22 رجب 1446 هـ   22 كانون الثاني 2025 مـ 5:21 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-01-07   120

الإمام المهدي: رمز العدالة الإلهية والمستقبل الموعود

الشيخ معتصم السيد احمد

مما لا شك فيه أن الإسلام رسالة شاملة لدنيا الإنسان وآخرته. فإذا كانت الجنة ونعيمها هي الغاية العظمى التي أعدها الإسلام للإنسان في الآخرة، فإن غاية الإسلام للإنسان في الدنيا لا تقل شأناً عنها، بل تُعدّ جزءاً أصيلاً من رسالته. فمنذ اللحظة الأولى التي انطلقت فيها دعوة الرسول الأكرم للإسلام، برز تساؤل جوهري حول المؤدى النهائي لهذا المشروع الإلهي والغاية الكبرى التي يسعى لتحقيقها في حياة الإنسان

من هذا المنظور، يمكن النظر إلى الإمامة باعتبارها الضمانة الأساسية والحتمية لاستمرارية الرسالة المحمدية وتحقيق غاياتها الكبرى. فإذا كانت الرسالة الإلهية قد اكتملت وخُتمت بنبوة النبي محمد (ص)، فإن ذلك يستلزم وجود آلية تضمن بقاء هذه الرسالة حتى تحقق أهدافها النهائية. هنا تأتي الإمامة لتكون الامتداد الطبيعي لمسار النبوة، حيث تبدأ بعلي (ع) كأول إمام، وتستمر عبر سلسلة الأئمة، دون انقطاع، حتى تصل إلى ذروتها في المشروع الختامي الذي يتحقق فيه الإسلام بكل معانيه وأهدافه

فالإمامة ليست مجرد قيادة زمنية أو سياسية؛ بل هي ركن أساسي في البنية الكونية التي أراد الله بها تحقيق العدالة الإلهية الشاملة. فمن دون الإمامة، يبقى الإسلام عرضة للتحريف، وتظل غايات الرسالة الكبرى ناقصة أو مشوشة. ولذلك، فإن الإمامة لا يمكن أن تنتهي إلا بتحقق الهدف النهائي، وهو إقامة نظام عالمي يتجسد فيه الإسلام بكل ما يحمله من معاني التوحيد والعدالة والرحمة.

وما وقع في تاريخ الأمة من حروب بين الصحابة والتابعين أسهم في تفريغ التجربة من محتواها. فبدلاً من أن يكون فهمنا للإسلام عاملاً للوحدة والتكامل، أصبح هذا الفهم نفسه سبباً رئيسياً لتلك النزاعات. فبغياب المرجعية المعصومة أو تغيّبها، فقدت الأمة ما يضمن لها الفهم الصحيح لحقائق الإسلام. وهذا يضع الباحث أمام خيارين: إما إدانة تلك التجربة التي استبعدت الإمامة المعصومة، مما يعرض الصحابة للنقد، أو إدانة الإسلام كفكرة غير مكتملة طالما لم يضع الإمامة كشرط لاستمرارية الرسالة. فكل النزاعات التي حدثت، وكل الحروب التي دارت، كانت تدور حول الإمامة، أو كما قيل: "ما سل سيف في الإسلام كما سل في الإمامة.

وللتأكيد على أن الإمامة تمثل ضرورة إسلامية وحاجة إنسانية في كل زمان، قال رسول الله (ص): "من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية." وهذا يدل على أن لكل مسلم في كل زمان إماماً، مما يجعل الإمامة قضية مستمرة وحاضرة دائماً وليست مجرد تجربة تاريخية. فلا يكتمل معنى الإسلام، ولا يتحقق الإيمان، إلا بإمام يقود الأمة. ومن هنا كان حكم رسول الله (ص) بأن من مات دون إمام قد "مات ميتة جاهلية." هذا الحكم الصارم يكشف عن مكانة الإمامة في الإسلام وأهميتها في حياة المسلم، ويجعل من المستحيل فهم الحديث إلا من خلال الإقرار بأن الإمامة جزء لا يتجزأ من الإسلام.

وضمن هذا السياق، يمكننا فهم التأكيد الشيعي على المشروع المهدوي بوصفه التجسيد المستقبلي للمسيرة الإسلامية المتكاملة. فالإمام المهدي (عليه السلام) هو الضامن لتحقيق الوعد الإلهي بإقامة دولة العدل الإلهي التي تسود فيها القيم الإلهية وتختفي فيها مظاهر الظلم والشرك. وبذلك، تصبح الإمامة هي الحلقة التي تربط بين ختم النبوة وبين تحقيق غايات الرسالة كهدف مستقبلي يشمل البشرية جمعاء.

ولفهم أعمق لقضية الإمام المهدي (عج) في إطار الوعي الشيعي، يجب العودة إلى الحكمة الأساسية من خلق الإنسان وبعث الأنبياء والرسل، وهي تكامل الإنسان والارتقاء به روحياً ومادياً. وتُعدّ هذه الحكمة المعيار الذي يتم من خلاله تقييم أي فكرة يُراد إدخالها في الإسلام.

ولا يمكن حصر التكامل الذي يحققه الإسلام في رسالته على مستوى الفرد فقط، رغم أن هذا التكامل الشخصي ضروري ومحوري. إلا أن التكامل الأعمق والأهم الذي يحققه الإسلام يتمثل في النظام البشري ككل، وهذا هو الأساس. لذا، لا يمكن الحديث عن الإسلام إلا إذا ربطناه بالنظام العالمي الذي يسعى الإسلام لإقامته، باعتباره قمة التكامل الذي يسعى لتحقيقه.

إذا لم يكن الهدف الأساسي للإسلام هو إقامة هذا النظام العالمي الشامل، فإنه لا يمكن طرحه كرسالة فعّالة وقادرة على أن تكون السائدة في العالم. فكل الأفكار الإصلاحية، سواء كانت فلسفية أو دينية، تسعى في النهاية إلى تغيير وتطوير واقع الحياة البشرية على المستوى الكلي. مثلاً، الشيوعية كفكرة تستهدف الإصلاح السياسي والاجتماعي، نجدها تبشّر بيوم تسود فيه العدالة والمساواة، وهذه البشارة تمثل الهدف الأسمى الذي تشكلت من أجله فكرة الشيوعية من الأساس. في هذا السياق، إذا لم يهدف الإسلام إلى بناء هذا النظام العالمي الشامل الذي يحكمه العدل والتكامل، فإن طرحه كرسالة عالمية قد يفقد مصداقيته وصلاحيته كرسالة إصلاح عالمي.

إذن، الإسلام لا يمكن أن يُفهم أو يُعاش إلا إذا ربطنا ذلك بفهمه كرسالة تهدف إلى إقامة هذا النظام العادل الذي يشمل البشرية جمعاء، بحيث لا يقتصر تأثيره على الفرد فقط، بل يمتد ليشمل كل إنسان في كل مكان، مع ضمان العدالة الاجتماعية والتطور المتوازن في كافة جوانب الحياة.

الأمر إذن يتوقف على خيارين: إما أن يكون الإسلام رسالة جاءت لإقامة حكومة عالمية تحقق فيها جميع قيم السماء، أو أن تكون رسالة ذات أهداف محدودة وخاصة. إذا تم اعتماد الخيار الأول، فلا بد من فهم الإسلام على أنه دين كامل وشامل لجميع شؤون الحياة البشرية، وبالتالي يجب أن يُبشّر بالإقامة الحتمية لهذه الدولة الموعودة كجزء أساسي من مكونات الرسالة.

أما إذا تم اعتماد الخيار الثاني، فكيف نفهم أن الإسلام هو دين سماوي جاء من أجل الإنسان؟ إذا كانت الرسالة إلهية، فالمقصد منها هو الإنسان بلا شك، وبالتالي يجب أن تلبّي تلك الرسالة حاجات الإنسان وتطلعاته. وأكبر تطلع يسعى إليه الإنسان هو التطلع نحو الكمال، ولا يتحقق هذا الكمال للبشر ككل إلا من خلال نظام عالمي يجسد فيه جميع القيم. وإلا فإن خالق الإنسان يصبح غافلاً عن ما يسعى إليه الإنسان. وإذا كان بمقدور الإنسان الاستغناء عن الإسلام لبناء ما يشاء من حضارة، فما الداعي إلى التمسك به طالما لا يقدم أي حافز حضاري للإنسان على مستوى الدنيا؟

ومن هذه الزاوية، يحق لنا أن نقيّم كل المذاهب والمدارس التي لم تعر اهتماماً لذلك اليوم الذي تتحقق فيه رسالة الله، ليس على مستوى الإيمان فقط، بل على مستوى التفاعل الحقيقي مع هذه القضية. يجب أن تصبح هذه القضية شغلها الشاغل، لأنها الأمل الذي يراود كل مؤمن بتلك الرسالة. ولذلك، أكد أئمة أهل البيت (ع) أن: "أفضل العبادة انتظار الفرج". بل يمكننا الجزم بأن الإسلام، وكل الرسالات السماوية، لا يستقيم لها معنى إلا بهذا اليوم الموعود، فجميع الأنبياء عملوا على تهيئة البشرية للوصول إليه. فمنذ خلق الله آدم إلى يومنا هذا، لم تمر على البشرية فترة زمنية خالية من الظلم والجور وسفك الدماء، ولا بد أن يأتي يوم تتحقق فيه عدالة السماء وتتجلى فيه إرادة الله عز وجل.

عندما خلق الله تعالى آدم (ع) وجعله خليفة في الأرض وأمر الملائكة بالسجود له، كان بذلك قد رسم معالم الدولة التي تتحقق فيها عدالة الله.

فإذا رجعنا إلى تلك الآيات وتأملنا فيها، سنكتشف الأمر بوضوح. فقول الملائكة: ﴿أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ﴾ هو تساؤل لا يمكن تصنيفه إلا ضمن اعتراض على خلافة آدم في الأرض. كانوا يرون أن خلافة الإنسان ستؤدي إلى الفساد وسفك الدماء، وبالتالي اقترحوا أن تقوم الملائكة بدور هذه الخلافة، لأن الملائكة لا يصدر منها الفساد وسفك الدماء، بل التسبيح والتقديس، كما أشارت الآية التالية: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾. هذا الاعتراض نابع من أن طبيعة الإنسان مؤهلة لصدور المظالم والمفاسد منه، ولكن رد الله تعالى عليهم بقوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾.

لم يصف الله ملائكته بالجهل، ولم يقل لهم "أنتم تجهلون"، بل قال: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾، مما يعني أن الله يعلم ما تعلمه الملائكة ويعلم ما لا تعلمه. وبالتالي، فإن اعتراض الملائكة لم يكن ناتجاً عن جهل، بل كان عن علم بواقع الإنسان. إلا أن الله يعلم ما لا تعلمه الملائكة، أي أن الله يعلم أكثر من الملائكة، بما في ذلك ما يتعلق بالفساد وسفك الدماء الذي يصدر عن الإنسان.

إذا كانت الملائكة محقة في هذا الوصف، وكان اعتراضها قائماً على ملاحظتها للفساد وسفك الدماء، فلا بد أن يكون رد الله متناسباً مع هذا الاعتراض. فمن غير المنطقي أن تُبدي الملائكة تخوفها من شيء ثم يرد الله على هذا التخوف بشيء ليس له علاقة بموضوع الاعتراض. ولهذا، فإن قوله تعالى: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ يشير إلى علم الله الذي يتجاوز ما تعلمه الملائكة، وهذا العلم هو ما يبرر اعتراضها. فلو كانت الملائكة تعلم ما يعلمه الله، لما اعترضت. وبالتالي، لا بد أن هذا العلم يتضمن حكمة الله في جعل آدم خليفة في الأرض، رغم ما قد يصدر من بني آدم من ظلم وفساد وسفك دماء. ويجب أن يتضمن هذا العلم بشارة لدولة عادلة خالية من الفساد وسفك الدماء.

بمعنى أن الملائكة رأت جزءًا من الحقيقة، وهو الفساد وسفك الدماء، لكنها لم ترَ الجزء الآخر المتعلق بمليء الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملأت ظلماً وجوراً. لو كانت الملائكة قد أدركت هذه الحقيقة، لما اعترضت، لأن اعتراضها في هذه الحالة كان سيكون على دولة تقوم على قيم الله وأمره، وهو ما لا يجوز الاعتراض عليه. وقول الله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ يكشف عن حكمة في خلافة آدم على الأرض، ولا يمكن أن تكون هذه الحكمة هي استمرار الفساد والظلم وسفك الدماء. بل هي تمهيد لدولة العدل، التي لا مكان فيها للظلم أو الفساد. وإن كان تحقيق مثل هذا اليوم حلماً لكل إنسان، فهو أيضاً غاية لكل دين. قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، وقال: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾.

إذا تأملنا تاريخ البشرية منذ خلق الله آدم وحتى اليوم، نجد أنه مليء بالفساد وسفك الدماء، ولم تمر فترة على البشر خلت من الظلم والفساد. حتى الأنبياء أنفسهم لم يسلموا من المظالم والقتل والتشريد، وما تزال الدماء هي الحقيقة السائدة التي تظلل سماء البشرية. فإذا لم يكن هناك يوم موعود يمثل بداية مرحلة جديدة في تاريخ البشرية، مرحلة خالية من الظلم والدماء والفساد، أليس من العدل أن نقول إن اعتراض الملائكة كان محقًا؟! لكن الحقيقة هي أن خلافة آدم كانت بداية الطريق نحو تحقيق هذا اليوم الموعود. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾.

لقد ختم الله الأنبياء بنبيه محمد (ص)، ولم يعد هناك أمل في ظهور أنبياء ورسل. ولذا، لا يمكن أن  نفهم خاتمية هذه الرسالة إلا بوصفها الرسالة التي يتحقق من خلالها ذلك اليوم الموعود. كما لا يمكن أن نفهم الإسلام إلا في إطار البشارة بهذا اليوم. قال رسول الله (ص): "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً." وعن علي عليه السلام في قوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ قال: "هم آل محمد يبعث الله مهديهم بعد جهدهم فيعزهم ويذل عدوهم." عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من ولدي، يوافق اسمه اسمي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً."

والروايات في هذا الموضوع قد بلغت حد التواتر عند جميع المذاهب الإسلامية، وهي تؤكد على دور الإمام المهدي في الفكر الإسلامي، باعتباره المنقذ الذي يتحقق على يديه عدالة السماء. كما أكدت هذه الروايات على أن المهدي (عج) من نسل رسول الله (ص)، مما يوطد العلاقة الوثيقة بين دولة المهدي ورسالة النبي محمد (ص). وبذلك نفهم الرسالة الإسلامية كاملة، وكمالها يتحقق في تلك الدولة التي تملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن كانت قد امتلأت ظلماً وجوراً.

تبدأ مسيرة الإسلام بالإمامة، التي تمثل القيادة المعصومة التي تضمن سلامة المسيرة، وتختتم بدولة العدل التي يتحقق فيها الكمال على يد الإمام المهدي (عج). وبذلك، لا يبقى أدنى شك في أن الإسلام هو الرسالة الخاتمة، التي لابد أن تأخذ فرصتها لتكون هي الحاكمة.

فالإمامة والقيادة هي مشروع الإسلام الذي يبدأ مع الإنسان في الدنيا ويستمر معه إلى الآخرة. قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾، مما يدل على أن الإمام الذي يقودنا في الدنيا هو الذي يقودنا في الآخرة أيضاً، إن جنة فجنة وإن نار فنار.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م