19 شوال 1445 هـ   28 نيسان 2024 مـ 10:09 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2024-03-17   136

شهادات الأقران: ليسوا فلاسفة.. إنهم حفنة مهرجين

في نهاية عام ألفين وأربعة، كانت الأوساط الثقافية على موعد مع إعلان أذهل الكثيرين، هو إعلان الفيلسوف البريطاني أنطوني فلو أنه أصبح يعتقد بوجود إله، بعد أن كان واحداً من أبرز الملحدين في العالم وأشهرهم؛ وقد بدا كلام فلو مفاجئاً جداً، ليس من جهة عدوله عن إلحاده فحسب، بل من جهة استناده في إيمانه الجديد على ذات الأدلة الفلسفية القديمة، وذلك عندما انبرى قائلاً: «بأن الأدلة الفلسفية قد قادته بالفعل الى أن هناك إلهاً، وعلى وجه الخصوص علة أولى للكون بالنحو الذي وصفه ارسطو طاليس».

فقد كان فلو وعلى مدى أكثر من خمسين سنة واحداً من الفلاسفة المؤثرين والمشهورين على نطاق واسع ولم يعدل عن إلحاده إلا بعد أن بلغ الواحد والثمانين من عمره، ولذلك كان المتوقع منه أن يكون سبب إيمانه دليلاً مغايراً لم يكن مطروحاً من قبل، وإذا به يصرح بان سبب رجوعه للإيمان هو نفس الأدلة الفلسفية التي ذكرها رجال الدين، وغن سبب إلحاده كان عدم اطلاعه عليها، فقال: «لم أكن متخصصاً في ارسطو، لقد كانت المرة الأولى التي قمت بقراءة بعضٍ من فلسفته»[1].
هذه الواقعة تؤشر بما لا يقبل الشك أن هناك من يتصدى لإنكار الدين، وهو بعد لم يقف على شيء من أدلته، وإنما أكتفى بالاطلاع على بعض الكتابات المبسطة ولعلها مشوهة عن الدين والله، في السياق ذاته ينقل لنا أحد الفلاسفة المعاصرين عن أحد أصدقائه الملحدين: «أكد لي أحد زملائي من الملحدين ذات مرة أنه لم يكن بحاجة الى أن يتعب نفسه بالقراءة لكُتاب مثل توما الأكويني، لأنه يعرف بالفعل أنهم لابد أن يكونوا على باطل»[2].
من هؤلاء ما يحلو للبعض تسميتهم بفرسان الإلحاد الجديد، (ريتشارد دوكنز وسام هاريس ودانييل دنت وكريستوفر هيتشنز)، فرغم شهرتهم الواسعة إلا أن أقرانهم يصفونهم بالمهرجين علمياً، وأنهم لم يفقهوا شيئاً من الأفكار الدينية وأدلتها.
ريتشارد دوكنز والسمكة واندا
يقول إدوارد فيزر: في فيلم تم انتاجه سنة 1988، اسمه (سمكة تدعى واندا)، حوار لطيف بين سمكة وقرد، مفاده:
واندا: ولكنك تعتقد أنك مثقف، اليس كذلك أيها القرد؟
أتو: القرود لا تقرأ الفلسفة.
واندا: بل تقرأها يا أوتو، ولكنها لا تفهمها.
يقفز هذا الحوار لذهني كلما قرأت كتابات ريتشارد دوكنز، خصوصاً في كتاب (وهم الإله)، فقد يكون الرجل متخصصاً في علم الأحياء، إلا ان ذلك لا يؤهله لأبداء الرأي في المسائل الفلسفية، خصوصاً وان الأفكار التي اشتهر بنقاشها وتستند اليها سمعته ليست مسائل بيلوجية، وإنما أفكار فلسفية بامتياز، خصوصاً تلك التي حاول فيها ان ينال من الفيلسوف المسيحي توما الأكويني[3]!!
وهذا يعيدنا لقصة السمكة واندا، حيث يتوهم القرد أوتو أنه مفكر بل فيلسوف على وجه التحديد، والمشكلة إنه صفر اليدين تماماً من أي فهم حقيقي للفلسفة، يضاف اليه أنه جاهل بجهله، وهنا تأتي المهزلة.
فلو كانت واندا تنظر لدوكنز وهو يكتب (وهم الإله)، لقالت له: كفاك كذباً وجهلاً، بادعائك ان توما الأكويني ادعى وجود زمانٍ قبل العالم المادي، وأنه بنى دليله على وجود الإله على تلك المقدمة.
وأنه أي الأكويني لم يذكر في أيٍ من كتبه على عمومية قدرة الله تبارك وتعالى وأنه خير محض، بل مراجعة بسيطة لكتبه تكشف لك زيفك، فقد خصص الرجل مئآت الصفحات عبر العديد من الأعمال ليثبت هذه الحقيقة.
كما سيتضح لك ان القديس أنسلم لم يكن يحاول إثبات وجود الإله للإله نفسه. راجع ص77 ــ80، من كتابه (وهم الإله)[4]. الخرافة الأخيرة: ص174.
كريستوفر هتشنز.. مجرد صحفي
يقول إدوارد فيزر في كتابه (خرافة الإلحاد): «شكل لنا هتشنز مثالاً حياً على ان الصحفي الذي يقرأ أكثر من زملائه، لا يعني بأي حال من الأحوال انه يفهم أكثر منهم».
ويقول أيضاً: «إن هتشنز قام بدس خدعته من خلال عدد من الاعتراضات المبتذلة والمملة على (برهان النظم) لوليم بيلي ـ كبش الفداء المفضل عند كل ملحد ـ مع محاولة تزويق فكرته ببعض توافه نظرية التطور مسروقة من مجلة ساينتفك أمريكان وغيرها»
سام هاريس والهزالة الفلسفية
الوضع أصعب مع هاريس، فالمفروض أن الرجل يحمل شهادة البكالوريوس بالفلسفة من جامعة ستانفورد، إلا أنا نجد فيلسوفاً خبيراً كفيزر يصفه بأنه لم يستند في إلحاده وإنكار وجود الإله لبراهين فلسفية حقيقية، بل أكتفى بذكر شبهات يسهل ردها، حيث يقول فيزر: «لم يقل إلا القليل جداً عن المادة الفلسفية المتعلقة بالبراهين التقليدية على وجود الإله، حيث أكتفى بتكرار الانتقادات التي يعرفها أي شخص كان قد قرأ مقدمة من مقدمات الفلسفة في الكتب الدينية المدرسية، والتي يمكن الرد عليها بسهولة؛ إذ هي محض تعليقات كاريكاتورية وليس أكثر»[5].
لذا وبسبب ضعف الأدلة رفضت الناشرة مادلين موراي أوهير وهي ناشطة ملحدة طبع كتابه (رسالة الى الأمة المسيحية)، كونه سطحياً جداً على الرغم من عنوانه الرنان. وقد يكون سبب تركه دراسة الفلسفة والانتقال الى جراحة الأعصاب هو عدم إلمامه بمسائلها[6].
وقد وجه له فيزر نصيحة عنونها (رسالة عاجلة لخريج ستانفورد): ان التعليم القليل أمر خطير، فإما ان تشرب من نبع بيريا حتى الامتلاء، أو إياك ان تكتفي بالتذوق منه[7].
دانييل دَنت .. ظاهرة تسويقية
لكن المشهد الذي يثير الاشمئزاز حقاً هو ذلك الذي يأتي من دانييل دنت فهو بخلاف السابقين ليس مبتدئاً ولا هاوياً للفلسفة، ومع ذلك لا يخصص من كتابه الكبير (كسر التعويذة: الدين ظاهرة طبيعية)، المتكون من 448 صفحة، غير ثلاث صفحات فقط لمناقشة البراهين الفلسفية التقليدية على وجود الإله، وأكثر هذه الصفحات وجهها لمناقشة البرهان الوجودي لأنسلم، والذي لا يُعد برهاناً رئيساً عند الفلاسفة المدافعين عن الدين!!
لقد أقر أحد كتاب احدى الدراسات الحديثة المؤيدة لفلسفة دَنِت، بأن ثمة إجماعاً بين أقران دنت الأكاديميين على تقييم عمله، مفاده: أنه على الرغم من كونه مبدعاً ومهماً بشكل لا يمكن إنكاره إلا أنه يفتقر الى العمق الفلسفي مضافاً الى انه ليس منهجياً[8].
بيد ان زميل دنت ورفيقه مايكل روس، وهو ملحد ايضاً، كان أكثر صراحة في رسالة الكترونية بينهما، تم فضحها لاحقاً، جاء فيها: «اعتقد ان كتابك الجديد سيء بالفعل ولا يليق بك .. واعتقد انك وريتشارد دوكنز كارثتان أكيدتان في محاربة التصميم الذكي .. إن ما نحتاجه ليس الإلحاد المتهور، بل المواجهة الجادة مع القضايا، ولا أحد منكما على استعداد على دراسة المسيحية، وفهم الأفكار بصورة جدية»[9].
الفيلسوف كوينتين سميث، وهو مدافع مهم وكبير عن الإلحاد أكثر حتى من الملحدين الجدد، قد أعرب عن استيائه من الجهل الرهيب الذي يبديه الكثير من زملائه من المفكرين الملحدين، عند محاولتهم انتقاد المعتقدات الدينية، إذ يظهر أنه لا حظ لهم من المعرفة الدقيقة بالأدلة الرئيسة للفلاسفة المؤمنين، بل يفضلون مهاجمة الحجج الزائفة ورسم صور كاريكاتيرية صحفية بسيطة حول المعتقدات الدينية، فيقول: «الغالبية العظمى من فلاسفة المذهب الطبيعي لديهم اعتقاد غير مبرر بأن المذهب الطبيعي صحيح وحق، واعتقاد غير مبرر أيضاً، بان الإيمان بالإله او الإيمان بما وراء الطبيعة غير صحيح وباطل»[10].
وقد رأى الفيلسوف السياسي جيرمي وولدرون رأياً مماثلاً حول المواقف التي يبديها الملحدون تجاه الحجج الدينية في السياسة، حيث قال: «غالباً ما يدعي منظرو العلمانية بأنهم يعرفون ماهية الحجج الدينية، فهم يقدمونها كأنها وصفة بسيطة من قبل الإله، مدعومة بالتهديد بنار جهنم، ومستمدة من الوحي العام او الخاص، ويقارنونها مع التعقيد البديع لأحدى الحجج الفلسفية لرولز مثلاً او دوركن. ومع هذه الصورة في الذهن يعتقدون انه من الواضح أن الحجة الدينية ينبغي أقصائها من الحياة العامة.. غير إن أولئك الذين تجشموا العناء ليجعلوا أنفسهم على دراية بالحجج الموجودة التي تستند الى أساس ديني في النظرية السياسية الحديثة يعلمون انه تصوير مشوه للأمور»[11].
الشيخ مقداد الربيعي – باحث وأستاذ في الحوزة العلمية 
===============
الهوامش
[1] أنظر: مقابلة غاري هابرماس مع فلو في مجلة فيلوسوفيا كريستي، في عددها الصادر شتاء 2005. 
[2] الخرافة الأخيرة.. تفنيد الإلحاد الجديد، ص78.
[3] ليس تركيزه على الأكويني من فراغ، بل تقصد ذلك كونه أحد اهم فلاسفة القرون الوسطى، بل يُعد الأعظم بينهم بحسب الكنيسة الكاثوليكية، بل حتى من قبل كثير من البروتستانت.
[4] الخرافة الأخيرة، ص178.
[5] الخرافة الأخيرة، ص 178.
[6] الخرافة الأخيرة، ص179.
[7] إشارة الى اسطورة يونانية قديمة تشير لوجود ينبوع المعرفة التي كانت تلهم كل من يشرب منها العلم والمعرفة بالقرب من منطقة ليفيترا القديمة في بيريا وهي منطقة في مقدونيا القديمة.
[8] Tadeusz Zawidzki, Dennett (Oneworld Publications, 2007
[9] تمت طباعة النسخة البديلة تحت إجازة روس الممنوحة لوليم ديمبسكي على المدونة Uncommon Descent المطبوعة بتاريخ 21/2/2006.
[10] Quentin Smith,the metaphilosophy of Naturalism, philo; A journal of philosophy (Fall _ Winter 2001).
[11] And Equality p 20,God, Lock

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م