2022-08-12 1747
المعاد... بين النفي والإثبات
يصر اللادينيون على أن الحياة صدفة،
وأن نهايتها العدم، ويذهبون لإثبات ذلك بما لا يسع العقل تعقله،
فضلا عن رفضه من قبل الوجدان والفطرة السليمة قبل أن تؤدلجها
الإيديولوجيات وتلوثها الملوثات الفكرية، في حين يثبت الدينيون بأن
الحياة الدنيا ما هي إلا مرحلة من مراحل الحياة، وبالتالي فثمة حياة
أخرى، تبدأ من المعاد ((يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا
فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) (المجادلة ـ6).
وقد اثبت هؤلاء المتدينين بأن ثمة أدلة وجدانية وأخرى اجتماعية تشكلت عبر ما يسمى بالمسيرة البشرية الكبرى، تثبت كلها بأن الإنسان ـ منذ بدء الخليقة حتى اللحظة ـ كان وما زال مؤمنا بشكل راسخ بوجود حياة أخرى بعد طلاق روحه عن جسده (موته)، ولا يقتصر ايمانه هذا على مرحلة زمنية معينة يمكن ان نوسمها بالرقي الفكري او التخلف والرجعية الفكرية كالتي عاصرها الإنسان في غابر الأزمة واقاصي الأمكنة، فهذه الفكرة قد ترسخت لدى الإنسان الأول (البدائي) واقتنع بها الإنسان العصري (التقني) أن صح تسميته.
أركيولوجيا... فقد اثبتت الحفريات أن الإنسان الغابر ـ سواء ما كان منه بدائيا كنياندرتال أو متحضر ككالوتيوس اليوناني، قد أمن بمحض ارادته العقلية والوجدانية ـ على تباين مستواها ـ بوجود حياة أخرى غير ما يعيشها هو دنيويا، فما كان يدفن معه من أدوات وحلي وربما خدم إنما هو إشارة الى حاجته لها في تلك الحياة القادمة، وربما قرر أخرون اخذ من يرونه مناسبا لرفقتهم من أصدقاء وخلان.
وعلى الرغم من بدائية هذه الفكرة وسطحيتها، إلا أنها وجدانا تحتوي من الصدق الكثير، مع أن تصورهم معاق بالسذاجة والمادية البحت، خصوصا وانهم كانوا يعتقدون بأن موتاهم سيحتاجون لنفس احتياجاتهم الدنيوية للعيش في الحياة الأخرى، إلا أن ذلك لا يمنع من أيمانهم بوجود حياة أخرى وليس العدم، كما يشتغل على إثباته بعض الماديين الحاليين ممن أفرغ روحه من الوجدان وأحتكم للأرقام وحسب.
فشعوب الكونغو مثلا، أمنوا بضرورة ايناس ملكهم المتوفي باثني عشر فتاة تدفن معه لإدامة أنسه ورد خلوته، في حين أمن سكان جزيرة فيجي بضرورة دفن أدوات الصيد والزراعة مع موتاهم كونهم سيحتاجون اليها في حياتهم الأخرى.
كما أمن اليونانيون بوجود حياة اخروية للميت منهم، فاضطروا لدفن امتعته معه خصوصا الغذائية منها.
وبالقياس مع ما يتخبط به بعض المحسوبين على علماء الاجتماع من الماديين الذين لا يرون غير ما ترى عيونهم، متغافلين عن حكومة الوجدان والفطرة السليمة للإنسان في إيمانه بما ينتظره من غد بُعيد يومه هذا، معتبرين أن الاعتقاد بوجود حياة أخرى غير الدنيوية، إنما هي تراكيب التلقين التي يصنعها الدين ـ أي دين ـ لمعتنقيه! وهم بذلك يقعون في فخ التناقض مرة أخرى، فليس كل من يؤمن بوجود حياة اخروية، له انتماء ديني، بل وان الغالبية من هؤلاء استولدوا ايمانهم بالحياة الأخرى من وحي الوجدان فصاروا بعد ذلك من أهل الدين، أي أن ايمانهم بوجود أخر وليس فناء، يلزمهم بالإيمان بوجود قوة كبرى تدير وجوداتهم الدنيوية والاخروية وهو ما حتم عليهم البحث عن عليقة لهم بهذه القوة الكبرى (الله)، فكان الدين اختيارهم واللجوء الى الله سبيلهم.
كما أن اعتبار ايمان الفرد بموجود حياة أخرى، هو نتاج للعادات والتقاليد!، هو الأخر أمر سخيف، وإثبات بطلانه مرده استحالة اثبات هكذا "عادات وتقاليد" لأجيال مليارية ولسنوات لا يعلمها الا الله، خصوصا وأن العادات الإنسانية والتقاليد المجتمعية في حالة تغير وتطور مستمر، بل وتبدل دائم، غي أن الصل في التقاليد والعادات هو اللاثبات، إن لم يثبتها حاكم الوجدان والعقل.
وعلى الرغم من تداخل الخرافة والأساطير مع ما قرره الوجدان على الإنسان في فهمه للحياة الأخرى، فأن ذلك لا يعفي مستقبل ايامهم من وجود حياة جديدة وبأدوات معيشية غير الدنيوية منها، وبالتالي فأن حالة أيمان الإنسان بوجود معاد وحياة ثانية؛ تعرض هو الأخر ـ الأيمان ـ لتطور ـ حسب القوانين الاجتماعية ـ انتقلت بمفهوم المعاد من التصور البسيط الى الحقيقة القائمة التي أمن بها العلم الحديث بدء مما اقره العلماء من بقاء الذاكرة البشرية بعد الموت خصبة دون استطاعتهم للتعامل معها حاليا، وانتهاء بما قرروه من صعوبة تسمية مكان لجوء الروح الإنسانية بعد الموت، بعد أن أمنوا بوجود وزن وحيز لهذه الروح ـ على عظم صغرها ـ وبالتالي فأن هذا الشيء ـ الروح ـ لا تُعدم أنما تنتقل الى محل أخر، تقصر أدواتهم العلمية واساليبهم المعرفية عن تسمية كنهه.
وتكمن بداهة الأيمان بوجود حياة اخروية غير الدنيوية ـ على الرغم من تسلل الخرافات اليها ـ إلا انها حق لا محال، خصوصا وأن الوجدان البشري على طول المسيرة البشرية قد أمن بها كحقيقة قائمة وإن شابها ـ حسب تصورهم ـ غموض وإبهام، إلا أن استمرار الفكرة على الخط الزمني للإنسانية يؤكد بأنها فكرة وجدانية تحتاج لإعمال العقل في فهمها، وبالتالي فهي فكرة مغروسة في اعماق النفس الإنسانية وبشكل فطري، وما شذوذ البعض من الناس في نسفها إنما مرده للتلقين السلبي.
لذا فوجود حياة اخروية فكرة مُلهَمة للإنسان من قوى كبرى (الله) أثناء عملية الخلق والإبداع له، ما يجعلها إدراك باطني يحتاج للتعقل وليس للنسف والتسطيح.
((وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)) (العنكبوت ـ64)، ((إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)) (غافر ـ39)، ((وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)) (الأنعام ـ32).
وثمة استدلال منطقي أخر، يمكن أن نوظفه في قبول الإنسان لحقيقة وجود يوم أخر غير اليوم الدنيوي، ألا وهو شعورنا الفطري العميق بضرورة العدالة، ومسؤولية القوى الكبرى (الله) سبحانه وتعالى عن تحقيقها، ((تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) (القصص ـ83)، وبالتالي فأن وجود هذا الكون بحيثيات كبرى دون غاية! مما لا يقبله عاقل، فليس عبثيا وجود قوانين تحكم حركة مكونات الذرة ـ على تناهي صغرها ـ وبشكل تراتبي تناسقي مذهل، فضلا عن الحركة الهندسية التي تتحركها الأفلاك بمجراتها ومحتوياتها، هي الأخرى تنبؤنا بوجود غاية لطيفة لها تحركها يد غاية في الدقة والعناية، فضلا عن وجود العدد اللامتناهي للمخلوقات التي تنظم الوجود الإحيائي فيما بينها، خير دليل على عظم المهندس الأعظم، ليأتي التساؤل هنا عن "عبثية" خلق الإنسان وقذفه في المجهول! مما لا يقبله أي عقل مهما صغر بتصوراته.
وبالتالي فأن الحكمة تجيبنا عن ذلك، بأن ليس للعبثية من محل في هذا الكون، وأن كل الأشياء أنما تتدبر بيد مدبر حكيم، ومن ذلك أننا نؤجل استحقاقاتنا عمن ظلمنا ـ بشكل فطري إذا لم تستجيب لنا القوانين الوضعية وتحقق لنا حقوقنا ـ نؤجلها ليوم أخر نؤمن بضرورة حقيقته وبالتالي تحقيقه لها ((يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) (التغابن ـ19)، ((رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابا (40) (النبأ ـ37 ـ40).
لذا فأن ايماننا باليوم الأخر، وأن كان مرده وجدانيا فطريا، إلا أنه حقيقة يفرضها المنطق والعلم، وهذا عين ما خلص اليه نورمان ونسان (محقق أوربي) حينما قال: "أن أي شكا أو ترددا لم يزلزلا يقيني الثابت بوجود حياة خالدة، فانا مؤمن بها وأجزم بأنها غير قابلة للرد".
وعلى هذا وذاك، فأن الإيمان بوجود حياة أخرى (معاد) ـ وإن لم يثبته البرهان الرياضي بعد ـ فأن الوجدان والإلهام الباطني قد تجاوزا الحديث عنه بعد أن اثبتاه بشكل لا يقبل الشك، ما يجعل الإيمان بالحياة الأخرى ـ الخالدة ـ أصلا من أصول الفهم الإنساني للحياة ـ فضلا عن كونه أصلا من أصول الدين، وهو ما جعل جميع الأنبياء في حالة الداعي له والمُذكر به.
((وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)) (البقرة ـ48).
وقد اثبت هؤلاء المتدينين بأن ثمة أدلة وجدانية وأخرى اجتماعية تشكلت عبر ما يسمى بالمسيرة البشرية الكبرى، تثبت كلها بأن الإنسان ـ منذ بدء الخليقة حتى اللحظة ـ كان وما زال مؤمنا بشكل راسخ بوجود حياة أخرى بعد طلاق روحه عن جسده (موته)، ولا يقتصر ايمانه هذا على مرحلة زمنية معينة يمكن ان نوسمها بالرقي الفكري او التخلف والرجعية الفكرية كالتي عاصرها الإنسان في غابر الأزمة واقاصي الأمكنة، فهذه الفكرة قد ترسخت لدى الإنسان الأول (البدائي) واقتنع بها الإنسان العصري (التقني) أن صح تسميته.
أركيولوجيا... فقد اثبتت الحفريات أن الإنسان الغابر ـ سواء ما كان منه بدائيا كنياندرتال أو متحضر ككالوتيوس اليوناني، قد أمن بمحض ارادته العقلية والوجدانية ـ على تباين مستواها ـ بوجود حياة أخرى غير ما يعيشها هو دنيويا، فما كان يدفن معه من أدوات وحلي وربما خدم إنما هو إشارة الى حاجته لها في تلك الحياة القادمة، وربما قرر أخرون اخذ من يرونه مناسبا لرفقتهم من أصدقاء وخلان.
وعلى الرغم من بدائية هذه الفكرة وسطحيتها، إلا أنها وجدانا تحتوي من الصدق الكثير، مع أن تصورهم معاق بالسذاجة والمادية البحت، خصوصا وانهم كانوا يعتقدون بأن موتاهم سيحتاجون لنفس احتياجاتهم الدنيوية للعيش في الحياة الأخرى، إلا أن ذلك لا يمنع من أيمانهم بوجود حياة أخرى وليس العدم، كما يشتغل على إثباته بعض الماديين الحاليين ممن أفرغ روحه من الوجدان وأحتكم للأرقام وحسب.
فشعوب الكونغو مثلا، أمنوا بضرورة ايناس ملكهم المتوفي باثني عشر فتاة تدفن معه لإدامة أنسه ورد خلوته، في حين أمن سكان جزيرة فيجي بضرورة دفن أدوات الصيد والزراعة مع موتاهم كونهم سيحتاجون اليها في حياتهم الأخرى.
كما أمن اليونانيون بوجود حياة اخروية للميت منهم، فاضطروا لدفن امتعته معه خصوصا الغذائية منها.
وبالقياس مع ما يتخبط به بعض المحسوبين على علماء الاجتماع من الماديين الذين لا يرون غير ما ترى عيونهم، متغافلين عن حكومة الوجدان والفطرة السليمة للإنسان في إيمانه بما ينتظره من غد بُعيد يومه هذا، معتبرين أن الاعتقاد بوجود حياة أخرى غير الدنيوية، إنما هي تراكيب التلقين التي يصنعها الدين ـ أي دين ـ لمعتنقيه! وهم بذلك يقعون في فخ التناقض مرة أخرى، فليس كل من يؤمن بوجود حياة اخروية، له انتماء ديني، بل وان الغالبية من هؤلاء استولدوا ايمانهم بالحياة الأخرى من وحي الوجدان فصاروا بعد ذلك من أهل الدين، أي أن ايمانهم بوجود أخر وليس فناء، يلزمهم بالإيمان بوجود قوة كبرى تدير وجوداتهم الدنيوية والاخروية وهو ما حتم عليهم البحث عن عليقة لهم بهذه القوة الكبرى (الله)، فكان الدين اختيارهم واللجوء الى الله سبيلهم.
كما أن اعتبار ايمان الفرد بموجود حياة أخرى، هو نتاج للعادات والتقاليد!، هو الأخر أمر سخيف، وإثبات بطلانه مرده استحالة اثبات هكذا "عادات وتقاليد" لأجيال مليارية ولسنوات لا يعلمها الا الله، خصوصا وأن العادات الإنسانية والتقاليد المجتمعية في حالة تغير وتطور مستمر، بل وتبدل دائم، غي أن الصل في التقاليد والعادات هو اللاثبات، إن لم يثبتها حاكم الوجدان والعقل.
وعلى الرغم من تداخل الخرافة والأساطير مع ما قرره الوجدان على الإنسان في فهمه للحياة الأخرى، فأن ذلك لا يعفي مستقبل ايامهم من وجود حياة جديدة وبأدوات معيشية غير الدنيوية منها، وبالتالي فأن حالة أيمان الإنسان بوجود معاد وحياة ثانية؛ تعرض هو الأخر ـ الأيمان ـ لتطور ـ حسب القوانين الاجتماعية ـ انتقلت بمفهوم المعاد من التصور البسيط الى الحقيقة القائمة التي أمن بها العلم الحديث بدء مما اقره العلماء من بقاء الذاكرة البشرية بعد الموت خصبة دون استطاعتهم للتعامل معها حاليا، وانتهاء بما قرروه من صعوبة تسمية مكان لجوء الروح الإنسانية بعد الموت، بعد أن أمنوا بوجود وزن وحيز لهذه الروح ـ على عظم صغرها ـ وبالتالي فأن هذا الشيء ـ الروح ـ لا تُعدم أنما تنتقل الى محل أخر، تقصر أدواتهم العلمية واساليبهم المعرفية عن تسمية كنهه.
وتكمن بداهة الأيمان بوجود حياة اخروية غير الدنيوية ـ على الرغم من تسلل الخرافات اليها ـ إلا انها حق لا محال، خصوصا وأن الوجدان البشري على طول المسيرة البشرية قد أمن بها كحقيقة قائمة وإن شابها ـ حسب تصورهم ـ غموض وإبهام، إلا أن استمرار الفكرة على الخط الزمني للإنسانية يؤكد بأنها فكرة وجدانية تحتاج لإعمال العقل في فهمها، وبالتالي فهي فكرة مغروسة في اعماق النفس الإنسانية وبشكل فطري، وما شذوذ البعض من الناس في نسفها إنما مرده للتلقين السلبي.
لذا فوجود حياة اخروية فكرة مُلهَمة للإنسان من قوى كبرى (الله) أثناء عملية الخلق والإبداع له، ما يجعلها إدراك باطني يحتاج للتعقل وليس للنسف والتسطيح.
((وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)) (العنكبوت ـ64)، ((إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)) (غافر ـ39)، ((وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)) (الأنعام ـ32).
وثمة استدلال منطقي أخر، يمكن أن نوظفه في قبول الإنسان لحقيقة وجود يوم أخر غير اليوم الدنيوي، ألا وهو شعورنا الفطري العميق بضرورة العدالة، ومسؤولية القوى الكبرى (الله) سبحانه وتعالى عن تحقيقها، ((تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) (القصص ـ83)، وبالتالي فأن وجود هذا الكون بحيثيات كبرى دون غاية! مما لا يقبله عاقل، فليس عبثيا وجود قوانين تحكم حركة مكونات الذرة ـ على تناهي صغرها ـ وبشكل تراتبي تناسقي مذهل، فضلا عن الحركة الهندسية التي تتحركها الأفلاك بمجراتها ومحتوياتها، هي الأخرى تنبؤنا بوجود غاية لطيفة لها تحركها يد غاية في الدقة والعناية، فضلا عن وجود العدد اللامتناهي للمخلوقات التي تنظم الوجود الإحيائي فيما بينها، خير دليل على عظم المهندس الأعظم، ليأتي التساؤل هنا عن "عبثية" خلق الإنسان وقذفه في المجهول! مما لا يقبله أي عقل مهما صغر بتصوراته.
وبالتالي فأن الحكمة تجيبنا عن ذلك، بأن ليس للعبثية من محل في هذا الكون، وأن كل الأشياء أنما تتدبر بيد مدبر حكيم، ومن ذلك أننا نؤجل استحقاقاتنا عمن ظلمنا ـ بشكل فطري إذا لم تستجيب لنا القوانين الوضعية وتحقق لنا حقوقنا ـ نؤجلها ليوم أخر نؤمن بضرورة حقيقته وبالتالي تحقيقه لها ((يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) (التغابن ـ19)، ((رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابا (40) (النبأ ـ37 ـ40).
لذا فأن ايماننا باليوم الأخر، وأن كان مرده وجدانيا فطريا، إلا أنه حقيقة يفرضها المنطق والعلم، وهذا عين ما خلص اليه نورمان ونسان (محقق أوربي) حينما قال: "أن أي شكا أو ترددا لم يزلزلا يقيني الثابت بوجود حياة خالدة، فانا مؤمن بها وأجزم بأنها غير قابلة للرد".
وعلى هذا وذاك، فأن الإيمان بوجود حياة أخرى (معاد) ـ وإن لم يثبته البرهان الرياضي بعد ـ فأن الوجدان والإلهام الباطني قد تجاوزا الحديث عنه بعد أن اثبتاه بشكل لا يقبل الشك، ما يجعل الإيمان بالحياة الأخرى ـ الخالدة ـ أصلا من أصول الفهم الإنساني للحياة ـ فضلا عن كونه أصلا من أصول الدين، وهو ما جعل جميع الأنبياء في حالة الداعي له والمُذكر به.
((وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)) (البقرة ـ48).
الأكثر قراءة
24257
18565
13608
10345