30 ربيع الاول 1446 هـ   4 تشرين الأول 2024 مـ 4:40 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | استطلاعات |  قدرة العقل... بين الإفراط والتفريط
2022-07-13   503

قدرة العقل... بين الإفراط والتفريط

يبدي الكثير من مثقفينا تذمراً من عدم تعقلهم لكل ما شرعه الله في دينه كمنهج في الحياة، هذا المنهج الذي أوضح الله منذ خلق البشرية إنها ان سارت عليه، نجوا وتكاملوا روحاً وعقلاً، وفازوا بالخلود في الجنة، وإلا هلكوا وتسافلوا في الروح والعقل وخلدوا في النار.. أو إن خلطوا بين الأمرين فإنهم سيذوقون من كلا الموردين...
ويتجاوز هذا التذمر حدود العقل نفسه، وذلك حينما يعترضون على بعض قوانين السماء، ويعلنون جهاراً انهم لا يطبقونها ولا يؤمنون بها لمجرد أن عقولهم لم تعقلها!!! بل ويأسفون أنهم طبقوها في يومٍ ما...!
فيبقون يدورون في دوامة البحث عن حقائق غير موجودة، لأنهم لا يستندون على أي ثوابت ينطلقون منها، رغم أن العلم في كل مجالاته فيه الثابت والمتغير، فكل شيء عندهم قابل للقياس والفحص بالعقل سواء كان من الثوابت او من الأشياء التي تُرك للعقل المجال للبحث فيها..
لِم جعل الله الكفار (أصحاب الديانات الأرضية) نجسين عيناً ودعانا لاجتناب طعامهم؟ لِم حرم الأغاني؟ لم انحصر تطهير الإناء الذي ولغ به الكلب بالتراب وليس بالماء والمعقمات حتى في عصر وجودها؟ لم صارت الكلمات التي ينطقها الرجل والمرأة عند العقد سبباً في حلية النكاح؟ وتركها سبباً في جعله زنا؟ لم يرجم الزاني؟ ولم تقطع أصابع السارق رغم ان هذا الحكم لم تتوفر شروطه إلا على افراد معدودين طوال تاريخ دولة الاسلام الحقيقي ـ دولة النبي والإمامين علي والحسن صلوات الله عليهم ـ لا الاسلام السياسي؟ ولم ولم ولم ...تساؤلات كثيرة تبدأ ولا تنتهي...
فهم يعتقدون أن العقل قادر على تفسير كل الظواهر، وايجاد كل الحلول، والحكم على كل الأشياء، بلا ثوابت واعتقادات مسبقة، فكل شيء قابل للقياس بنظرهم ولا ثابت يقاس عليه!!
وبالمقابل يرى ظالمي العقل أنه لا يستطيع الحكم على صحة الأشياء ما لم يخبر الله بذلك، فمثلاً الصدق عندهم حسن والكذب مذموم، لا لأن العقل يقبل الأول ويمتدحه، ويرفض الثاني ويذمه، بل لأن الله قال ذلك فقط...!!!
كلا الفريقين مخطئ، فالأول اتخذ من الإفراط منهجاً بينما اتخذ الثاني من التفريط منهجاً له...
وهنا لا بد من إيضاح أمرٍ مهم، وهو أن العقل مخلوق ناقص.. نعم به يثاب ويعاقب الإنسان لأنه سبب اختيار الأخير لطريق الحق، لكن أي طريق؟ 
انه الطريق الذي يرسمه الله لا الذي يرسمه العقل نفسه، والا اقتضى الدور كما يقول الفلاسفة...
وان عجز العقل عن تفسير كل شيء ونقصه عن الاحاطة بكل الأمور، لا ينفي قدرته على تفسير وتعقل الملايين من القضايا غيرها، كما لا ينفي قدرته على اختيار الطريق الصحيح بين آلاف السبل..
وينبغي الإشارة إلى ان النصوص التي وصلتنا في الشرائع السماوية لم ينتجها العقل البشري حتى نعرضها عليه ونأخذ موافقته عليها، فنرفض ما لم يعقلها ونقبل الآخر..
إذ لو كان العقل كافيا لحل مشاكل البشر ما أرسل الله لهم 124000 نبي ليبين طريق الوصول للسعادة في الدارين؟ 
ولو كان العقل قادرا على تفسير الظواهر كلها بدون مساعدة الله له، لما أخطأ التشخيص في آلاف القضايا الاجتماعية والنفسية والسلوكية وتراجع عن تفسيره لها بعد سنوات وأحيانا قرون...
الله خلق العقل ناقصاً وهذا ليس عيباً في الله، فسبحانه بحكمته لم يجد ضرورة من أن يجعل العقل قادرا على فهم وتعقل كل شيء، لم يجعله مثلاً قادرا على مناقشة الله في احكامه واستخلاصها بدون الاستعانة بأنبيائه، وجعله في ذات الوقت مقياساً في تبيان طريق الحق من بين سبل الشيطان، بعد أن يبين طريق الحق عن طريق الله نفسه لا العقل، ولم يجعل الأخير مشرعاً وقاضياً يقبل ما يشرعه الله مما يعقله ويرفض ما سواه، بل جعله وسيلة لاختيار طريق الحق والابتعاد عما سواه، فان كان العقل هو من يقبل ويرفض جزئيات الشريعة حسبما يعقلها، فإذن لم أرسل الله الأنبياء وأمرنا باتباعهم بغض النظر عما جاءوا به؟! انما يثاب بالعقل ويعاقب به لأنه قادر على تمييز الحق من الباطل، لا لأنه قادر على تشريع أحكام الله بنفسها واستخلاص كيفياتها وجزئياتها..
الله الغني عن طاعة العباد والذي لا تضره معصيتهم، وضع شرائعه لمصلحة عباده... ففسر بعضها وترك البعض ليختبر ايمان العقلاء، هل يؤمن أحدهم بما يعقل فقط، ام يؤمن لأن الله قد قال الشيء وكفى..
مشكلة المبالغين في حجية العقل أو قل راكبي موجة (أن العقل يستطيع تفسير كل شيء)، وانه (قادر على تفسير الأشياء وان خالف التفسير ما جاءت به السماء)!!! مشكلة هؤلاء أنهم نسوا أن العقل نفسه مخلوق، وكل مخلوق محدود، والخالق هو من يضع حدود مخلوقاته سعة وضيقاً، وبإمكانه أن يشرع أحكاماً لم يستطع العقل تفسيرها حتى الآن، وقد لا يستطيع ذلك إلى يوم القيامة، تحديا لمخلوقاته العاقلة (الإنس والجن (.
والمشكلة الثانية لبعض هؤلاء المثقفين أنهم يطالبون باحترام التخصص لذوي الاختصاص، ولا يقبلون ابداء الرأي لغيرهم فيه - وهم فعلاً محقون في ذلك لأنه مطلب عقلائي دعا الله له عندما قال (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) - ولكنهم ينسون هذه القاعدة ببساطة ويتدخلون في اختصاص رب العالمين ويناقشون في قوانينه بمجرد تعلق الأمر باختصاصه!
فتراهم يتساءلون: لماذا لم تكن هذه القوانين هكذا وليس هكذا؟ لماذا لم نعقل هذا القانون ويتطابق مع ما نعلم وكأنهم انتهوا الى غاية العلوم؟! لماذا لم نجد له تفسيراً؟ لماذا لا تتلاءم هذه القوانين وروح العصر؟ 
وكأنهم بتساؤلاتهم هذه وغيرها يعرفون معرفة أزلية - كما يعرف الله - بملائمة وعدم ملائمة القوانين الإلهية لكل عصر... بل وكأنهم يعرفون العلل والأسباب لها، وأهلتهم معرفتهم هذه للاعتراض!!! 
هي دعوة لهؤلاء المثقفين لتطبيق ما ينادون به من احترام واحتكام للمتخصصين كل في مجاله: 
دعوا قوانين الله له فهو أعلم بمصالحها، ولا تبحثوا لِمَ شرعها ولِمَ يشرع غيرها، فهو العليم الحكيم، نعم لا بأس أن تبحثوا عن عللها وفوائدها، لتطمأن قلوبكم، فان وجدتم هذه العلل والفوائد كان بها، وإلا فلا يجب ان يكون ذلك مدعاة لرفضها وعدم تطبيقها، فهي لم توجد لمصلحته سبحانه، بل لمصلحتنا، ولا تكونوا ملكيين أكثر من الملك، وتنصبوا أنفسكم مدافعين عن خلق الله الذي هو أرحم بهم من أمهاتهم..
واهتموا اخوتي بالمساحة العريضة الحرة التي تركها الله لكم في آلاف الاختصاصات لتبحثوا وتفكروا وتعملوا عقلكم فيها، فهو لم يتدخل بهذه الاختصاصات – كما فعلتم باختصاصه رغم أنكم غير كاملين عقلاً وغير معصومين وهو العليم القادر على ايجاد الأفضل في كل العلوم- كل ذلك احتراما لعقولكم، وفتحاً للطريق لكم نحو التكامل العقلي الطبيعي بالتجربة والخطأ...
فقد رسم المنهج العام في الحياة من خلال شرائعه، حماية لكم من أنفسكم وأخطاء أهوائها.. وأوضح الخطوط العامة لعلاقة الانسان بنفسه وربه وبالناس، كي لا يقع التعارض، ولا يترك الله الانسان لعقله العاجز عن ايجاد المنهج الكامل في الحياة، في علوم الدين والنفس الاجتماع وما يرتبط بها مما يحدد العلاقة مع النفس والناس..
وقد يلقي بعض هؤلاء المثقفين باللوم على العلماء ويتهمونهم بأنهم هم من وضع هذه الشرائع أو على الأقل تفاصيلها، ليخرجوا من لوم الناس لهم بأنهم يعترضون على الله، وهذا واقعا من جهلهم بعلوم الشريعة، فالله قد رسم الخطوط العامة للحياة، ووضع في آياته المحكمة القواعد التي يستنبط العالم منها جزئيات الأحكام، وأسند هذه الآيات بالمتشابهات لتفسرها، ودعمها بالروايات والأحاديث لتبيان التفاصيل، والتي هي بدورها فيها محكم ومتشابه، وما دور العالم إلا دراسة هذه الآيات والأحاديث والعلوم المرتبطة به دراسة مستفيضة ليستطيع بعدها تطبيق القواعد الإلهية على الواقع فيستخرج الحكم الشرعي، فهو لم يأتي به من عندياته، ولم يجبرنا على اتباعه في استباطاته، بل ان الشريعة خيرتنا بين أن نتبعه، أو نجتهد مثله وندرس هذه العلوم فنستطيع استخراج أحكام الشريعة، ولأن الأمر الأخير صعب على معظمنا ترانا نختصر المسافة ونذهب للعالم الذي أمرنا الأئمة باتباعه..
ومع ذلك ترى بعض المثقفين يعترضون على تطبيقات العالم الديني لقوانين الشريعة واستخراجاته لأحكامها منها، رغم أنه أفنى عقودا من الزمن في دراستها، ولا يعترضون على تطبيقات المهندس المعماري الخبير لعلومه على الواقع أو الطبيب الخبير أو الصيدلي الخبير أو المحاسب الخبير.. رغم أن هؤلاء لم يدرسوا نصف ما درسه عالم الدين، ورغم أن أحكامهم قد تخطأ وقد تصيب، والواقع يشهد بمئات الأخطاء التي تصدر من خبراء في علومهم يومياً...
لا يُسأل الطبيب لم وصفت الدواء الفلاني؟ فيأخذه المريض وقد يموت بسبب خطأ الوصفة أو قد لا يشفى على الأقل، لكن يُسأل المرجع الديني عن فتواه لم أصدرها؟ رغم أنه استخدم القوانين العلمية المستخرجة من القرآن والحديث، ولم يستخدم قوانين وضعها البشر، قد تخطأ وقد تصيب؟!!!! ورغم أن الله أعذر العالم الديني ان جاءت نتائج تطبيقاته لتلك القوانين مخالفة للواقع بعد أن يستفرغ الوسع في استخراجها واعذرنا في اتباعه بها... في نفس الوقت الذي أعذر الطبيب والمهندس ان بذل ما في وسعه ولم يحصل على النتيجة المرضية بسبب قصور القوانين الأرضية التي ابتدعها هو أو غيره..
فهل من مدكر؟

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م