2024-11-21 66
هل المال والسلطة يغيران الإنسان أم يكشفان حقيقته؟
فلان غيره المال، وفلان غيرته السلطة، وفلان أصبح جشعاً او ظالماً او فاسقاً.. وهكذا. فهل هذه الأمور تغير الإنسان حقاً؟
الحقيقة إنها لا تغيره، غاية ما في الأمر أنها تضخم الحال الكامنة
في نفسه، فالبخيل يصير أكثر بخلاً عندما يغدو غنياً، والفاسق يكون
أكثر فسقاً، والظالم أكثر ظلماً.
في المقابل، الكريم يصير أكثر كرماً، والوصول لرحمه أكثر صلة،
والعطوف أكثر عطفاً.
المال، السلطة، المنصب، ونحوها، تظهر حقائقنا الداخلية، والتي أبى
الله تعالى وبمقتضى رحمته وعدله ألا يحاسبنا عليها إلا بعد إظهارها
للخارج وترجمتها بأفعال حقيقية.
لنتمثل ببعض الشواهد من القرآن الكريم، فإبليس لم يتحول الى متكبر
فجأة، وإنما أظهر الله تعالى ذلك مع علمه المسبق به (..وَأَعْلَمُ
مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ)، البقرة: 33. من خلال
تعريضه لاختبار وابتلاء السجود لآدم عليه السلام، والذي لولاه لما
ظهر هذا الاستكبار والعلو الكامن في داخله، قال تعالى: (إلا إبليس
أبى واستكبر وكان من الكافرين) البقرة:34، وقوله عز وجل: (فسجدوا
إلا إبليس لم يكن من الساجدين)، الأعراف:11.
وقد علل إبليس امتناعه بالسجود بعلل واهية يخفي خلفها غروره وكبره،
كقوله: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)، الأعراف:12،
وقوله: (لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون) الحجر:33.
وليست هذه سقطة إبليس الكبرى، فكان يمكنه الاعتذار والاستغفار
والتوبة منها كما فعل آدم عليه السلام، فالابتلاءات والمحن خير كاشف
لعيوبنا ومساوئنا التي قد نغفل عنها، لكن غروره واستكباره منعاه من
ذلك وأصر على عناد ربه، فاسترسل في عصيانه، وكان كل همه إثبات صحة
وجهة نظره، بأفضليته على المخلوق الجديد، وأنه مخلوق لا يستحق
التقدير الذي حباه به ربه!! قال تعالى: (قال فبما أغويتني لأقعدن
لهم صراطك المستقيم)، الأعراف:16.
فابليس لم يحدث له الكبر والغرور ساعة رفضه السجود، وإنما هو مكنون
فيه أظهره الامتحان والابتلاء، انظر لقوله تعالى: (.. فَلَمَّا
أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي
أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا
تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ)، البقرة: 33. وعليه فلا نرمي
مساوئنا على الظروف الخارجة عنّا، وإنما هي صفات كامنة في
النفس.
ومن هنا نفهم الآيات الكثيرة التي تحدثت عن ان الغاية من وجودنا هي
الامتحان والابتلاء، كقوله تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما
يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى
يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب)،
البقرة:214. فالآية تقرر انه لا يمكن ان يدخل الإنسان الجنة مالم
يمر بابتلاءات واختبارات تظهر حقيقته، وتطهره من درن الرذائل.
وقوله سبحانه: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين
جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)، آل عمران:142. في نفس السياق، إلا ان
أصرحها في ذلك قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْغَفُورُ)، الملك: 2.
ومما تقدم تظهر فائدة الابتلاءات والصعوبات التي تمر بنا، فهي تظهر
ما يكمن في داخلنا من خير أو شر، قال تعالى: (وَالْبَلَدُ
الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ
لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ
لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)، الأعراف: 58، وقوله تعالى ايضاً: (قُلْ
كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ
هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا)، الأسراء: 84.
والمسألة الأكثر أهمية، أننا بعد ان نكتشف ما أضمرنا في نفوسنا،
نتوب ونرجع كما فعل أبانا آدم، فتاب الله عليه وأرجعه لحضرة قدسه،
وشمله بكرم فيضه، ولا ننساق خلف شهواتنا، او تأخذنا العزة بالأثم،
كما فعل ابليس، فطرده الله من رحمته، أنظر لقوله تعالى:
(وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ
الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، السجدة: 21.
وارجو أن يكون هذا البيان لكلام الله تعالى نافعاً في فهم فلسفة
الابتلاء، بل فهم معنى الحياة، وسر السعادة بالوصول للكمال الذي
تنشده نفوسنا.
الأكثر قراءة
26397
18719
13944
10817