولية اليهودية التقليدية من حيث أنها لا تكتفي بالتشدد الديني، بل تسعى إلى تطبيقه في الواقع عبر سياسات توسعية وعدوانية. وقد أدى هذا التوجه إلى نشوء تيارات متطرفة داخل الكيان الصهيوني، مثل حركة "غوش إيمونيم" والمستوطنين المتشددين، الذين يرون أن السيطرة على الأراضي الفلسطينية جزء من "الوعد الإلهي" لليهود.

 

التأثيرات السياسية والاجتماعية للأصولية اليهودية والصهيونية

أدى التداخل بين الأصولية اليهودية والصهيونية إلى تعزيز سياسات الاحتلال والاستيطان، حيث تستند الجماعات اليهودية المتطرفة إلى نصوص دينية لتبرير اعتداءاتها على الفلسطينيين. وفي الوقت نفسه، تستخدم الصهيونية هذه النصوص لتبرير سياساتها أمام الرأي العام العالمي، مدعيةً أن إقامة "إسرائيل" هو تحقيق لنبوءات توراتية.

 

ومن الناحية الاجتماعية، عززت الأصولية اليهودية النزعة الانعزالية داخل المجتمع الإسرائيلي، حيث ترفض الجماعات الدينية المتشددة الاندماج في المجتمع الحديث، بل تفرض قيوداً صارمة على أتباعها، مثل منع الاختلاط والتعليم العلماني. وفي المقابل، سعت الصهيونية إلى استغلال هذه النزعات لتحقيق مكاسب سياسية، مستخدمة الدين كأداة تعبئة للسيطرة على الأراضي الفلسطينية وتوسيع نفوذها.

 

الخاتمة

يتضح مما سبق أن الأصولية اليهودية والصهيونية، رغم تشابهما في بعض الجوانب، إلا أنهما تختلفان في الأهداف والأساليب. فالأصولية اليهودية ترتكز على التفسير اللاهوتي الصارم للنصوص المقدسة، وتؤمن بأن الخلاص لا يتحقق إلا بتدخل إلهي. أما الصهيونية، فقد حولت هذا الإيمان إلى مشروع سياسي، يقوم على استخدام القوة العسكرية والسياسية لتحقيق أهدافها.

 

وقد أدى هذا التداخل بين الدين والسياسة إلى تفاقم الصراع في المنطقة، حيث تستخدم الصهيونية المبررات الدينية لتبرير الاحتلال والاستيطان، بينما تسهم الأصولية اليهودية في ترسيخ عقلية التفوق والانغلاق على الذات. ومن هنا، فإن فهم الفروقات بين هذين التيارين يساعد على إدراك طبيعة التحديات التي تواجه القضية الفلسطينية، ويوضح كيف يُستخدم الدين كأداة للهيمنة والتوسع.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م