

برتراند رَسل والإبريق الطائر: مغالطات في منهجية الإثبات العقلي
مقداد الربيعي
يشيع في أوساط الملاحدة المعاصرين اعتراضٌ يقوم على فكرةٍ مغلوطة، مفادها أن الإيمان بوجود الله ليس إلا افتراضًا عقليًا محضًا، لا يختلف عن القول بوجود إبريق شاي يدور في الفضاء!
ومحاولته إقناعنا بوجود الله ليس إلا وهمًا من نسج خياله، لا أساس له في الواقع. فالملحد يدعي أن لا دليل على وجود الله، كما لا دليل على عدم وجوده، وبالتالي فإن الإيمان به لا يختلف عن الاعتقاد بأي فرضية عقلية فارغة كالقول بأن هناك زرافة تطير في الفضاء تدور حول الكواكب وتنجب كل يوم طفلا!"
فكما أن العقل يمكن أن يتخيل زرافة تطير في الفضاء، مع أن هذا أمر غير موجود في الواقع، كذلك يمكنه أن يتخيل وجود الله، مع أن هذا الوجود غير مثبت.
وبهذا التشبيه يحاولون أن يُساووا بين الإيمان بالله، الذي هو أصل في فطرة الإنسان، وبين الفرضيات العقلية العابرة التي لا أساس لها من الصحة.
وكان الدافع لطرح هذه الشبهة هو رمي عبئ الإثبات على المؤمن ورفع كاهله عن الملحد، فيجب على المؤمن إقامة الحجة والدليل، فلا يكفي مجرد فرض وجود إله في ثبوته واقعاً، لذا أطلق ريتشارد دوكنز على هذه الشبهة اسم "عبئ البرهان". انظر: وهم الإله، ص53.
وبما ان أصحاب الإشكال يؤمنون بانحصار الدليل العلمي بالحس والتجربة القاصر عن إثبات إله غير مادي فيلزم تفريغ دعوة وجود الله عن جميع الأدلة، وتبقى مجرد فرض عقلي!
وقد صاغه الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل في تشبيهٍ غريبٍ حيث شبّه الإيمان بالله بافتراض وجود إبريق شاي يدور في الفضاء بين الأرض والمريخ، فقال: «ولنأخذ مثلا آخر لا يستطيع أحد إثبات أنه لا يوجد بين الأرض والمريخ إبريق شاي من الصيني يدور في مدار بيضاوي، ولكن لا أحد يعتقد أن ذلك مرجح بدرجة تكفي لأخذه في الاعتبار عملياً، أعتقد أن الإله المسيحي هو بالدرجة نفسها غير مرجح». مختارات من أفضل ما كتب برتراند رسل ص51.
ولا يحتاج نقض هذا الاعتراض إلى كبير عناء، والكشف عما فيه من خلل في الاستدلال ظاهر للعيان؛ فإن هذا الاعتراض قائم على مغالطة منطقية ظاهرة، وأخطاء استدلالية بينة وينجلي ذلك في الأمور التالية:
أولاً: يكمن الخلل الأساسي في هذا الاعتراض في محاولته تجريد دعوى وجود الله تعالى من الأدلة، وتسفيه قيمة الأدلة المؤيدة لها، بناء على أصل فاسد تمت مناقشته في عدة مقالات سابقة هو حصر المعرفة اليقينية بالعلم الحسي والتجربة ونفي باقي مصادر المعرفة. لذا لابد أولاً من حسم دعوى الملحدين هذه، ويقع عليهم مسؤولية إثباتها.
فالإيمان بوجود الله ليس مجرد فرضية عقلية خالية من الأدلة والبراهين، بل هو إدراك عميق متجذر في النفوس البشرية، مدعومٌ بأدلة فلسفية، لا يسع العقل معها إلا أن يُقِرَّ بوجود خالقٍ حكيمٍ قدير، لكن مشكلة الملحد رفضه للأدلة الفلسفية وحصره طرق المعرفة بالحس والتجربة، مع أن العلم الحسي نفسه يعتمد على مقدمات فلسفية وعقلية!
وهذا ما حدا بالفيلسوف أنطوني فلو لاعتناق الايمان بعمر الثمانين، بعد منافحة طويلة عن الإلحاد، حيث وجد أن الأدلة التي يسوقها الفلاسفة جديرة بإخراجه من دائرة "اللاأدرية" والموقف المحايد، وأعلن إيمانه بالله سنة: 2004، وبعدما طُلب من فلو أن يعرض تجربته مع الإلحاد أصدر كتابه الشهير "هناك إله "(There Is a God) سنة: 2007 م، سجل فيه العديد من الرؤى والمواقف التي زعزعت فرضيته "فرضية الإلحاد" السالفة نشير إلى ثلاثة منها:
أولاًـ يذهب الفيلسوف البريطاني المعاصر (أنثوني جون باتريك - كيني) إلى أنّ الموقف اللا أدري قد يكون مبرراً ولكن الإلحاد غير مبرر لإنّ إظهار أنك تعرف يتطلب جهداً أكبر من إظهار أنك لا تعرف، وهذا أيضاً لا يخلص اللا أدري من الورطة فالمتقدم للاختبار يمكنه تبرير عدم معرفته بإجابة أحد الأسئلة لكن هذا لا يمنحه القدرة على اجتياز الاختبار.
ثانياً ـ ويرى فلو أنّ أكبر تحدٍ لحجة فرضية الإلحاد جاءته من الفيلسوف الأمريكي المعاصر (ألفن كارل بلانتنجا) الذي أكد فطرية الإيمان وقارب مسألة الاعتقاد بوجود إله بقضايا جوهرية أساسية غير قابلة للإنكار، كالاعتقاد بأن للآخرين عقولاً كعقولنا والاعتقاد بصحة الحواس والذاكرة ووجود العالم وغيرها من قضايا نعتقد بها دون أن نرى أي حاجة لسوق الأدلة عليها.
ثالثاً ـ راف ماك أينرني: وجود إله خالق قضية بديهية نظراً للنظام والترتيب والقوانين التي تحكم الوجود والطبيعة، ويستنتج من ذلك أن الأصل للإيمان وعبئ الدليل يقع على الملحدين.
ثانياً: هذا الاعتراض الذي يُساوي بين الإيمان بالله وبين الفرض العقلي المجرد، يشبه سلاحًا ذا حدين، فكما يمكن أن يُستخدم للتشكيك في وجود الله، يمكن أيضًا أن ينقلب على أصحابه ويُبطل به كثيرٌ من أقاويلهم.
فعلى سبيل المثال، يمكن أن يُقال باستخدام منطق هذا الاعتراض: إن قضية التطور - التي يُؤمن بها الكثير من الملاحدة - مجرد فرض عقلي يُقابله فرض عقلي آخر ويناقضه، وهو أن الحياة نشأت في الكون عن طريق الخلق الخالص لكل نوع حيواني. فعندنا إذن فرضان متساويان عقليًا، فلا يمكن أن نُؤمن بفرضية التطور ولا أن نُرتب عليها أي نتيجة في الواقع، لأن نظرية التطور هي التفسير الأكثر إقناعاً لمجموعة كبيرة من الظواهر البيولوجية، من دون إثبات النظرية داخل المختبرات.
فإن لم يقبل الملاحدة بذلك، وادعوا أن قولهم بالتطور مبني على أدلة علمية ثابتة، فقد ناقضوا أنفسهم؛ لأن المؤمنين يدعون بأن إيمانهم بوجود الله مبني على أدلة عقلية وعلمية ثابتة وقطعية.
وبهذا ينقلب الاعتراض على أصحابه، ويُصبح سلاحًا ضدهم، فهو يُثبت أنه لا يمكن التسوية بين الإيمان بالله وبين الفرض العقلي المجرد، وأن هناك أدلةً وبراهينَ تدعم الإيمان بوجود الخالق.
فرجع الأمر إلى البحث في صحة الأدلة وعدم صحتها، وهذا الرجوع إبطالٌ لذلك الاعتراض من أساسه؛ لكونه قائمًا على أن وجود الله مجرد فرض لا دليل عليه.
ثالثاً: يكشف هذا الاعتراض عن انحرافٍ في منهجية إثبات الوجود للأشياء في الخارج، فهو يتجاهل الضوابط العلمية التي تُنظم عملية إثبات وجود الأشياء، والتي تقي العقل من الوقوع في شباك الخرافات والأساطير.
ويمكن تلخيص المنهج العلمي في إثبات الوجود في ثلاث طرق:
أ. الإحساس به مباشرةً: أي رؤية الشيء أو لمسه أو سماع صوته أو شم رائحته أو تذوق طعمه.
ب. الإحساس بآثاره في الواقع: أي ملاحظة الأثر الذي يُحدثه الشيء في البيئة المحيطة به.
ت. الخبر الصادق عنه: أي التواتر على نقله من قِبَل مجموعة كبيرة من الناس بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب.
فلا يصح أن نحكم على شيء بأنه موجود في الخارج إلا إذا توصلنا إليه عن واحد من تلك الطرق، وإن لم يُدركه أحد بحسه، ولم يُدرك أي أثر له في الواقع، ولم يأتنا الخبر الصادق عنه، فإن المنهج العلمي يوجب الامتناع عن الحكم بوجوده.
وبهذه الطريقة تنضبط الرؤية الواقعية للوجود، وتُغلق السبل أمام الخرافات والأساطير والخيالات.
ولكن بناءً على مقتضى ذلك الاعتراض الإلحادي، فإن الطرق تبقى مُعبَّدةً أمام الخرافات والخيالات؛ لأنهم يُساوون بين الفروض العقلية المحضَّة وبين الأشياء التي قامت الأدلة الواقعية الحسية على وجودها في الخارج.
فبناءً على طريقتهم ومنهجهم، لا يمكننا إثبات خطأ من ينشر الخرافات والأساطير التي تقول: إن الكون يحمله حوت كبير مدمن للخمر، ويحمل في ذيله جوهرة عظيمة، ويزعم أن له اتصالًا بذلك الحوت، وأنه يسهر معه في الليل!
والمؤمنون في إثباتهم لوجود الله لم يخرجوا عن المنهج العلمي في إثبات وجود الأشياء في الخارج؛ فإن أدلتهم على وجود الله ملتزمة بالمنهج العلمي المنضبط، فهم يُقرُّون بأن وجود الله لم يُثبت بالطريق الأول - أعني طريقة المشاهدة الحسية؛ ولكنهم أثبتوا وجود الله عن طريق الاستدلال بالآثار، وزادوا تصورهم عن وجوده بطريق الاستدلال بالخبر الصادق عن الأنبياء.