ما وراء المختبر: كيف يُكمل الدين والعقل ما وصل اليه العلم؟
الشيخ مقداد الربيعي: تخيل وقوع جريمة قتل، واستُدعي فريق الأدلة الجنائية إلى مسرح الجريمة لجمع العينات وتحليلها في المختبر. لكن هل تكفي نتائج التحليلات وحدها لكشف هوية القاتل؟ أم أن الأمر يتطلب تفسيرًا وبناءً لقصةٍ متماسكةٍ تنسجم مع تلك التحليلات؟
إذًا، تحليلات المختبر ليست كافية لتفسير الظاهرة بشكل مستقل؛ فهناك عوامل أخرى ضرورية. فمثلاً، أثبتت النظريات العلمية حدوث انفجار قبل 13.8 مليار سنة نشأ منه الكون الحالي. لكن هل يُعد هذا الانفجار دليلاً على وجود خالق أم لا؟ للإجابة على هذا السؤال، نحتاج إلى أداة معرفية تختلف عن العلم التجريبي الحسي، وهي إما الدين او الفلسفة العقلية. وهذا ما صرّح به كبار العلماء، سواء كانوا ملحدين أو مؤمنين.
فقد صرحت الأكاديمية الأمريكية للعلوم بقصور العلم عن إبداء الرأي بما هو خارج عن المادة، فمسألة وجود إله من عدمه خارجة عن اختصاصه، حيث ذكرت: «العلم هو وسيلة للمعرفة عن العالم الطبيعي، ويقتصر على تفسير العالم الطبيعي من خلال الأسباب الطبيعية، لذلك لا يمكن للعلم أن يقول أي شيء عما هو فوق طبيعي، فمسألة وجود الله أو عدم وجوده هي أمر يقف العلم تجاهها على الحياد» (من خلق الله، إدكار أندورز، ص 70).
ويؤكد هذا المفهوم أيضًا ستيفن جاي جولد بقوله: «العلم لا يمكنه بأساليبه المشروعة أن يتخذ قرارات فاصلة في قضية وجود الله؛ فنحن لا نؤكدها ولا ننكرها، وبصفتنا علماء لا يمكننا التعليق عليها أصلاً» (العلم ووجود الله، هل قتل العلم الإيمان بوجود الله؟ جون لينكس، ص 160).
كما يوضح أوستن فاور هذا المبدأ بقوله: «كل علم يختار منحى من مناحي الأشياء في العالم ويظهر لنا كيف تعمل، وكل شيء يقع خارج هذا المجال يظل خارج نطاق هذا العلم. ونظرًا لأن الإله ليس جزءًا من هذا العالم، لا يمكن لأي شيء يُقال عن الخالق -مهما كان حقًا- أن يصير عبارة تنتمي إلى أي نوع من أنواع العلوم» (Fan 1997. P. 26. Is science a religion? The Humanist. Jan).
العلم، وفقًا لهذا المنظور، يجيب عن كيفية حدوث الظاهرة، لكن أسئلة مثل: من قام بالفعل؟ ولماذا قام به؟ تظل خارجة عن نطاق اختصاصه، وتتطلب مجالات معرفية أخرى مثل الدين والفلسفة. هنا، يشير حامل جائزة نوبل سير بيتر ميداوار في كتابه "نصيحة إلى العالِم الشاب" إلى أن «العلم لا يستطيع الإجابة على أسئلة من مستوى أسئلة تلاميذ المدرسة الابتدائية المتعلقة بالأصل والغاية، مثل: "كيف بدأ كل شيء؟" أو "لماذا نحن هنا؟" أو "ما الغاية من الحياة؟"». ويوضح أن الأجوبة لهذه الأسئلة لا يمكن العثور عليها إلا في الأدب التخيلي والدين (Hannah Devlin. Hawking: God Did Not Create The Universe. 12 Sep 2010).
ومن ناحية أخرى، يؤكد فرانسيس كولنز، مدير معهد الجينوم، على هذا بقوله: «العلم لا حيلة له في الإجابة عن أسئلة من نوع "لماذا جاء الكون إلى الوجود؟"، "ما معنى الوجود الإنساني؟"، و"ماذا سيحدث بعد أن نموت؟"» (أقوى براهين جون لينكس، ص 70).
ما نريد قوله هو أن نطاق العلم التجريبي هو المادة، ودوره كدور فريق الأدلة الجنائية، يبين كيفية حدوث الجريمة، وأما سؤال: "من الفاعل" فهو ما يحاول المحقق إثباته بعقله اعتماداً على نتائج الأدلة الجنائية، فدور العلم هو منتج للمعطيات التي يبني عليها الفلاسفة بعد ذلك، فمثلاً حتى لو أكتشف العلم سبب نشوء كوننا الحالي وهو وجود كون أوسع منه متعدد الأكوان، وكوننا واحداً منها، فإن ذلك لا ينفي السؤال عن الخالق، فمن أوجد هذا الكون الكبير الذي خلق كوننا؟! إذاً العلم مهما اكتشف لا يستطيع الإجابة عن أسئلة مثل "من الفاعل".
ولهذا نجد القرآن الكريم في التفاتة عميقة ينبه على هذا الأمر، ويصف غير المؤمنين بأن غاية علمهم هو "ظاهر الحياة الدنيا" الأمر الذي لا يكفي للإجابة عن سؤال الخلق، يقول تعالى: (.. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ). الروم: 6 ـ 8. إذن علمهم بظاهر الحياة الدنيا لم يكفهم بإجابة السؤال عن الخالق والفاعل، بل وقد أشار صاحب الكشاف الى نكتة مهمة في قوله تعالى (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا)، وهي أن جملة (يعلمون) بدل عن جملة (لا يعلمون) في الآية السابقة (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)، "وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه ويسد مسده ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا".
فينزل القرآن علمهم بظاهر الحياة الدنيا وقصرهم النظر عليه منزلة الجهل، ليتبين أن العلم الحقيقي هو ما تعلق بالعلل والأسباب العليا، دون تلك الأسباب الظاهرية.
وعليه لا يجوز قصر طريق المعرفة واليقين على الحس والتجربة، بل ان العقل أحياناً يتدخل حتى في نطاق العلم الحسي. فلا تقتصر صورة العالِم على الشخص الذي يرتدي معطفاً أبيضاً ويقف في المختبر، بل هذه الصورة أصبحت هي الصورة النمطية للعالِم في القرنين الأخيرين فقط، وقبل ذلك كان يُطلق على الذين يسعون إلى فهم الطبيعة "الفلاسفة الطبيعيون". فمثلاً، لم يكن نيوتن يسمي نفسه "عالِمًا" بل "فيلسوفًا طبيعيًا"، وكتابه الأشهر كان بعنوان " المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية"، مما يعكس هذا المفهوم. أما المصطلح اللاتيني scientia، الذي اشتقت منه كلمة "العلم"، فقد كان يعني ببساطة "اليقين" وكان يُستخدم للدلالة على أي حقيقة يقينية تم التوصل إليها سواء عبر التجربة أو عبر الاستدلال العقلي. لذا، المعرفة الناتجة عن التجربة كانت تُعتبر مجرد فرع من فروع العلم.
إن هذا التقييد لمصطلح "العلم" بالعلم التجريبي لم يحدث إلا في القرن التاسع عشر كما يذكر فلاسفة العلوم (روس 1962: ص71 ـ 72).
يتساءل كلي كليرك: «زوج ابنتي عالم فيزياء نظرية، ونادرًا ما يزور المختبر، وحتى لو فعل، فإن زيارته تكون قصيرة، أشبه بزيارة سائح لا كفني مختبر. أدوات عمله هي قلم حبر ومفكرة صفراء، ومختبره هو خياله. إنه لا ينظر إلى العالم، بل يجلس ويفكر، ويرى العالم بالأرقام، ثم يدون الأنماط العددية على الورق. يستمد النظريات من البديهيات والافتراضات الأساسية. فبحسبهم، لا يُعتبر عالِمًا لأنه لم يختبر نتائجه في المختبر؟!» (الدين وعلوم النشأة، ص 38).
وبالمثل، يعد ألبرت أينشتاين، أعظم عالم فيزياء نظرية، نموذجًا لرفض القوالب التقليدية؛ فقد توصل إلى نظرية كبرى عن طريق تخيله نفسه يمتطي شعاعًا من الضوء. رفض أينشتاين الفكرة التقليدية بأن الضوء يسير في خط مستقيم، مؤكدًا أن الضوء ينحني حول الأجسام ذات الكتلة الكبيرة مثل الشمس. وكان يعتمد بشكل كلي على الخيال والتأمل، دون الحاجة إلى إثباتها بالتجربة. وعندما أُتيحت فرصة لاختبار صحة نظريته أثناء كسوف الشمس عام 1919، لم يسافر للتحقق منها، ورغم ذلك، جاءت النتائج متطابقة مع نظريته، مما جعله يصبح شهيرًا عالميًا (إيزاكسون: ص 335).
بل قد توصل بعض العلماء لنتائج ونظريات كبيرة عن طريق الأحلام، ففي عام 1920 في الليلة التي سبقت عيد الفصح، استفاق العالم الألماني الحائز على جائزة نوبل أوتو لي الملقب بـ"الأب الروحي لعلم الأعصاب" من نومه، وقد استحوذت على تفكيره فكرة مهمة. دونها على قصاصة ورق ليغط في النوم بعدها على الفور. عندما استفاق مجدداً، وجد خربشاته عصية على القراءة. لكن لحسن الحظ، عاوده ذات الحلم في الليلة اللاحقة، وفي هذه المرة تنبه لكتابته وقام بتدوينها بسرعة على ورقة، ليكتشف بعدها كيفية انتقال النبضات العصبية كيميائياً، وهو ما حصد له جائزة نوبل في الطب عام 1936.