7 شوال 1445 هـ   16 نيسان 2024 مـ 7:56 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2022-04-17   975

الإمامة الكبرى

ما زالت سنة الابتلاء الرباني لخلقه من الإنس، الطريقة المثلى في تزكيته لصفوتهم، وتسميته لمن يكون ممثلا عنهم وخليفته بينهم، خصوصا وأنها ـ سنة الابتلاء ـ تعتمد على منظومة كبرى من الامتحانات التي تعمل على تهيئة ذلك المصطفى وتخليق بنيته الفكرية لعبودية مطلقة لله سبحانه وتعالى، ومن ذلك قوله تعالى ((وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ))(سورة البقرة ـ 124)، حيث تتحدث الآية الشريفة عن الامتحان العظيم الذي تلقاه الممتَحن إبراهيم عليه السلام، من خلال كلمات الممتحِن جل شأنه، بغية صيرورته ـ إبراهيم عليه السلام ـ إماما لكافة الناس، كمكافأة من الله سبحانه وتعالى على فوزه عليه السلام في اختبار الإمامة وشروط تحققها. 
وبغية تهيئة إمام الناس، تحتمت الضرورة أن يكون هذا الإمام من الناس، وليس ملك منزلا من السماء، لئلا تتجافاه الناس بالصد، على اعتبار أن له ظروفا يمكن أن يتميز بها عنهم، ما يعني ـ والحديث لمن يشكك بذلك ـ أن تكليفهم وفقا لطبيعة جنسهم غير تكليفه الذي ينسجم مع طبيعة جنسه، فكان من المنطق أن يكون إمامهم منهم، ومن قماشتهم، وهو أبلغ وأجدى في إلقاء الحجة عليهم، فضلا عن كونه أبلغ وأجدى في الابتلاء والاختبار، ففي الحديث القدسي الشريف إنّما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، ناهيك عن إن أختيار حامل البريد السماوي للناس من نفس جنسهم البشري، يحمل في طياته تفضيلا لهم عن سائر الخلق بما في ذلك الملائكة، ((إِنَّ اللَّهَ اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ))(سورة آل عمران ـ 33)، ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا))(سورة الإسراء ـ 70)، عدا أن البشر أقدر على أدارة حياتهم مما لو أدارها لهم ملك كريم.
من هذا وذاك، ابتلى الله إبراهيم عليهم السلام بجملة من الابتلاءات، بدء مما تعرض له من النمرود ومحاولته حرقه بالنار التي صارت عليه بردا وسلاما ((قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ))(سورة الأنبياء ـ 70)، مرورا برؤياه  ذبحه ابنه إسماعيل عليه السلام ((وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ(113))(سورة الصفات ـ 99 ـ 113)، وصولا لإثبات توحيده المطلق لله ورفضه لكل مظاهر الشرك السائدة حينذاك ((وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ(53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ(54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَىٰ ذَٰلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَن فَعَلَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ(61) قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ  (63) فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ))(سورة الأنبياء ـ 51 ـ 67)، حتى تجاوز إبراهيم عليه السلام كل هذه الابتلاءات بالفوز الكبير، ما جعله مستحقا للثواب الإلهي أخرويا بالجنة ودنيويا بإمامته للناس ((إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا))، كاستحقاق طبيعي لما أمتلكه عليه السلام من جواز مر به من الابتلاءات الكؤود، مع شارطة مهمة قومها ان لا تكون هذه المنحة ـ الإمامة ـ مما يتوارثه ابناء ابراهيم عليهم السلام، إلا اذا كان من يتوارثها أهلا لها بإجتيازه الابتلاءات محل التمحيص والتهيئة، وهو ما بينه السؤال الإبراهيمي ((وَمِن ذُرِّيَّتِي؟))، حيث كان رده سبحانه وتعالى ((لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ))، وهو ما يجعل من منصب الإمامة منصبا دنيويا يحتاج لتمحيص وابتلاء رباني، ولا يمكن أن يتوارث الا بشرطه وشروطه، كونه عهدا من الله جل شأنه، لا يكون الا لمن يحتمل في الله الأحمال الثقيلة ويبتغي بها مرضاته، عاصما بذلك نفسه من الذنب، كبيرا كان أم صغيرا، حيث اشترط الله سبحاته وتعالى أمكانية أن تنتقل إمامة الناس من النبي إبراهيم عليه السلام الى ذريته ممن ينال عهد الله جل شأنه، فكانت بعده لأبنه إسماعيل عليه السلام كونه ممن رافق ابيه إبراهيم عليه السلام بالمسيرة الحنيفية التوحيدية، وصولا للنبي محمد عليه وآله الصلاة والسلام ومنه الى وصيه الإمام علي عليه السلام، ففي ذات السياق الذي أستحق به النبي إبراهيم عليه السلام منصب الإمامة، ابتلى الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام بجملة ابتلاءات، تمحيصا لإيمانه بالله وتهيئته لهذا المنصب، فكان الابتلاء الأول يوم طلب منه النبي الأكرم صلوات الله عليه وآله المبيت بفراشة، تمويها وتعمية منهما لكفار قريش الذين يرغبون بقتل النبي محمد صلوات الله عليه وآله، حيث بات عليه السلام في فراش النبي صلوات الله عليه وآله مع يقينه بأن أربعين من عتاة الكفار في طلب النبي صلوات الله عليه وأله، وقد لا يمنحونه فرصة للحياة، أما بقتله قبل أن يعرفوا هويته، أو أن يقتلونه جزاء على تمويههم وتعميتهم بغية تخليص النبي محمد صلى الله عليه وآله، فكان بذلك مصداقا لمن يشري نفسه في طلب رضا ربه ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ))(سورة البقرة ـ 207(.
كما أبتلي عليه السلام باثبات توحيده لله، خصوصا أنه لم يسجد لصنم قط، حيث كرمه الله بذلك، ناهيك عن تكسيره للأصناه التي كان يعبدها مشركو قريش، فعنه عليه السلام أنه قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وهو بمنزل خديجة ذات ليلة، فلما صرت إليه قال اتبعني يا علي، فما زال يمشي وأنا خلفه ونحن نخرق دروب مكة حتى أتينا الكعبة وقد أنام الله كل عين، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله يا علي، قلت لبيك يا رسول الله، قال اصعد على كتفي يا علي، قال ثم انحنى النبي صلى الله عليه وآله فصعدت على كتفه فألقيت الأصنام على رؤوسهم وخرجنا من الكعبة حتى أتينا منزل خديجة، فقال لي إن أول من كسر الأصنام جدك إبراهيم ثم أنت يا علي آخر من كسر الأصنام، فلما أصبحوا أهل مكة وجدوا الأصنام منكوسة مكبوبة على رؤوسها فقالوا ما فعل هذا إلا محمد وابن عمه، ثم لم يقم بعدها في الكعبة صنم.
ثم كان الابتلاء الأخر في تهيئة أبنه الإمام الحسين عليه السلام لواقعة الإباء ـ الطف الخالد ـ، حيث كان عليه السلام يعده وصفوة أهله لهذا اليوم الفاصل في المسيرة البشرية، ليكون بذلك مصداقا للفداء والتضحية، ومما روي في ذلك أن الإمام علي عليه السلام كان قد مر ذات يوم بكربلاء واغرورقت عيناه بالدموع قائلا هذا مناخ ركابهم، وهذا ملقى رحالهم، ههنا مراق دمائهم، طوبى لك من تربة عليها تراق دماء الأحبة، فكان بذلك الإمام الحسين كبش الفداء المذبوح حقيقة وليس مجازا كما إسماعيل عليه السلام. 
وبهذه الكمالات الفضلى أستحق الإمام علي عليه السلام ان يكون من ذرية ابراهيم عليه السلام ممن نالوا العهد من  ربهم، متحصلين بذلك على إمامة الناس، حتى قال فيه النبي الأكرم صلوات الله عليه وآله من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، والى نوح في فهمه والى إبراهيم في حلمه، والى يحيى بن زكريا في زهده، والى موسى بن عمران في بطشه فلينظر إلى علي بن أبي طالب، بل وقد كرمه بأستمرار الإمامة بنسله ممن التزموا العهد الإلهي وتدربوا على عصم انفسهم من الخطأ والزلل، لتستمر بهم الإمامة تحقيقا للحجة الربانية على الخلق. 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م