التاريخ يتحدث: من الحروب الصليبية إلى النكبة الفلسطينية
الشيخ مقداد الربيعي: غريب
حال فلسطين، فالمتتبع لسير التاريخ يجد تكراراً للحوادث بصورة تكاد
تكون متطابقة بين الحروب الصليبية التي كانت فلسطين قبلتها، والحال
الذي تمر به الان، من جهة دوافع الساسة وتخاذل قادة المسلمين،
ووحشية المحتل وممارسته الإبادة الجماعية، بل حتى الموقف الشيعي من
أحداثها. وهذا ما سنقف عليه في هذه المقالة.
دوافع الاحتلال
لم تولد الحروب الصليبية بشكل مفاجئ، وإنما مهدت لها مجموعة مواقف، لعل أبرزها دعوة البابا سلفستر الثاني العالم المسيحي لإنقاذ بيت المقدس. كما لم يمنع الصراع بين هنري الرابع والبابا جريجوري أن يؤكد دعوة سلفه، ويقول: «إن تعريض حياتي للخطر في سبيل تخليص الأماكن المقدسة لأفضل عندي من حكم العالم كله». ديورانت. ول. قصة الحضارة ج15، ص14.
إلا أن أفضل ما يمثل دوافع الحملات الصليبية هو خطبة البابا الفرنسي إربان الثاني والتي أشعلت الحروب الصليبية وكانت ـ بحسب ديورانت ـ أقوى الخطب وأعظمها أثراً في تاريخ العصور الوسطى، وهذا نصها:
«يا شعب الفرنجة، يا شعب الله المختار!.. لقد جاءت من تخوم فلسطين، ومن مدينة القسطنطينية، أنباء محزنة، تعلن أن جنساً لعيناً أبعد ما يكون عن الله، فقد طغى في تلك البلاد، بلاد المسيحيين، وخربه بما نشره فيها، من أعمال السلب وبالحرائق، ولقد ساقوا بعض الأسرى الى بلادهم، وقتلوا بعضهم الآخر بعد ان عذبوهم أشنع التعذيب، وهم يهدمون المذابح في الكنائس، بعد أن يدنسوها برجسهم، ولقد قطعوا أوصال مملكة اليونان، وانتزعوا منها أقاليم بلغ من سعتها أن المسافر فيها لا يستطيع اجتيازها في شهرين كاملين. على من إذن تقع تبعة الانتقام لهذه المظالم، واستعادة تلك الأصقاع، إذا لم تقع عليكم أنتم. أنتم من حباكم الله أكثر من أي قوم آخرين بالمجد في القتال، وبالبسالة العظيمة، وبالقدرة على إذلال رؤوس من يقفون في وجوهكم؟ ألا فليكن من أعمال أسلافكم ما يقوي قلوبكم، أمجاد شارلمان وعظمته، وأمجاد غيره من ملوككم وعظمتهم، فليثر همتكم ضريح المسيح المقدس ربنا ومنقذنا، الضريح الذي تمتلكه الآن أمم نجسة، وغيره من الأماكن المقدسة التي لوثت ودُنست..... لا تدعوا شيئاً يقعد بكم من أملاككم أو شؤون أسركم. ذلك بأن الأرض التي تسكنونها الآن، والتي تحيط بها من جميع جوانبها البحار وقلل الجبال، ضيقة لا تتسع لسكانها الكثيرين تكاد تعجز أن تجود بما يكفيهم من الطعام، ومن أجل هذا يذبح بعضكم بعضاً، ويلتهم بعضكم بعضاً، وتتحاربون، ويهلك الكثيرون منكم في الحروب الداخلية.
طهروا قلوبكم إذن من أدران الحقد، وأقضوا على ما بينكم من نزاع، واتخذوا طريقكم الى الضريح المقدس، وانتزعوا هذه الأرض من ذلك الجنس الخبيث، وتملكوها أنتم. إن أورشليم أرض لا نظير لهافي ثمارها، وهي فردوس المباهج. إن المدينة العظمى القائمة في وسط العالم تستغيث بكم أن هبوا لإنقاذها، فقوموا بهذه الرحلة راغبين متحمسين تتخلصوا من ذنوبكم، وثقوا بانكم ستنالون من اجل ذلك مجداً لا يفنى في ملكوت السماوات. قصة الحضارة، ج15، ص15 ـ 16.
تعتبر هذه الخطبة أخطر وثيقة تكشف عن الدوافع الحقيقية للحروب الصليبية، فهي تعكس بشكل واضح صورة المسلمين في الوعي الكنسي الغربي، فالمسلمون ـ حسب تعبير البابا ـ "جنس لعين" و "أمم نجسة" و "جنس خبيث" .
كما انه في الوقت الذي يؤكد الطابع الديني لهذه الحروب لم يخف الدوافع الأخرى لها، وهي دوافع رئيسة لا ثانوية، هي الدوافع الاقتصادية والسعي للسيطرة على مقدرات الشعوب الأخرى، متثملة في قول البابا: إن هذه الأرض التي تسكنونها الآن .. ضيقة لا تتسع لسكانها الكثيرين، تكاد تعجز ان تجود بما يكفيهم من الطعام.. إن أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها. لقد كان الجوع الذي عض بأنيابه معظم أوربا في عام 1095 للميلاد هو السبب وراء الأعداد الغفيرة من الفلاحين والمعدمين خلف قادة العصابات التي شكلت ما يعرف باسم "الحملة الشعبية" او "حملة الفلاحين" حيث رأى الفقراء إن حملة البابا فرصة رائعة للخلاص من الفقر والأقطاع والسادة الإقطاعيين». قاسم عبدة. ماهية الحروب الصليبية. ص67.
كما ان الدوافع الدينية والاقتصادية لا تمنع من وجود بواعث أخرى للحرب، وإن لم تكن بأهميتها، فقد كانت أوربا عشية الحروب الصليبية تعيش أسوء أحوالها الاجتماعية والسياسية، فكانت بحاجة لتصدير مشاكلها الداخلية وتوجيه جهودها وخصومتها نحو عدو خارجي، وقد أشار لهذه الحقيقة الباحث المعروف غوستاف لوبون: «كانت أوربة، ولا سيما فرنسة، في القرن الحادي عشر الذي جُردت في الحملة الصليبية الأولى، في أشد أدوار التاريخ ظلاماً، وكان النظام الإقطاعي يأكل فرنسة، وكانت مملؤة بالحصون، التي كتم أصحابها، وهم من أنصاف البرابرة، يقتتلون دائماً، ولا يملكون سوى أُناس من العبيد الجُهال، ولم يكن في ذلك الحين نفوذ شامل لسوى البابا، وكان الناس يخشون البابا أكثر من احترامهم له». حضارة العرب، ص320.
نجد ذات التعالي والصلف الذي يتعامل به الصهاينة والغربيين مع العرب والمسلمين، الدوافع موجودة في احتلال فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى، كما نجد عين الدوافع الآيدلوجية التي دفعتهم لغزو واحتلال فلسطين، لكن هذه المرة من طرف اليهود، وليس الصليبيين، كما أن الدوافع الاقتصادية، واستغلال ثروات باقي الشعوب حاضرة في أذهان المحتلين، بالإضافة لرغبة أوربا في إخراج اليهود والتخلص من تبعاتهم الاقتصادية والاجتماعية على مجتمعاتهم.
تخاذل قادة المسلمين
كان العالم الإسلامي عشية الحروب الصليبية منقسم على نفسه بين ثلاث دول، الأولى هي الخلافة العباسية التي كانت تحت هيمنة الأتراك السلاجقة وقتئذٍ، والثانية هي الدولة الفاطمية في مصر، والثالثة هي الدولة الموحدية في شمال أفريقيا، ومجموعة إمارات مشتتة في الأندلس. ولم تكن العلاقة السياسية بين الدول والأمارات الإسلامية على ما يرام، وإنما كانت تسودها الخصومات المذهبية والسياسية. مضافاً لاستسلام الخلفاء والأمراء لحياة الدعة واللهو والترف والعبث، ولذا لم يسجل لنا التاريخ مبادرة سريعة لمقاومة الغزو الصليبي في بدايته من قبل هؤلاء الحكام.
وكانت الجهود مقتصرة على ما قام به بعض الفقهاء والقضاة الذين طافوا المساجد وأطلقوا دعوات الجهاد والمقاومة، لكن من المؤسف لم تجد دعواتهم صدى لدى حكام المسلمين، بل فوجئ بعض العلماء الذين طلبوا النجدة بموقف مدهش من الخليفة العباسي ببغداد: «فقد جمع أحد الوفود المستنجدة كيساً كبيراً مليئاً بقحف الجماجم وشعر النساء والأطفال، ونثرها بين يدي المسؤولين، فكان جواب الخليفة لوزيره: دعني أنا في شيء أهم من هذا، حمامتي البلقاء لي ثلاث ليال لم أرها.
فقد كان للخليفة حمامة بلقاء اللون مدربة على الغلبة ونقر الحمام، وهذه كانت لعبة شائعة بين الناس، وكان الخليفة مولعاً بها، ويماثله الأغنياء والطبقات العالية». د. ماجد عرسان. هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس، ص81.
واليوم نجد تخاذل قادة المسلمين، بل الاصطفاف مع المحتل ضد أبناء جلدتهم، ويذرون الرماد في العيون برمي بعض المساعدات الغذائية للفلسطينيين، بينما يوفرون لأعداء الله الدعم السياسي والاستخباري والإعلامي من دون ذرة خجل.
وحشية الصليبيين
سجل مؤرخو الحروب الصليبية صوراً بشعة لأساليب القتل والتدمير التي اقترفها الغزاة في كل مدينة احتلوها، حتى أن بعض هؤلاء المؤرخين انتقد هذه الوحشية وطبيعة شخصية الغزاة الماجنة المتهتكة. يقول أسقف عكا الصليبي جاك دوفيتري في تاريخه عن القدس: «وكان لا يرى منهم في أرض الميعاد غير الزنادقة والملحدين واللصوص والزناة والقتلة والخائنين والمهرجين والرهبان الدُعار والراهبات العواهر».
ولم يكن غليوم الصوري أقل صراحة من ذلك، فقد قال بعد أن وصم أبناء الصليبيين بأنهم «من السفهاء الفاسدين والملاّحة الفاسقين: تلك هي رذائلهم الوحشية التي لو أراد كاتب أن يصفها لخرج من طور المؤرخ ليدخل في طور القادح الهاجي».
كما أكد ذلك الكاهن أنكتيل في تاريخه قائلاً: «قلما كان يوجد صليبي يسير بوحي ديني، فلم يترك أولئك الصليبيون جرائم وحشية وضرباً من قطع الطرق وفضائح مزرية إلا اقترفوها». حضارة العرب. غوستاف لولون. ص328 ـ 329.
وكتب المؤرخ الراهب التقي روبرت، يصف ما حصل حين الاستيلاء على القدس: «وكان قومنا يجوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت، ليرووا غليلهم من التقتيل، كاللبؤات التي خُطفت صغارها، وكانوا يذبحون الأولاد والشُبان والشيوخ ويقطعونهم إرباً إرباً، وكانوا لا يستبقون إنساناً وكانوا يشنقون أُناساً كثيرين بحبل واحد بغية السرعة.. وكان قومنا يقبضون على كل شيء يجدونه فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعاً ذهبية، فيا للشره وحب الذهب!
وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طريق المدينة المغطاة بالجثث. فيا لتلك الشعوب العُمي المعدة للقتل! ولم يكن بين تلك الجماعة الكبرى واحد ليرضى بالنصرانية ديناً، ثم أحضر بوهيموند جميع الذين اعتقلهم في برج القصر، وأمر بضرب رقاب عجائزهم وشيوخهم، وضعافهم، وبسوق فتيانهم وكهولهم الى أنطاكية لكي يُباعوا فيها». حضارة العرب. ص325.
بل صرح المؤرخون بحصول إبادة جماعية لجميع سكان مدينة القدس حتى من غير المسلمين، كاليهود، بل حتى النصارى من سكانها لم ينج منهم أحد، فقد كان الصليبيون «عندما دخلوا القدس قد عقدوا مؤتمراً أجمعوا فيه على إبادة جميع سكان القدس، من المسلمين واليهود وخوارج النصارى، كان عددهم نحو ستين ألفاً، فأفنوهم عن بكرة أبيهم في ثمانية أيام، ولم يستثنوا منهم امرأة ولا ولداً ولا شيخاً، ثم انهمكوا في كل ما يستقذره الانسان من ضروب السكر والعربدة، حتى نعتهم مؤرخهم برنارد الخازن بالمجانين، وشبههم بودان الذي كان رئيس أساقفة دول: بالفروس التي تتمرغ في الأقذار». حضارة العرب، ص327.
وما أشبه اليوم بالأمس، فهؤلاء وأمام أنظار العالم بأسره يقتلون يومياً عشرات بل مئات الأطفال والنساء والشيوخ العزل، من دون رادع، وكأن الذي يُقتلون ليسوا بشراً، بل لو أنزلوهم منزلة الحيوانات لهاجمتهم مختلف الدول والمنظمات، إلا أن المسلمين ليس لهم قيمة، ولا اعتبار لحياتهم، فبينما تجدهم يطالبون بمنع عقوبة الإعدام والمحافظة على حياة المجرمين حتى لو سفكوا دم آلاف الضحايا، لا نرى منهم حسيساً ولا نجوى في المطالبة بحماية المدنيين والأبرياء!
موقف الشيعة وقتها
أمام تخاذل الخليفة العباسي وقادة المسلمين تحرك قاضي حلب الشيعي أبو الفضل بن خشاب مطالباً بضرورة التحرك ضد الغزاة الصليبيين، دخل بن خشاب مسجد السلطان في بغداد بصحبة نفر من الحلبيين من الفقهاء والزهاد والتجار، وأنزلوا الخطيب عن المنبر وكسروه، وصاحوا وبكوا، لما لحق الإسلام من الإفرنج، وقتل الرجال وسبي النساء والأطفال ومنعوا الناس من الصلاة.
ثم دخلوا في الجمعة التالية مسجد الخليفة العباسي، وعندما حاول الحرس اعتراض طريقهم ألقوا به أرضاً بعنف، وكسروا المنبر الخشبي، وكالوا اللوم للخليفة العباسي نفسه، ولكن الخليفة العباسي وعائلته كانوا في شغل عن هذا، فقد صادف وجود ابن الخشاب في بغداد وصول زوجة الخليفة وأخت السلطان السلجوقي من أصفهان، ومعها من الجواهر والأموال والأثاث وأنواع الملابس الفاخرة، والخدم والغلمان والجواري، والحواشي، ما لا يدركه حصر فيحصر ولا عدد فيذكر. فقد كدرت استغاثة ابن الخشاب ما كان صافياً من الحال والسرور بمقدمها، وأنكر الخليفة المستظهر بالله ما جرى، لكن السلطان عذر الناس فيما فعلوه، ووعد بالتأهب للمسير الى جهاد أعداء الله الكفار!! الحروب الصليبية كما رآها العرب، أمين معلوف، ص115.
يمثل موقف حاكم حلب أشد المواقف التي كانت تمثل ثورة بوجه الخليفة المتقاعس والمنغمس في رغيد عيشه، تاركاً جموع المسلمين يواجهون مصيراً محتوماً.
ويتكرر المشهد اليوم، فنجد الشيعة في صدارة من وقف بوجه هذا الاستكبار والاستعلاء، وقدموا دمائهم قبل أموالهم، وشاركوا أخوتهم الفلسطينيين محنتهم، ورفعوا لواء الجهاد، في حين يقبع الآخرون في عواصمهم يحرصون على إقامة الحفلات الماجنة وتخوين المقاومين.