12 شعبان 1446 هـ   11 شباط 2025 مـ 6:35 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-01-28   121

سايكولوجية الجماهير بين الإسلام وغوستاف لوبون


الشيخ باسم الحلي

المعروف أنّ أفضل من درس استجابة الجماهير الواعية واللاواعيّة، للمؤثر الخارجي أو "المحرض" ودورها في قلب معادلات التاريخ في مجالات الدين والسياسة والاقتصاد والثورة والثقافة، هو غوستاف لوبون في كتابه "سايكولوجيّة الجماهير"..، ومع أنّ الواقع والمنطق لا يوافقانه على كلّ ما قال من أحكامه الشموليّة التشاؤميّة، لكنّهما أذعنا لكثيرٍ ممّا قاله، ممّا سنسرده في المقارنة أدناه، كونه حقٌّ لا يمكن تغاضيه ولا الإغماض عنه..

غوستاف لوبون طبيب وعالم اجتماع فرنسي (متوفى 1931م) له كتاب اسمه سايكولوجيّة الجماهير، ذكر فيه تأثير الجماهير اللاواعي بسبب الروح الجماعيّة، المدفوعة بمحرّض خارجي، في التغيير المادّي لمعادلات التاريخ والمجتمع، دينياً وسياسيّاً واقتصادياً وثوريّاً، سلباً كما هو الغالب، أو إيجاباً كما هو النادر..

قال لوبون -بتصرف يسير-: «صحيح أنّ الجماهير غالباً ما تكون مجرمة، لكنّها أيضاً قد تكون بطلة أحياناً؛ فمن السهل اقتيادهم إلى المذبحة باسم النضال والدفاع عن العقيدة والمجد والشرف، وبالإمكان تجييشهم بلا خبز وماء من أجل الدفاع عن قبر السيد المسيح، أو من أجل الدفاع عن تراب الوطن، كما حصل بعد أربع سنوات من الثورة الفرنسيّة (1793م)...، صحيح أنّها بطولات لا واعية، لكنّ التاريخ لا يُصنع إلّا بمثل هذه البطولات». (سايكولوجيّة الجماهير: 60. ترجمة هاشم صالح).



قال-بتصّرف-: «الجماهير لا تستطيع إنجاز الأعمال التي تتطلب ذكاءً عالياً؛ لأنّ الكفاءات العقليّة للبشر، تذوب في الروح الجماعيّة الخاضعة للتأثير اللاواعي».  (سايكولوجيّة الجماهير: 57).

يقصد لوبون بالتأثير اللاواعي أنّ عقولهم غالباً، منومة مغناطيسيّاً بعدوى الروح الجماهيريّة، وأسطورة القداسة والشرف؛ لذلك هم بُلهاء غير قادرين على الإبداع، متقلبون مع الريح؛ فأحدهم بهذه العدوى قد يضحي بدمه من أجل الدفاع عن خرافة صنم ظنّته الروح الجماهيريّة إلهاً، أو عبادة شخصيّة ظنّته بطلاً منقذاً، فيه سمات الآلهة؛ لماذا نذهب بعيداً؛ أليس الفرنسيون عبدوا نابليون، والشيوعيون ستالين، والإيطاليون موسوليني، و...، ثمّ سرعان ما كفروا بهم لاحقاً».. (أنظر كتابه: ص92 ).

الهمجيّة الآليّة للفرد الجماهيري 
قال لوبون -بتصرف يسير-: «إليكم مجموع الخصائص الأساسيّة للفرد المنخرط في الجماهير: أولاً: تلاشي الشخصيّة الواعية. ثانياً: هيمنة الشخصيّة اللاواعية. ثالثاً: سهولة توجيهه بالتحريض والعدوى. رابعاً: الميل الشديد إلى تحول الأفكار التحريضيّة إلى عمل مادي، وهكذا يكون إنسان آلي». (سايكولوجيّة الجماهير:60).

ما قاله لوبون صحيح غالباً، ولا استثناء إلّا للأنبياء وأهل الفطرة، وهم أعز من الكبريت الأحمر، كما في قوله: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ، وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ، أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا،  كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ...، وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ، إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ).

ومع كونهم كالكبريت الأحمر إلّا أنّ دوام التاريخ والإنسانيّة جوهراً ومضموناً بهم دون سواهم، ولا يضرّ دوام جوهر الدين، وجود الفتن مثل فتنة السامري وأتباعه، ولا فتنة قتال أتباع الأنبياء فيما بينهم ابتغاء الدنيا..

قال لوبون: «الفرد المنضوي في الجمهور، يكتسب بواسطة العدد المتجمع من الجماهير، شعوراً عارماً بالقوّة، وهذا ما يتيح له الانصياع لبعض الغرائز، ولولا ذلك لما انصاع، وهو ينصاع عن طوع واختيار؛ لأنّ الجمهور مغفّل بطبيعته». (سايكولوجيّة الجماهير:58).

وهذا الذي حصل في قتال الخوارج والنهروان وصفين؛ فلا ينقضه مثل قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

الآية تشير إجمالاً إلى أنّ ثمّة قوّة قادرة على الأخذ بالإسلام والمسلمين لأن ينتصرا دائماً، شرط اتفاق جماهير المسلمين واتحادهم وعدم تنازعهم بسبب غرائزهم وغفلتهم؛ إنّها قوّة قادرة على مقارعة العالم برمته..

فئة الواعين من الجماهير!!
لو افترضنا وجود نوادر مثقفة واعية، وهم قلّة على الدوام قياساً ببقيّة الجماهير؛ فإنّ تأثيرهم يكون قليلاً حيال الجو الجماهيري العام؛ لما يمتلكه هذا الجو العام من قدرة سحريّة على صهر فئة النوادر في بوتقة الهمجيّة الجماهيرية = الجاهليّة..    
قال لوبون: «بمجرد أن ينضوي الفرد داخل صفوف الجمهور؛ فإنه ينزل درجات عديدة في سلّم الحضارة، فعندما يكون فرداً معزولاً ربما يكون مثقفاً متعقّلاً، ولكنه ما إن ينضم إلى الجمهور، حتى يصبح مقوداً بغريزته، وبالتالي همجيّاً». (سايكولوجيّة الجماهير: 60. ترجمة هاشم صالح).

لذلك فإنّ أهمّ ما يريده طغاة السلطة والسطوة والمال، أو أهل الصراع من الأنبياء، هو إبقاء الناس في حفرة الجاهليّة والهمجيّة؛ إذ الوعي يزعزع عروش الطغاة بلا شك؛ لذلك كان أهم أسلحتهم في الصراع من الأنبياء، أن يأمروا أتباعهم عدم الاستماع للقرآن برويّة وعقلانيّة، وإنّما باستسخاف وجاهليّة كما قال القرآن: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) لجماهيرهم (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)..

القانون أعلاه لا يمكن نقضه في أغلب البشر، لكن العجيب أنّ الأنبياء كإبراهيم وموسى وعيسى، سيما النبي محمد صلّى الله عليه وآله، عرضت عليهم الدنيا برمتها، لكن رفضوها من أجل إنقاذ الإنسان، ولا غرو فإنّ ألد خصومهم عليهم السلام، ليس الطغاة وحسب، بل تلك الروح الجماهيريّة الجاهليّة الهمجيّة، المدعومة بالسلطة والمال؛ فإن كانت لهم معاجز، فهذه أعظم معاجزهم عليهم السلام.

جماهير المجتمع العربي الجاهلي
يصف القرآن الرموز الفاعلة للمجتمع العربي الذي بعث إليه نبيّ الإسلام محمد صلى الله عليه وآله، بالجلافة والقسوة والظلم في السياسة والتجارة والسلطة، وبالجهل المطبق على من دونهم من جماهير الرعيّة، وأغلبهم أعراب أجلاف لا يعلمون..؛ فمن أبرز خصالهم الواضحة، الطاغية على سمات أغلبهم، فيما جزم القرآن أنّ (فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) (الفتح: 26)..

القرآن يقول بعد مضي ما يقرب من عقد ونصف من البعثة (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ) فلنتخيل ما هو مقدار معاناة النبيّ مع جماهير الأعراب هؤلاء أوّل البعثة، مع أنّهم -إلّا ما ندر- جميعاً كانوا على الجاهليّة؛ موجزها في القرآن: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) وقال: و: (النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

دعاهم النبي إلى ترك الجاهليّة ونبذ جمود العقل، وإلى التزام العقل والعقلانية والتفكّر في رؤية الخير والصلاح، وأن يتعاطوا المعروف ويأمروا به ويحذرهم، وينهاهم عن الفساد والشرّ والمنكر؛ لبناء دينهم ودنياهم، حياتهم ومعادهم..

قال سبحانه: (الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ...، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ، فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)..

توهّم الكثير أنّ الدين وبعثات الأنبياء وكتب السماء، لا يعني المجموع عملياً إلّا العبادة الساذجة، والطقوس البسيطة؛ لغرض نيل الجنّة والخلاص من النار، وبتأمّل بسيط نجد أنّ الأمر ليس بالمقتصر على ذلك قطعاً؛ فلو كانت المسألة مجرد طقوس وعبادة، لماذا جاهرت الإمبراطوريّة الرومانيّة المسيح العداء، ولماذا صلبته بتواطؤ مع اليهود، مع أنه عليه السلام لم ينازعهم سلطة أو ملك أو مال، بل ولا أكرههم على ما جاء به من دين بالقوة الماديّة، وكذا الحال مع مجاهرة جاهليّة الجزيرة العربيّة العداء للنبي محمد صلى الله عليه وآله؟! 

السبب الوحيد هو قدرة الأنبياء العجيبة على تعقيل الجماهير بالعقل، بإخراجهم من حفرة الجاهليّة، وتجييشهم لنيل العدالة والصلاح، وتحريرهم من زنزانة الفساد والعبوديّة، إلى المساوات والعدالة وربما الحريّة، ولو في أقل درجات العدالة والمساواة، أو في أول خطوات بناء صرح الحريّة.

وهذا لا يتماشى من منهج الملك والسلطة والسيادة والمال بأيّ حال؛ فإنّ كروش الامبراطوريّات لا تملأ إلّا باستعباد البشر، بأن يكونوا سلعة تباع وتشترى، حتى أنّ التاريخ ينقل لنا عن قاطبة الامبراطوريات البشريّة، أنّ قيمة بعض البشر المستعبدين بالحروب والغزوات الوحشيّة، أرخص أحياناً من ثمن شاة، أو حمار أو بغل، بل في قوانين قاطبة الإمبراطوريات عدم مؤاخذة من يقتل عبده بأيّ قانون جنائي..

قال سبحانه: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) كما قد قال: (طَغَوْا فِي الْبِلَادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ) هذه هي سمات أي مجتمع قبيل بعثة أيّ نبي..

أخوف ما يخافه رؤساء العداء والطغيان مع أيّ نبي، هو الأخذ بيد الجماهير من حفرة الجهل والجاهليّة إلى صرح الوعي والعقل والعقلانيّة، إلى العدالة والحرية وكرامة الإنسان، وأنّ قيمتهم أعلى من أن تقارن بالحمار والبغل والشاة..

التاريخ خير شاهد، أنّ الأمر ليس بالمقتصر على مجرّد العبادة والحياة الآخرة قطعاً؛ (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) 

لم يبعث الله الأنبياء إلّا لإصلاح الدنيا قبل الآخرة..؛ لإصلاح الفساد الذي جاءت به جاهليّة الإنسان، أو لمنعهم من الإمعان فيها لا أقل، لكن لا يكون هذا إلّا بإنقاذ الجماهير، التي هي في الأغلب ساذجة مغفلة جاهلة لا تعي شيئاً من الدسائس وملابسات الصراع؛ إذ الجماهير تمتلك فطرة كامنة وعاطفة جبّارة للمساواة والعدالة والكرامة، لكن هذا أمرٌ متعذّر غالباً؛ لتعذّر تجييش الجماهير لذلك إلّا نادراً؛ لاحتياج ذلك إلى قوّة إعجازيّة، وهمّة سحريّة، ومنهاجاً شاملاً..

كيف استمال النبيّ -أيّ نبي- الجماهير؟!!
قال غوستاف لوبون: «لا يمكن للقواعد المشتقة من العدالة النظريّة الصرفة أن تقود الجماهير..؛ وحدها الانطباعات التي يمكن توليدها في الجماهير بإمكانها أن تجذبها...، المشرّعين الذين يجهلون روح الجماهير، لا يمكن أن يفهموها؛ لم تعلمهم التجربة حتى الآن أنّ البشر لا يتصرّفون، انطلاقاً من مبادئ العقل النظري المحض أبداً». (سايكولوجيّة الجماهير:48-49. ترجمة هاشم صالح).

من السمات الغالبة للجماهير في كلّ مراحل التاريخ، غياب العقل والعلم والثقافة ومبادئ التقدّم والصناعة، حتى مع كونها تتفيّأ ظلالها أحياناً، هذا الشعب الأوربي اليوم يتفيّأ ظلال كميّة ماكس بلانك في الجوالات الذكيّة، لكنّه منغمس بالمخدرات والسكر والزنا واللواط والمثليّة..

الأمر كذلك فيما يخص جماهير جاهليّة الجزيرة العربيّة؛ كلّ ما له علاقة بالعقل غائبٌ عنهم، باستثناء الشعر والأدب وما تبقى من رفات مكارم الأخلاق ورميم القيم، وهي التي ورثوها عن إبراهيم عليه السلام، بيد أنّها بلا شك، غير كافية لمقارعة ما هم فيه من جاهليّة وطغيان وشقاء وفسق وفساد، يكفي لنعي ذلك أنّ وحشيّة غزو قبيلة لقبيلة أخرى؛ لغرض النهب المادّي، يعد شرفاً وإقداماً وشجاعة، ناهيك عن وأد البنات، وتسويغ تجارة الدعارة، والربا، والفواحش ما ظهر منها وما بطن..

السمة الغالبة لثقافة جماهير الجزيرة العربيّة (جاهليتهم=همجيتهم)، ناهيك عن جماهير بقية دول العالم، هي هذه؛ فحتى لو كان الفرد منهم يريد التأمّل في وحشيّة هذه الأمور، إلّا أنّ روح اللاوعي الجماعيّة تسيغ له، ما يراه عقله الواعي وحشيّة ممنوعة وهمجيّة مرفوضة وانفلات خلقي..؛ الروح الجماعيّة عند كلّ البشر هي المنتصرة دائماً، إلّا أنّها من حيث الجوهر، خاسرةً دائماً مع الأنبياء، وإن كان العقل الساذج يراها منتصرة أحياناً من حيث الشكل والمظهر..

قال لوبون-بتصرف يسير-: «الفرد المنخرط في الجماهير، يقترب من الكائنات البدائيّة...، فالجماهير كالنساء، تذهب مباشرة نحو التطرف...، ففي الجمهور يتحرر الأبله والجاهل والحسود من الإحساس بالدونيّة وعدم الكفاءة والعجز، يصبحون مجيّشين بقوّة عابرة هائلة». (سايكولوجيّة الجماهير: 74).

  العجيب المذهل، كيف استطاع النبي محمد عليه السلام، أن يأخذ، وحده فقط، بأيدي هؤلاء مع جاهليتهم الجهلاء، إلى ما فيه خير الدنيا والآخرة..

أهمّ من ذلك، يبقى التساؤل الأهم هل أخذ بأيدهم فعلاً عن وعي منهم، أم أنّ النبي قد خلق فيهم وعياً آخراً، جالدوا به أعتى إمبراطوريات العالم، لتكون لهم حضارة تربعت على عرش الحضارات مئات السنين، بل هي في أصولها العامّة، سيما الأخلاقيّة، المثيرة لدفائن القيم الإنسانيّة والكرامة البشريّة، مستمرّة إلى اليوم ترعد منها حتى حضارة القنبلة الهايديروجينية؟!.

قال لوبون في كتابه حضارة العرب: «الحق أنّ الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا ديناً مثل دينهم». (حضارة العرب: 630. ترجمة عادل زعيتر).

لا شك ولا ريب أنّ النبي عليهم السلام، خلق فيها طبعاً جديداً، يدور على التسامح والأخلاق والكرامة واحترام الإنسان، وبعبارة أدق أثار فيهم إنسانيتهم التي يجب أن تصان ولا تهان، وعقولهم التي يجب أن تفكّر.

قال لوبون: «ليست الوقائع بحد ذاتها هي التي تؤثر على المخيلة الشعبيّة، وإنما الطريقة التي تعرض بها هذه الوقائع...، إنّ معرفة فن التأثير على مخيّلة الجماهير، تعني معرفة حكمها». (سايكولوجيّة الجماهير: 89).

تأثير النبي محمد وكذا موسى وعيسى و... عليهم السلام، تأثيرٌ دائم نام متصاعد حي مستمر، حتى بعد موت محمد صلى الله على محمد وآل محمد بمئات السنين، وهذا يتجاوز فن التأثير على المخيّلة بالعواطف كما يفترض لوبون بما لا يستوعبه منطق؛ لأنّ المخيّلة العاطفيّة متقلبّة الأهواء، عمرها محدود، إنّه إعجاز العقل، (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)..

عقد الأستاذ لوبون مبحثاً كاملاً في كتابه، موجزه أنّ تأثير العقل ومحاججاته على الجماهير معدوم أو كالمعدوم؛ لأنّ ما يسيرهم هو العاطفة، بيد أنّ بقاء جماهير النبي محمد إلى اليوم نابضة بأصول ما جاء به، حتى مع كثير من التشوهات الطارئة على بعض تفصيلاته لاحقاً، واقعٌ حيّ يعجز عن إدراكه لوبون. (أنظر كتابه: ص125).

وقال ايضاً: «الملاحظات الجماعيّة، هي الأكثر بعداً عن الصواب...، وهي في الأعم الأغلب، تمثّل توهم فرد واحد، انتقل بطريق العدوى إلى الجماعة...، هل نعرف كلمة واحدة صحيحة، عن حياة الرجال العظام الذين لعبوا دوراً كبيراً في تاريخ البشريّة، كهرقل وبوذا والمسيح ومحمد؟!! في الغالب الأعم: لا». (سايكولوجيّة الجماهير: 72).

بصراحة لوبون في قوله: (لعبوا دوراً كبيراً في تاريخ البشريّة) واقع حيّ مستمر وهو جواب سؤاله. 

 النفسيّة الجماهيريّة، بين النبي محمد ونابليون.
ذكر لوبون أنّ نابليون كان خبيراً نفسيّاً في قراءة خفايا روح الجماهير الفرنسيّة، لذلك أضواهم تحت لوائه وتأبط عليهم؛ ليؤسس بهم دولة (إمبراطوريّة) قويّة انتصرت في كلّ حروبها بسبب ذلك، لكنّه في المقابل خسر عامّة حروبه في إسبانيا وروسيا وغيرهما؛ لاغتراره بما حقّقه أولاً، ولتكاسله أو غفلته، عن قراءة خفايا الروح الجماهيريّة لهذه البلدان التي كبدته خسائر مخزية، أخذت به إلى حيث السقوط والمنفى..

أطلق عليها لوبون: القانون النفسي لوحدة الذهنيّة الجماهيريّة، أو: الوحدة العقليّة للجماهير، في موضع آخر من كتابه، وما ذكره حقيقة لا يمكن المزايدة عليها..

الملاحظ أنّ النبي محمد صلى الله عليه وآله، لم يبتدىء حرباً مع أحد، حتى مع المشركين الذين أرادوا قتله، لكنه اضطرّ مع ذلك أن يخوض ما يقرب من ثمانين حرباً دفاعيّة؛ لما عاناه وجود المسلمين من تهديد، دماءً وأعراضاً وأرضاً وعقيدة، لم يخسر واحدة منها، مع أنّه لم يمتلك عشر معشار ما كان يمتلكه نابليون من العدة والعتاد والقوّة الماديّة..

لم يخسر النبي حرباً، إلّا حينما عصاه أصحابه، بسبب الطمع بالغنائم في غزوة أحد، أو قل: بسبب عدم تنزههم عن بقايا روح الجاهليّة، وهو يكشف عن بعد غور النبي في قراءة ذهنيّة (نفسيّة) أعدائه قبل أصحابه، لماّ وضع خمسين رامياً على قمّة جبل أحد، ولماّ لم يخسر أيّ حرب دفاعيّة حتى توفاه الله تعالى..
قال لوبون: «لا شيء متعمد أو مدروس عند الجماهير؛ كونها تعيش كلّ العواطف، وتنتقل تحت تأثير المحرّض في تلك اللحظة، من النقيض إلى النقيض بسرعة البرق». (سايكولوجيّة الجماهير: 64).

لم يحسن لوبون في هذا؛ فنحن وإن كنّا نقر أنّ أغلب الجماهير على هذا المنوال، لكن ثمّة قلّة منهم أخذوا بدفّة التاريخ ليجري مع ماء الحضارة إلى اليوم، فالأصول العقليّة لتعاليم الإنسانيّة ما زالت مستمرة فيما جاء به محمد والقرآن إلى اليوم، بلا تحريف ولا تزييف، وإن كانت كثير من تفاصيلها مشوهة بسبب أولئك الذين طمعوا بالغنائم من أتباعه عليه السلام، الذين رجّحوا الغنائم على إعلاء كلمة الله تعالى، وهؤلاء مستمرون إلى اليوم..

عدوى اللاوعي الجماهيري بين القرآن ولوبون 
قال: «ملكة الملاحظة والروح النقديّة للعلماء المتميزين، تضمحل وتتبخّر، خارج اختصاصاتهم، بمجرّد الإصابة بداء الهلوسة الجماعيّة للجماهير». (سايكولوجيّة الجماهير:69).

قال سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) اللاوعي= الهلوسة الجماعيّة للجماهير.
وقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ).
وقال سبحانه: (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
و: (الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) هذه حقيقة الجماهير إذا لم يضبط غلوائها قانون العقل والعقلاء القاضيين بحفظ النظام الإنساني..
وقال: (كَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا) أي في نزق وطيش. 

قال لوبون: «الجماهير -كلّ الجماهير- تتسم بالنزق (=الطيش) والانفعاليّة، لكن بدرجات متفاوتة ومتغيّرة». (سايكولوجيّة الجماهير: 65. ترجمة هاشم صالح).

قال سبحانه: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) كما قد قال: و: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
كما قد قال: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا) أي: جاحداً للنعمة صعب الإرضاء للحق والانصياع للحقيقة: (أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)..  
 و: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) ثرثار يساجل بلا علم ولا هدى ولا ضابطة..
و: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) قليل الصبر، شديد الحرص.

قال لوبون -بتصرف يسير-: «العدوى العقليّة أو الذهنيّة للجماهير، يسهل ملاحظتها؛ لكنّها غير مفسّرة حتى الآن». (سايكولوجيّة الجماهير: 57)..
قال لوبون: «وراء الأسباب الظاهريّة لأعمالنا، تربض أسباب سريّة مجهولة من قبلنا، ومعظم أعمالنا اليوميّة ناتجة عن دوافع مخبوؤة تتجاوزنا». (سايكولوجيّة الجماهير: 57)..


نقد لوبون، الخلط بين الدوام والمرحليّة!!
قال القرآن الكريم: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ، وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ). 

بغض النظر عن كون لوبون ملحد، أو من اللاأدرية، أو من أيّ فئة كان، لكن الفئة القليلة، مضمون الآية أعلاه، نبطل شموليّة نظرة لوبون التشاؤوميّة للجماهير؛ إذ الانتصار الحقيقي للفئة القليلة، لا للأغلب..

نوافق لوبون أنّ أغلب الجماهير عبر التاريخ، مغفلة، لا واعية، جاهلة، سريعة الاستجابة لأي تحريض خبيث، لها أثر سلبي واضح في مسيرة التاريخ، لكن الذي لم ينتبه له لوبون أنّ هذا التأثير السلبي مرحلي مؤقت، لا دوام له في أهم مفاصل التاريخ والإنسانيّة، فلقد جاء نيرون والإسكندر ونابليون وهتلر وموسوليني، وتلاشوا مع جماهيرهم ليصبحوا ذكرى، ثمّ جاء آخرون غيرهم مع جماهيرهم وهلكوا..، ولدت الإمبراطوريّة الإغريقيّة والرمانية والفارسية ثم ماتت وجاء غيرها، وهكذا دواليك..

لكن مع كلّ هذا بقيت الروح الإنسانيّة مستمرة إلى اليوم، بقيت تلك الروح التي إذا رأت كلباً عطشاناً تسقيه، أو مسكيناً جائعاً تطعمه، أو طفل مريض تبكي عليه، مع أنّ كل حضاراتها وجماهيرها ماتوا إلى غير رجعة، هذه حقيقة جليّة..

الأجلى منها، بقاء فئة قلية نادرة من الجماهير نابضة مستمرّة حتى مع موت أجسادها، حملت -بكلّ شموخ- أعباء نقل العلم والفكر والثقافة والقيم والفن والجمال، وقاطبة عناصر الحضارة إلى الأجيال اللاحقة عبر آلاف السنين. 
هل مات جمهور أرسطو، وأفلاطون، وسقراط، وأرخميدس، ابن خلدون، ابن سينا، أينشتاين، تسلا، ماكس بلانك عبر التاريخ....

دوام التاريخ والإنسانيّة، ليس بالجماهير المغفّلة اللاواعية، حتى مع كونها هي الأغلب والأكثر دائماً، نحن وإنْ كنا نقر تماماً بقدرة هذا الأغلب على عرقلة مسيرة التاريخ وتبطئته بل تشويهه أحياناً، لكنّها قدرة مرحليّة مؤقتة، كالغمام سرعان ما يزول، لا يحجب ضوء الحقيقة إلّا ساعة من نهار..

هل استطاعت جماهير الرومان واليهود اللاواعية الوحشيّة المغفلة، وهي أغلب البشر آنذاك، إماتة ذكر أرسطو وسقراط ناهيك عن المسيح وحوارييه المخلصين وهم على عدد الأصابع، حتى مع ما نال المسيحيّة من تشويه كاثوليكي مقيت؟!.

هل استطاعت جماهير العالم كلّه، أنْ تميت ذكر محمد والقرآن، مع أنها تحت سطوة كل وسائل التحريض الاستكباري عبر أربعة عشر قرناً، إلى اليوم. 

لم تمت حتى هذه الساعة، حتى مع ما انتابها من أمراض التهويش، وعدوى التشويه، وفايروس التشويش، وسرطان الفهم المقلوب، فحتى لو هلك الكثير بتلك الأمراض، لكن ذلك لم يمنع من دوام حياة روح الإنسانيّة، ونزعتها العقليّة.

الذي فات الأستاذ لوبون واغترّ به، أنّ كل ما قاله في تأثير الجماهير اللاواعي صحيح، لكن من حيث كونه مؤقتاً، مضيّق بمرحلته لا يتجاوزها؛ بداهة أنّ دوام التاريخ الإنساني بما يحمل من القيم الأخلاقيّة، وإبداعاته العلميّة، وارتقائه الحضاري، ليس بسبب هذه الجماهير المغفلة، المعرقلة لمسيرته دائماً؛ لأنّها تلاشت ولم يتذكرها أحد، سحقتها عجلة التاريخ نهائياً كأنها لم تك شيئاً مذكوراً، أمّا القلّة الواعية فهي التي ركبت قطار الوجود والتاريخ، والمقابلة بينهما مقابلة الدائم بالمرحلي؛ إذ هل يقاس التأثير الدائم بالمرحلي..

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م