5 ربيع الاول 1446 هـ   8 أيلول 2024 مـ 2:20 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2024-08-30   58

فرانكشتاين عصر ما بعد الحداثة

الشيخ مقداد الربيعي: من ملحمة الملك السومري القديم جلجامش الذي خرج في رحلة للبحث عن إكسير الحياة الذي يمنح الأبدية لمرتشفه، إلى أسطورة ينبوع الشباب الدائم في مؤلفات المؤرخ هيرودوت، إلى عباس بن فرناس الذي صمم جناحين على أمل أن يتمكن من التحليق في الجو كالطير، سعى الإنسان منذ القدم لتخطي القيود التي تفرضها قوانين الطبيعة البشرية أو يفرضها تكوينه الجسدي.

لكن كان هذا السعي مؤطراً بعقيدة تدعو للتواضع، وتمد اليد لنيل مساعدة الغيب، إنسان يسعى لتطوير ذاته مع احتفاظه بجانبه الروحي، حتى جاء عصر النهضة والأنوار في أوربا، الذي قطع الصلة مع كل ما يمت للروحانية بصلة، وبدأت مرحلة الإنسان "السوبر مان" بتعبير نتشه.

إنسان طاغ متمرد، يضفي على نفسه صفات الإله، متجرداً عن إنسانيته، قال تعالى في ذمه لهذا الإنسان المتكبر: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ. مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ. مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ. ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ. ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ)، عبس: 17 ـ 21.

أن يكون الإنسان عبداً لله، حقيقة يرفضها الملحدون، بل الإنسان إله، ففي رحاب فكره الفلسفي، سعى لودفيغ فيورباخ إلى كشف النقاب عن سر الظاهرة الدينية، متسلحًا بأدوات الأنثروبولوجيا المادية. وفي كتابه الأبرز "جوهر المسيحية"، يقدم فيورباخ تحليلاً لهذه الظاهرة.

ينطلق فيورباخ من نقطة جوهرية، وهي التمييز بين الإنسان والحيوان. فالإنسان، في نظر فيورباخ، يتميز بوعيه وحياته الداخلية الغنية، التي تدفعه باستمرار نحو السمو واللانهائية. ولكن، حين يصطدم الإنسان بحدوده البشرية التي تحول دون تحقيق طموحاته، فإنه يلجأ إلى اختراع فكرة الإله، ويعزو إليه كل ما يتجاوز قدراته، وحين يدرك الإنسان استحالة بلوغ المثل العليا - الحق والخير والحب - التي تشكل جزءًا لا يتجزأ من طبيعته، فإنه ينسبها إلى الإلهي، متخليًا عن العقل لصالح الأوهام الدينية.

وباختصار: طبيعة الانسان تتوق للاتصاف بالمثل العليا، لكن عجزه عن الاتصاف بها يجعله يخترع شخصية الإله، يتوهم بأن الآلهة فقط هي من تستطيع الاتصاف بهذه الصفات الشريفة، دون الإنسان.

 

وفي تحليله للدين، يرى فيورباخ أن هذا الدين يلبي احتياجات ورغبات الإنسان بشكل مدهش، مما يجعله، في نظره، من صنع الإنسان نفسه. ويذهب فيورباخ إلى القول إن الإنسان كان خائفًا من عظمته وكرامته، فابتدع الله ليعكس عليه صفاته ومثله العليا. ولن يبلغ الإنسان مرحلة النضج الكامل إلا حين يدرك أنه هو نفسه إله.

كما ازدرى نيتشه الانسان المتصف بالرحمة والتواضع واصفاً إياه بالجبن والضعف، وداعياً لما يسميه بالرجل الخارق (السوبر مان)، واتَّهَمَ الدين بأنَّه «انتقامُ الخاسِرينَ مِنَ القُوَّةِ الخلّاقةِ للفائزين»، وأَعلَنَ نَفسَهُ إلهًا، خالِقًا قادِرًا على كُلِّ شَيءٍ في الوجودِ.

ويقول في كتابه "المسيح الدجال": «ليمت الضعفاء والفاشلون: هذا هو المبدأ الأول لحبنا للبشر. ودعونا نساعدهم على الاختفاء».

كما سار كارل ماركس بذات الاتجاه حين قال: «الدين هو تنهيدة الإنسان المقهور، هو القلب لعالم لا قلب له، وهو الروح لظروف لا روح فيها. إن الدين أفيون الشعوب.».

 

ولكن، في خضم هذه السذاجة الفكرية والمراهقة الفلسفية، لم يتوقع هؤلاء أن جبروت الإنسان المزعوم سيظهر حدوده بكل وضوح. وتذكرنا أسطورة فرانكشتاين بأن المخلوق، حين يفلت من عقال خالقه، يمكن أن ينقلب عليه وينشر الدمار والخراب أينما حل، ونحيلكم الى مقالنا السابق "عندما يكون الإلحاد سلاح دمار شامل".

 

لكن ما حقيقة دعواهم بأن الدين يدعو للضعف، وهل العبودية لله تعالى منشئاً للذل والهوان؟!

ابتداء، يبدو ان هذا مخالف لبديهيات الفكر الديني، وخصوصاً الإسلام، قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)، المنافقون: 8، لكن لنجعل السؤال أكثر عمقاً: ما حقيقة العبودية لله؟

بالرجوع لآيات الذكر الحكيم، يقول تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)، الذاريات: 56 ـ 58.

جعل الله تعالى العبادة هي الغاية من خلق الإنسان، من دون حاجته تعالى اليها كما ترشد الآيات اللاحقة الصريحة أن عبادة الجن والإنسان لا تزيده تعالى شيئاً، إذن ما الغاية من جعل العبادة هي الغاية؟ بعبارة أخرى: جعل الغاية هي العبادة لا يقطع باب السؤال، فهو أمر أيضاً نحتاج ان نعرف سببه والغاية منه؟

وباختصار لأن العبادة هي أقصى كمال يمكن أن يصل اليه الإنسان، فمعنى الآية الكريمة، أنه تعالى في مقام إظهار الامتنان على خلقه بأنه تعالى أخذ على نفسه أن يوصل الإنسان الى غاية كماله بأن يكون عبداً لله. ووفق هذا التفسير تكون العبادة عملية تكامل، لا هوان وضعف، فمن خلال العبودية يصل العبد الى أقصى درجات العلم والقدرة، ويسلط على مقاليد الكون بأسره، يظهر ذلك جلياً، في قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)، الطلاق: 12. فقد جعلت الآية الكريمة الغاية من خلق الكون بأسره أن يعي الإنسان هذه الحقيقة ويتلبس بها، ويدرك نفوذ قدرته تعالى في كل شيء، وأن لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وهل يعني ذلك مجرد الفهم والعلم النظري؟ بالقطع لا، وإنما هو سنخ علمٍ يملك به الإنسان القدرة على التحكم في الكون، فهذا إبراهيم عليه السلام، بعد نجاحه فيما ابتلاه ربه من ابتلاءات نال هذه الميزة العظيمة، بأن جعله الله إماماً قادراً على التصرف في السموات والأرض، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)، الأنعام: 75. والرؤية هنا بمعنى العلم، والعلم في هذه الرتبة يتوحد مع القدرة، فهما حقيقة بسيطة واحدة.

هذا الإيمان الذي استطاع به إبراهيم عليه السلام من أحياء الموتى، كما في وقله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، البقرة: 265.

فلاحظ أن الفاعل هو إبراهيم عليه السلام، ولكن الآية ختمت بنسبة العزة وهي أعلى مراتب القدرة، فهي المنعة التامة التي لا تعجز عن شيء، والحكمة التي هي أعلى درجات العلم، فنسب العزة والحكمة لله تعالى، بينما الفاعل هو إبراهيم عليه السلام، لنكتشف أن ما لإبراهيم منهما انما هو من فيضه تعالى، ونعمته عليه، ناله عليه السلام بالعبادة، فالإنسان العابد قادر على أن يملك العالم بأسره، فالدين مصدر قوة لا ضعف كما يتصور هؤلاء.

وفي ضوء ما تقدم نفهم قوله تعالى: (.. وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ..)، هود: 119، فالرحمة هي الغاية من خلق الإنسان، بإيصاله الى غاية كماله وهو العبادة، بمعنى العلم بأن الله على كل شيء قدير وأنه قد أحاط بكل شيء علماً.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م