المغالطة القديمة المتجددة في خصوص نشأة الفلسفة والعلوم
لطالما كان مفهوم التاريخ متلازما
مع تلك الحركة الجماعية لِبَنِي الإنسان، بل ولا تكاد تنفصل عنها،
فنحن إذا ما أردنا أن نتَصَوّر مفردة التاريخ بما تحمله من معنى،
سنجد أن حركة الإنسان الجماعيّة تمثّل ذاك المرتكز لمعناها الذي
تتقوّم به، وكذلك لطالما شاهدنا تلك الانحرافات التي يقف خلفها
أفراد في أقل ما يمكن أن نصفهم به هو كونهم غير صالحين، نعم هم
كذلك، لأنّنا وعندما نتتبّع حالهم نجدهم أفرادًا نَهَشت روحهم
الأنانيّة، واستوثَقَ في هوى أنفسهم حبّ العظمة والعلو
الدنيوي.
فنحن لو عدنا إلى حركة الإنسان من
بداياتها، سنجد أن هذه الأنانيّة المقيتة: تارة تتلبس بالفرد؛ كما
هو حال الملوك والأباطرة الذين سُجِّلت قصصهم، ودوّنت سيرتهم
المحكومة بالعلو والاستكبار، وأخرى تتلبس بالجماعة؛ كما هو حال
كثير من الحضارات والأمم التي استطاعت أن تُشَيّد حضارة في ما مضى
من الأزمان، فطغت وتعالت واستضعفت غيرها من الأمم والشعوب
.
وبين الأنانيّة الفردية المقيتة،
والجماعية البغيضة، ترتسم لنا معالم ما يطلقون عليه اليوم
بالسياسة، سياسة الاستكبار والظلم، سياسة العلو والطُغيان، سياسة
الانحراف والتزوير، سياسة فرعون موسى (عليه السلام)، لا هي سياسة
فرعون يوسف (عليه السلام)، التي أقرّتها ورسمت حدودها، بل
وباركتها عدالة السماء، فسياسة فرعون موسى(عليه السلام ) هي تلك
السياسة التي إذا ما اَرْتَسمَت معالمها على أرض الواقع، واتخذها
النّاس طريقةً ومنهاجًا، لا فقط ستنشط حركة التزييف والتزوير في
كتابة التاريخ، بل وستقود الواقع البشري لمستنقع الرذيلة، التي
تتقوم هي الأخرى على مخالفة السنن التكوينية الإلهية
.
ولأجل كل تلك الملاحظات التي لا
تزيد حال المتأمّل إلاّ وجعا، وبعد أن تراكمت أمامنا جملة من
القرائن الواضحة، تشكلت لدينا قناعة موضوعية بأنّ تاريخ العلوم
والفلسفة لم يكن بمنأً عن لوثة الأنانيّة المستتبعة للتّزييف
والتزوير، فنهضنا رغم صعوبة واقعنا المحكوم هو الآخر بواقع حال
أمّتنا الذي هيمنت عليه التبعية، للكشف على واحدة من أهم
المغالطات التاريخية، التي يعود زمن صياغتها إلى ما قبل
الميلاد، على يد بعض الشخصيات اليونانية والرومانية ، وعمل على
تكريسها في عصرنا الحاضر بعض الشخصيات الغربية المحسوبة على حقول
المعرفة، بعدما جعلت من نفسها أدوات لمشروع استعماري، يقوم
بالأساس على استنزاف الشعوب المستضعفة.
وقبل الولوج في جمع القرائن
وتنظيمها للوصول لما نريد بيانه، ولأجل دفعِ التَوهم بأنّنا ننطلق
في بحثنا من تصورات مغلوطة ، نؤكد في هذا المقام على
مسألتين:
الأولى: أنّه ليس ما نرمي
لتِبْيَانِهِ في مقام بحثنا، هو عدم امتلاك الحضارة اليونانيّة(1)
المقوِّمات الأساسية لإنتاج معرفة، وكذلك ليس هدفنا من هذا إثبات
أن فلاسفة اليونان - كطاليس ، أو هيراقليطس، أو فيثاغورس،
أو سقراط، أو أفلاطون، أو أرسطو - ليس لهم الأهلية لتوليد معرفة
فلسفية، بل إننّا نُقِرُّ ونسلم بمجهوداتهم المعرفية، وخاصة في ما
له علاقة بالقضاء على حالة الإحتكار المعرفي الذي مارسه كهنة
المعابد الشرقية .
الثانية: أنّ الدافع الذي
حرّكنا، والهدف الذي شدّنا نحو الكتابة في خصوص نشأة العلم
وفلسفة، هو إظهار الواقع كما هو، لكون ذلك من المقتضيات الطبيعية
التي تدفع نحوه الفطرة البشرية السوية، وتؤيده ثمّ تُقِرّه العقول
الإنسانية السليمة، كما أنّ مسألة إرجاع الحقوق لأهلها بغض النظر
عن شخص صاحب الحق، تشكل في مقامنا الغاية والهدف من بحثنا هذا،
وذلك لسدّ الطريق على بعض الأقلام، التي نرها قد بلغت حدّ التورم
بسبب حجم ما ترسّب في داخلها من أنانيّة وغرور، فعاشوا الاستعلاء
على من هم مثلهم في الإنسانيّة بأبشع صوره، فاستنقصوهم ونعتوهم
بما لا يليق بالإنسانية .
وهم بعض الشخصيات التي تصدّت
لكتابة تاريخ الفلسفة والعلم، بل واُعْتُبِرَت مصنّفاتهم في
العديد من الأوساط العلمية مرجعا ومصدرا، وهم قد شحنوا كتبهم
بالعبارات المستنقصة للشعوب الشرقيّة أو ما يسمونهم في
عصرنا « بالعالم الثالث »(2) .
وعليه، فليس الغاية والهدف أن
نستنقص من حقوق الشعوب اليونانية القديمة، لكي نرفع من خلال ذلك
شأنية الشعوب الشرقية، وذلك لوضوح أنّ هذا الفعل لا يقبله الشرع
الذي نتعبد بأحكامه، ولا العقل الذي نتحرك من خلال تشخيصاته، بل
وتأباه كذلك الفطرة الإنسانية، وإنّما الغاية والهدف هو محاولة
إعادة قراءة تاريخ الفلسفة والعلوم بموضوعية، للوصول إلى أقرب
القراءات المطابقة لما عليه واقع الأمر.
الأقوال الثلاثة في نشأة الفلسفة
:
في محاولتنا لاستقراء الآراء
المختلفة التي فسّرت نشأة الفلسفة والمعارف البشرية، وتحدّثت عن
موطنها الجغرافي الذي بزغت شمسها منه، لم نظفر إلاّ برأيين
متباينين، يجمع بينهما قول ثالث، لا يرتقي بأن يكون علميًا، لوضوح
أن مبناه الذي يرتكز عليه لا يتناسب زمانيًا مع المرحلة الزمانية
المتّفق عليها بين الجميع في نشأة الفلسفة والعلوم
.
القول بنشوئها في بلاد
اليونان:
وأول من قال به أرسطو نفسه، وتبعه
تلامذته كـ « ثيوفراسطس »، وذلك عندما نسبوا نشأة مبحث الطبيعيات
إلى طاليس، ثمّ بقي هذا القول سائدًا لقرون حتى عند المسلمين(3)،
وفي القرن التاسع عشر جاء المؤرخ الفرنسي « إرنست رينان »
ليرسخ هذه المقولة حينما وصف الفلسفة بكونها «معجزة اليونان
»، ليدلّل من خلال ذلك بأنّ نشوءها قد وقع في اليونان،
وبالتالي فهي معجزة يونانية محضة، وبعد ذلك تبعه جملة كبيرة من
الكتّاب المتخمين بقيم العنصرية الإستعمارية(4)، وللأسف تبعهم بعض
الكتاب الشرقيين (5) الذين أفنوا حياتهم في ترجمة وشرح النتاجات
الغربية، فأضحت مع ذلك هي القراءة السائدة خلال العقود المتأخرة
من حركة الإنسان .
وأصحاب هذا القول يذهبون إلى ربط
نشوء الفلسفة بقيام وتطوّر الحضارة اليونانيّة، وبالتالي فهم
يرون أن الفلسفة نشأت وتطوّرت في بلاد اليونان، على يد
فلاسفة ورجالات الإغريق، وعليه فالفلسفة هي من النتاجات
الإغريقيّة الخالصة، التي لا يمكن لأيّ فرد أو أمّة أخرى أن
تنازعهم فيها، كما أنّ أصحاب هذا القول انقسموا إلى رأيين في
تحديد البداية الزّمنيّة لهذا النشوء .
منهم : من أرجع زمن نشوء
الفلسفة لبدايات القرن السادس قبل الميلاد على يد « طاليس »
في إقليم « أيونيا» الواقع في غرب تركيا، وهو القول المشهور الذي
اعتمده غالبيّة كتّاب تاريخ الفلسفة، تبعًا لما أشار له أرسطو في
خصوص مبحث الطبيعيات ونشأته .
ومنهم : من أرجعها من جهة النشوء،
إلى نهاية القرن الخامس قبل الميلاد على يد الفيلسوف اليوناني
«سقراط» وذلك في « أثينا » التي هي مركز بلاد الإغريق
.
القول بنشوئها في البلاد
الشرقية:
ورغم أنّ هناك جملة من الكتّاب
والمؤرّخين الغربيين(6) والشرقيين (7)، الذين تبنوا هذا القول
ونادوا به، و كذلك سخّفوا مقولة من قال بنشوء الفلسفة والعلوم قد
حصلت في اليونان، من خلال مناقشة مبانيهم التي لا تتسم بالعلمية،
إلاّ أنّ هذا القول ظلّ صوته خافتًا، وكذلك غائبًا عن الساحة
الفكرية المعاصرة، وخاصة في البلاد الشرقية .
وأصحاب هذا القول يرون: أنّ
الفلسفة نشأت وتطورت في بلاد الشرق وبالأخص في منطقة الشرق
الأوسط ، على يد فلاسفة ومفكري أهل الشرق، ثمّ وفي مرحلة من مراحل
تطورها، تلقفها فلاسفة وعلماء اليونان، وصاغوها ثم هذّبوها
ورتّبوا مسائلها بالشّكل الذي وصلتنا به منهم عبر الحضارة
الإسلامية، وعليه فالفلسفة عند أصحاب هذا الرأي هي شرقيّة المنشأ
والمولد، وكل ما فعله اليونانيون هو كونهم رتّبوا مطالبها ونظموا
مباحثها ثم دوّنوها لنا بلغتهم، كما أنّ أصحاب هذا الرأي اختلفوا
في تحديد الحضارة الشرقية التي فيها نشأت الفلسفة والمعارف
الإنسانية .
فمنهم : من ذهب للقول بأنّ بلاد
مصر، والحضارة الفرعونية هي الموطن الأوحد لنشأتها، وأنّ باقي
الحضارات التي عاصرت الحضارة الفرعونية، أخذت الفلسفة من كَهَنة
ومعلمي مصر .
ومنهم: من جعل الفلسفة نتاج
التلاقح المعرفي بين الحضارات الشرقية المختلفة، من قبيل الحضارة
الهندية، والفارسية، والسومارية، والبابلية، والآشورية، والحيثية،
والفينيقية، والمصرية، والقرطاجية ....
والحق في المقام، هو أنّ الرأي
الثاني هو الأقرب للواقع والحقيقة، وهو القول المرجَّح لدينا،
والذي نرى صوابيته .
القول بنشوئها في العالم
القديم:
رغم الضعف الواضح الذي يتسم
به هذا الرأي، وذلك لخلوه من الدّقة العلمية، إلاّ أنّنا سنذكره
كفرض واحتمال قد يرد للأذهان، فلو فرضنا وجود من يقول بهذا الرأي
حقيقة، فمضمونه يتلخص في أنّه ليس من الصحّة في شيء أن
نقول:
أنّ منشأ الفلسفة غربيٌّ أو
شرقيٌّ، وذلك لأنّ العالم القديم كان عبارة على عالَمٍ واحدٍ
تجتمع فيه القارّات الثلاثة: الأوربية، والإفريقيّة، والآسيويّة،
ضمن حيز جغرافي واحد يطلق عليه قارة « بانجيا »، وعليه فبناءا على
هذه النظرية المسمّات بــ « الانجراف القارّي »(8) التي ظهرت
بوادرها في القرن السادس عشر للميلاد، لا يمكننا إلاّ أن نقول أنّ
الفلسفة نشأت وتطوّرت في العالم القديم الذي يضم القارّات الثلاثة
معًا .
وبهذا القول تكتمل عدّة الآراء
الثلاثة التي حاوَلت تفسير نشوء الفلسفة والمعارف الإنسانية،
وتحديد المنطقة الجغرافية التي ولدت فيها أول مرّة، غير أنّه يبقى
الرأي المتداول والذي هو مرتكز في أذهان ووعي السواد الأعظم من
أبناء الإنسانية المعاصرة -ولعلّ ذلك تبعا لارتكازه في أذهان
أبناء القرون التي سبقتهم-، هو القول الأول الذي يرى أنّ نشأة
الفلسفة ومهدها حصل في بلاد الغرب وبالتحديد في بلاد الإغريق
(اليونان)، التي كانت تنقسم بين الساحل الشرقي للقارّة الأوربية
(اليونان) والساحل الغربي للقارّة الآسيوية (تركيا)، وهذا القول
هو ما ذهب إليه جملة كبير من كتاب ومؤرّخي المدرسة الغربية، وأيضا
تأثر به جملة من كتاب العالم الشرقي .
ونحن هنا، وبعد عرض هذه الأراء
الثلاثة، سوف نعمل على توضيح مانراه أقرب للحقيقة والواقع، بعيدًا
عن التعصب القومي، والخلفيات السياسية البغيضة، كما نراه حاصل عند
بعض الشخصيات الغربية التي تشبعت بالقيم الإستعمارية، وكذلك تغذّت
نفوسهم على العنصرية العرقية، حتى استوثق فيهم التحيّز العنصري
للعرق الغربي.
مناقشة الأراء والأقوال
:
باختصار وقبل الدخول في مناقشة
الآراء السابقة، لابد لنا من تحديد مفهوم النشأة الذي نقصده في
عرض كلامنا، وكذلك تحديد العلاقة بين الفلسفة والعلم في العصور
القديمة، وذلك لما لهما من دخالة في توضيح ما نسعى إلى كشفه في
هذه السطور .
تحديد مفهوم
النشأة:
عندما نتأمل ونحاول أن نتصور
مفهوم « النشأة » بغض النظر عما يقارنه من مفهوم آخر، وذلك
من خلال الموارد التي يَتَنَزَّل ويُستعمل فيها هذا المفهوم، نجد
أن هذا المفهوم يرتكز في انتزاعه على عدّة مفاهيم مختلفة من جهة
المعنى، وبمعنى آخر يمكننا القول أنّ مفهوم « النشأة » فی حقیقته
مفهوم قد انتزعه العقل من اجتماع جملة من المفاهيم المختلفة في
معانيها فضلا عن ألفاضها .
فالعقل وبعد أن تجتمع لديه جملة
من المفردات من قبيل؛ الزمان، والإيجاد، والإكتمال، مع مفردة
الشيء الذي يراد الحديث عن مرحلة نشأته، عند ذلك ينتزع من
اجتماع هذه المفردات مفهوم يسميه النشأة، وعليه فمفهوم النشأة
يرجع إلى منشأ انتزاع الذي تشكَّل في الأساس من
المفردات المذكورة، ولذلك يمكننا القول أن نشأة الشيء تساوق معنى
المرحلة الزمانية الأولى التي بها يتحقق اكتمال أهم العناصر
المشكلة أو المقومة لهذا الشيء .
ومثال ذلك: أنّنا إذا أردنا
الحديث عن نشأة الفلسفة والعلوم، فنقصد بذلك البحث عن الفلسفة
والعلوم من مرحلة انبثاقها حتى اكتمال أسسها الأولى التي تبنى
عليها مطالبها المتفرعة عنها، بحيث يصحّ معها أن نصفها وهي
في تلك المرحلة بالفلسفة أو العلوم، ولا نقصد من مفهوم
النشأة في هذا المقام، مرحلة الإنبثاق لأوّل مسألة فلسفية
أوعلمية، وكذلك لا نقصد المرحلة الممتدّة من لحظة انبثاقها إلى
مرحلة نضجها ، لأنّ هذه المرحلة تشمل مرحلة النشوء
والتطور.
وعليه، فمرحلة النشوء تسبق مرحلة
التطور والنضج بمرتبة، وتحديد نهايتها يكون من خلال بلوغها إلى
المرحلة التي يصح معها وصفها بكونها فلسفة أو علم، وهذا يتحقق من
انبثاقها إلى أن تتشكل الأسس والمبادئ الأولى للفلسفة أو العلم،
والتي عليها تبنى المطالب التي تحصل في مرحلة النضوج والتطور،
والتي قد تستغرق قرون طويلة .
وخلاصة كل ذلك هو أنّنا نقصد في
مقام بحثنا في نشأة الفلسفة والعلوم، تلك المرحلة التي تشكلّت
فيها مايصح أن نصفهة بالمبادئ والأسس الأولى للفلسفة
والعلم، لا مرحلة انبثاق أول مسألة لهما .
علاقة العلم بالفلسفة
:
نشير في المقام، إلى أنّ
الفلسفة والعلم، لم يكونا في العصور القديمة منفصلين عن
بعضهما، وخاصة لدى الشعوب التي عاشت قبل الميلاد، وذلك لأنّ
الباحث فيهما كان واحدا.
فالفيلسوف أو الحكيم في تلك
العصور، كان الشخصية التي بحثت في كل الجوانب التي تخدم حاجة
إنسان تلك المرحلة، فكما أنّه بحث في المسائل الرياضية والعلوم
الطبيعية الكمياء، والفيزياء، والأحياء......، فقد بحث أيضا حول
الوجود ومراتبه، ومعرفة الإنسان ومنشأها وقيمتها، وبحث كذلك في
النظم السياسية والأخلاقية والاجتماعية التي تحكم وتنظم حركة
الإنسان، بل إنّه وكما تكشفه جملة من المصنّفات القديمة كان يبحث
أيضا حول الظواهر الغريبة من قبيل التنجيم والسحر والزيرجة وغيرها
من العلوم الغريبة التي يجمعها البعض في عبارة « كُلُّه سِرّ » (
كيمياء، ليمياء، هيمياء، سيمياء، ريمياء ) .
ولذلك نجد أنّ المعنى المتعلّق
بمفهوم العلم في عصرنا الحاضر، هو في الحقيقة جزء يندرج تحت
المعنى العام للفلسفة في العصور القديمة، فمفهوم الفلسفة بمعناه
القديم يشمل البحوث النظرية المتعلّقة بالمعرفة والوجود وكل
المسائل العلمية النظرية، وأيضا يشمل البحوث التجريبية التي قد
تصنف اليوم بكونها بحوث علمية تجريبية، كالكمياء أو الفيزياء أو
الأحياء ........ .
وبمعنى آخر، فالفلسفة حسب
الاصطلاح القديم كان العنوان الذي يحتوي جميع العلوم والمعارف
الإنسانية، حتى الدينية منها بلحاظ كونها في حاجة إلى جانب نظري
يُقوِّم وينظم مسائله، وبلحاظ كونه لا ينفصل عن الوجود حين ترتيب
مراتبه، وعليه ، فبحثنا حول نشأة الفلسفة، يشمل ويستبطن أيضًا
البحث عن نشأة العلوم، فنحن عندما نتحدّث عن نشأة الفلسفة، فإنّنا
نتحدث بالتبع لذلك على نشأة العلوم التي هي مندرجة في تلك العصور
تحت عنوان الفلسفة .
مناقشة القول بنشوء الفلسفة في العالم
القديم
بالرغم من أنّ هذا الرأي لا يمكن
إخراجه عن واقع الفرض والاحتمال، إلاّ أنّنا سوف نحاول بيان مبناه
بشكل عام، ثمّ نختصر الردّ عليه، لكي ننتقل بسرعة للرأي الذي يطرح
بلاد اليونان كحيّز جغرافي نشأة فيه الفلسفة والعلوم
.
مباني هذا القول
بُني هذا القول على النظرية
الجيولوجية المسمات بـــ « الإنجراف القاري »، والتي أول من قال
بها الجغرافي «أبراهام أورتيليوس » في القرن السادس عشر ميلادي،
وقد كانت حينها مجرد فرضية مفتقرة للمباني والمرتكزات العلمية،
ثمّ وفي مطلع القرن العشرين تطورت هذه المقولة واكتملت معالمها
على يد الفلكي «ألفريد فيغنر »، وبقيت هذه النظرية التي طرحها «
فيغنر » مفتقرة لبعض التفسيرات العلمية المهمة، وذلك دفع بالكثير
لعدم التسليم بهذه النظرية، حتى تمّ ظهور نظرية « الصفائح
التكتونية » التي أكملت التفسير الذي عجز « فيغنر » على تقديمه
.
ومفاد نظرية الإنجراف القاري هو:
أنّ قارات العالم الستة أو السبعة، قد كانت مجتمعة في حيّز جغرافي
واحد متصل بعضه ببعض، بحيث تَشكّلت منه قارة واحدة، أطلق عليها
المصطلح اليوناني « بانجیا »، ثم ومن خلال جملة من العوامل
الجيولوجية من أبرزها حركة الصفائح الأرضية، بدأت هذه القارات في
حركة دائرية تباعدية من جهة وتقاربية من جهة أخرى، عبر مراحل
عديدة، حتى أدت هذه الحركة بالقارات إلى ما هي عليه اليوم
.
وعليه، فأصحاب هذا الرأي على فرض
وجودهم، يرون أنّه وبلحاظ تجمّع قارات العالم في الزمن القديم،
فلابدّ وأن تكون الفلسفة والمعرفة البشرية نتاج تلك الشعوب
التي كانت تجمعها قارة بانجيا القديمة، وبعبارة أخرى أنّه لا يمكن
القول أنّ الفلسفة نشأت في الشرق أو الغرب، لوضوح أنّ القارّات
الثلاثة الأوربيّة، والإفريقيّة، والآسيويّة كانت متّصلة ببعضها،
ولم يكن هناك لا شرق ولا غرب ، بل كان العالم واحدًا، هو العالم
القديم، وعليه فلابد من القول أنّ الفلسفة هي نتاج شعوب العالم
القديم، لا هي نتاج شعب أو عِرق أو حضارة بعينها، ولعلّنا لو
أردنا البحث عن الأسباب الكامنة وراء النزوع نحو مثل هذا الرأي ،
سنجد سببين أساسيين:
الأول : هو رفضهم لمقولة أنّ
الفلسفة نشأت في بلاد الإغريق (اليونان)، تبعًا لعدم قبولهم بأنّ
الفلسفة يمكن أن تنشأ وتتطور في مرحلة زمنية قصيرة نسبيًّا، وعلى
يد أفراد محدودين كما هو قول أصحاب وأنصار نشأة الفلسفة والعلوم
في بلاد اليونان .
الثاني: هو عدم توفر المعطيات
العملية الكافية لدى أصحاب القول بنشوء الفلسفة في بلاد الشرق،
وذلك لأسباب كثيرة كما سنبينه في موضعه.
الرد على هذا
الرأي
فنحن وبعد التسليم ، بأنّ القارات
كانت متّصلة ببعضها البعض كما تفترضه نظريّة « الانجراف القارّي
»، فالاتصال الذي تتحدّث عنه هذه النظرية وحركة تباعد القارات عن
بعضها، يفرض أنّ ذلك حصل قبل ملايين السنين، وكلامنا نحن المتعلق
بنشوء الفلسفة لم يتجاوز الثلاثة ألاف سنة، فكيف يستقيم بعد هذا
قول أنّ الفلسفة نشأة في العالم القديم الذي كانت فيها القارات
مجتمعة معًا ؟ .
وبمعنى آخر أنّ حركة
القارات التي تفرضها نظرية « الإنجراف القاري » حتى بلغت اليابسة
على ما هي عليه الیوم من تقسيمات، حصلت قبل ملايين السنين،
لا بضع آلاف من السنين، وهذا لا ينسجم بالمرة مع كلامنا في خصوص
نشأة الفلسفة والمعارف البشرية، الذي لا يتجاوز فرضه بضعة ألاف من
السنين، وفي أقصى فرض يمكن أن نفرضه، هو عشرة ألاف سنة
.
وعليه فضعف هذا القول لا يحتاج
لأكثر ممّا ذكرناه .
مناقشة القول بنشوء الفلسفة في بلاد
اليونان:
قبل أن نصل لمناقشة هذا الرأي،
ينبغي أن نتكلم عن الأسباب الرئيسية التي ساعدة على ترسخ هذا
القول في وعي أبناء الأمّة الإسلامية خاصة، وأبناء الشعوب الشرقية
عامّة، لنتمكن بعد ذلك من فهم حقيقة أنّ هذا الرأي وفي حاكميته
على وعي شعوب العالم، لم يكن بسبب مبتنياته العلمية، وإنما هو
بسبب شبهات ومغالطات تاريخية قديمة، نتجت بالأساس من تلك النزعة
العنصرية التي اتسم بها أصحابها، وعملت بعض الشخصيات والاتجاهات
الاستعمارية في عصرنا الحاضر، على تكريسها وترسيخها في عموم شعوب
العالم .
وكذلك لابد من الحديث ولو بشكل
مقتضب، حول السمات العامة للحضارات الشرقية التي سبقت وعاصرت
الحضارة اليونانية، وذلك لأنّ تشكيل هذا التصور العام حول العالم
القديم، سيساعد على فهم جملة من محاور نقاشنا لهذا الرأي والقول،
وبالتالي فنحن بحاجة لمقدّمتين قبل أن ندخل في محاور
النقاش.
المقدمة
الأولى:
أسباب ترسخ هذا الرأي لدى
الفلاسفة المسلمين:
ذكرنا سابقًا أنّ هناك جملة من
الشخصيات العلمية الشرقيّة المعاصرة، قد انساقت خلف هذا
الرأي، وتبنوه تبعا لما هو سائد في الواقع، فنحن اليوم لو حاولنا
طرح تساؤل حول زمن ومكان نشوء الفلسفة، على المهتمّين بالفلسفة
خصوصًا والمعرفة عمومًا، في العالم الشرقي وبالتحديد الإسلامي
منه، سيكون الجواب هو كونها نشأت في البلاد اليونانيّة على يد
فلاسفة الإغريق .
والحقيقة هي أنّ هناك سببين
رئيسيين يقفان خلف انتشار وترسّخ هذا التصور في أذهان أبناء الشرق
عموما، و أبناء الأمّة الإسلاميّة خصوصا، الأول منهما قديم،
والثاني حديث .
السبب القديم
:
وهو يتمثّل في تَرَسُّخ هذا
التصور عند القدماء من علماء وفلاسفة الشرق، الذين نقلوا لنا
الفلسفة من اليونانيين، وعنهم ورث المتأخرون هذا التصور
الخاطئ، فالفلاسفة من المسلمين -الذين هم حلقة الوصل في نقل علوم
الشعوب القديمة- كانوا يعتقدون أنّ مهد ومنشأ الفلسفة هي بلاد
اليونان، وهذا الاعتقاد الذي نجده عندهم راجع لأمرين
:
الأول : أنّهم لم يقوموا بالبحث
والتحقيق في نشوء وتطوّر الفلسفة كما تتطلبه الضوابط المنهجية،
ولعلّ ذلك يعود لاعتبارهم كون البحث في نشوء الفلسفة هو بحث
ثانوي، و كذلك لأنّ جهدهم - وخاصة في القرون الأولى - كان منصبا
على ترجمة المطالب الفلسفيّة من اليونانيّة أو السريانيّة، ومنصبا
أيضًا على الترتيب والتهذيب ثمّ الشرح والتفريع لهذه المطالب
المترجمة.
وما يكشف لنا عن هذه الحقيقة هو
عدم وصول مصنّفات تبحث وتحلّل هذا الموضوع بالشكل الذي يتناسب مع
التحليل المنهجي العلمي، بل كل ما وصلنا منهم من المصنّفات
والأقوال هي التي كانت ناقلة لما نُقل لهم ممّن سبقهم، كما هو حال
سليمان بن حسّان الأندلسي، الذي ألّف كتابه « طبقات الأطباء
والحكماء » في القرن العاشر الميلادي ( القرن الرابع هجري )
.
والحقّ أنّه لاَ لَوْمَ على
المتقدمين من المؤرخين والفلاسفة المسلمين، وذلك لضعف أدوات
التحليل عندهم، وانحصار المصادر التاريخية بين السَمَاع، وبين ما
وصلتهم من المصنّفات التي هي عزيزة وقليلة .
الثاني: أنّهم اكتفوا وسلّموا بما
قاله مدوّنوا العلوم القديمة وتاريخها من اليونانيين والرومانيين،
حينما نسبوا الفلسفة والعلوم لبلاد الإغريق، والعنصر الذي ساعد
على ترسيخ هذه المقولة في وعي المتقدمين أكثر، هو أنّ جُلْ هذه
العلوم وصلت إليهم إمّا باللغة اليونانية، أو السريانية التي هي
الأخرى مترجمة عن اليونانية أو الرومانية، ممّا دفع بهم إلى
التسليم بهذا الرأي دون التحقيق أو التمحيص في مصداقيته
.
السبب
الحديث:
هو نجاح هيمنة قراءة واحدة
للتاريخ، وهي القراءة السائدة اليوم، والتي نراها محكومة في أغلب
جوانبها بخلفيّة ودوافع سياسيّة استعمارية، لأنّه بعد التقدّم
التكنولوجي والعلمي الذي حقّقته شعوب المنطقة الغربيّة في عصرنا
الحاضر، وبعد الضّعف والإرتهال السّياسي والثّقافي والمعرفي الذي
عاشته الشعوب الشرقيّة، -والذي مكّن بعض الفئات الغربيّة من
السيطرة النسبيّة على هذه الشعوب والتحكّم في مفاصل حياتها
وحركتها الثقافية والعلميّة- تمكّنت هذه السّياسة الاستعمارية،
ومن خلال بعض الأفراد المحسوبين على الحركة العلميّة، أن تصيغ ثمّ
تُثبّت قراءة واحدة للتاريخ، وحرصت بعناية أن تكون القراءة منسجمة
ومتناسبة مع أهدافها السياسيّة الضّيقة، وللأسف الشديد اقتضى هذا
الضعف والهوان الذي مرّت وتمر به الشعوب الشرقيّة، أن يتواجد
أفراد في داخلها تتلقّف بلهفةٍ وتسليم كل ما تفرزه الحركة الفكرية
الغربيّة كيفما اتفق، وبدون أي فرز بين ما هو معرفي واقعيّ وما هو
إسقاط نفسي ذاتي، والحقيقة أنّ العنصر الاساسي الذي ساعد على
تنزيل قراءتهم التاريخية وتثبيتها في وعي الشعوب الشرقية، هو تلك
الطبقة من الكتاب المنتمين للشعوب الشرقية، الذين يُحسَبون على
الحقول المعرفة(9) .
المقدمة
الثانية:
إطلالة عامة على الحضارات
القديمة:
وفي مقام تصوير – ولو بشكل
مختصر - الواقع الذي كان عليه العالم القديم، وخاصة تلك
الحضارات التي عاصرت قيام الحضارة اليونانيّة أو سبقتها، نبدأ
أولا بالحضارة اليونانية .
الحضارة الإغريقية اليونانيّة:
وهي من ناحية نهوضها كحضارة مماليك متفرقة متناحرة ومتقاتلة، لم
تنهض إلاّ قبل حوالي عشرة قرون قبل الميلاد (1000 ق-م)، هذا
في أقصى تقدير محتمل لنهوضها، وانتهت بسيطرت الرومان عليها في
منتصف القرن الثاني قبل الميلاد (146 ق.م) ولم تزدهر وتكتسب القوة
الحضارية اللازمة، بحيث تشكل حضارة متجانسة يجتمع فيها كل أبنائها
إلاّ في النصف الأخير من عمرها عندما وحَّدَهُم الإسكندر
المقدوني، ومن الناحية الجغرافيّة ،فقد تمركزت في سواحل شرق أروبا
أي في سواحل ما تسمى اليوم باليونان، وفي فترات متقطعة وبسبب
الحروب الداخليّة الكثيرة وصلت إلى الشواطئ الغربيّة لتركيا
.
أما نفوذ سلطتها فقد اختلف من
حقبة زمنيّة لأخرى، ولم تتوسع خارج حدود بحر ايجة إلاّ في زمن
«الإسكندر المقدوني » والتي انتهت أيضا بوفاته في المنتصف الأول
للقرن الرابع قبل الميلاد (323 ق.م) ، فالإسكندر المقدوني
-الذي هو من مقدونيا - سيطر على أثينا التي تعدّ الأرض الأم
لليونان، و على بلاد مصر وفارس وما بين النهرين حتى بلغ من
الشرق إلى بلاد الهند والصين(10)، وفي هذه المرحلة بلغت اليونان
من الناحيّة السياسيّة والعسكريّة إلى أوج قوتها، وأوج عطائها
العلمي والفلسفي، فجل ما وصلنا من الفلسفة والمعارف القديمة هو ما
خُطّ ودُوِّن في هذه المرحلة القصيرة، وهي مرحلة ظهور «أرسطو
طاليس» وتلاميذته المخلصين له، فهم المدوّنون الكبار للفلسفة
والعلوم القديمة .
ولكن خلال فترات قيام الحضارة
الإغريقية، شهدت أرض اليونان حروبا وصراعات داخليّة على السلطة لم
تشهد مثلها أيّ أرض أو حضارة أخرى عبر التاريخ، بحيث يجعلها أبرز
مصداق لحضارة المماليك والطوائف المتناحرة، كما أنّها شهدت
غزوات خارجية من قبل إمبراطوريات أخرى، كالفارسيّة التي سيطرت على
أجزاء كبيرة من بلاد اليونان وخاصة المناطق الواقعة في الجزء
الآسيوي ولمرّتين، وكذلك حكمتها لعقود طويلة .
وبالعودة للمناطق الشرقيّة نجد أن
هناك حضارات كثيرة عاصرت قيام الحضارة اليونانيّة، بل وسبقتها من
جهة النشوء والتطور العلمي بقرون وعقود طويلة، ومن هذه الحضارات
:
الحضارة المصريّة الفرعونيّة:ا
لتي قامت على شواطئ نهر النيل في الجزء الشمالي لشرق القارة
الإفريقية، والتي يعود زمن بزوغ شمس حضارتها حسب ماهو مقرّر عند
من دوَّن تاريخ الحضارات القديمة، حوالي سنة 4000 ق - م
، وبدأت حركة ازدهارها كحضارة قوية ومتماسكة من حوالي سنة
3000 ق - م ، وهذا يعني أنّها سبقت ظهور الحضارة اليونانية
بأكثر من 3000 سنة، وعاصرتها إلى أن أسقط حكم فراعنتها الفرس، ثمّ
استولى عليها بعد ذلك الإسكندر المقدوني، في القرن الرابع قبل
الميلاد (11)، وهناك من يرى أنّ الحضارة المصرية ازدهرت
كحضارة متماسكة وقوية ومقتدرة في 3500 ق-م
(12).
وقد توسعت في مراحل تاريخية
مختلفة، إلى جنوب مصر على امتداد نهر النيل، وكذلك وصلت إلى
الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، لتعم فلسطين ولبنان والساحل
السوري ، لتصل إلى بعض المناطق التابعة إلى وسط تركيا حيث كانت
لهم مواجهات مع الحثيين، وكذلك قد حكمت بعض الجزر الكبيرة الواقعة
في البحر الأبيض المتوسط جنوب أرض اليونان، كجزيرة « كريت»
اليونانية .
وهي الحضارة التي لها امتداد
تاريخي طويل، وكذلك حضور فاعل وقوي في مجريات العالم القديم، كما
أنّها أكثر الحضارات القديمة التي تركت لنا كم هائل من الآثار
الكاشفة عن حجم التقدم المعرفي الذي كان يعيشه أهلها، وهي أكثر
الحضارات الشرقية المؤثرة في بلاد الإغريق ثقافيًا وعلميًا
ودينيًّا .
الحضارة الكنعانيّة (الفينيقيّة
)(13): والتي قامت في الشريط الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ( سواحل
سورية لبنان فلسطين وغرب الأردن )، والتي نشأت حوالي 2200 ق - م ،
والشعوب الفينيقيّة كما يذكر لنا المؤرخ الأَثِنِي اليوناني
«هيرودوت» على لسان علماء الفينيق أنفسهم، أنّهم جاؤوا من جنوب
الجزيرة العربية أي من أرض اليمن، ومن أشهر مدنهم صيدا، وبيروت،
وطرابلس، وطرطوس، وأغاريت ......الخ . وقد سبقت اليونان بأكثر من
1000 سنة، وكذلك عاصرتها(14) .
الحضارة القرطاجية
(الفينيقيّة ): القرطاجيون هم أنفسهم الفينيقيون وهم الكنعانيون،
وقد نشأت حضارتهم بعد أن امتدوا إلى السواحل الجنوبية للبحر
الأبيض المتوسط، وأسسوا ما تعرف بمدينة قرطاج في تونس، وذلك تمّ
عندما هاجرت الملكة الفينيقية « عليسة »، وقد كانت لهم سيطرة قوية
على المِلاحة البحرية في تلك العصور، وقد نشأت حضارتهم حوالي سنة
814 ق-م، وكان مركز سلطتها في شمال إفريقيا ( تونس)، وقد امتدّت
حضارتهم في بعض مراحل وجودها لتشمل أغلب الشريط الساحلي للبحر
الأبيض المتوسط، فقد سيطروا من الجنوب على الساحل الليبي والتونسي
والجزائري والمغربي، ومن الشمال على الساحل الإسباني والبرتغالي
والجزر الواقعة جنوب إيطاليا وفرنسا، ومن الشرق كل الساحل الشرقي
للبحر الأبيض المتوسط بداية من فلسطين إلى لبنان ثمّ سوريا
والساحل الجنوبي لتركيا وقبرص، وهي من الحضارات المعاصرة
للحضارة اليونانيّة (15) .
الحضارة الآرمية: ومن أبرز مدنها
مدينة « تدمر » الواقعة في سورية، وهي التي تأسست حوالي الألفية
الثالثة ق- م ، وتوزّعت الحضارة الآرمية على المنطقة
الداخليّة لسوريا وجنوب تركيا وكذلك في الأردن، وغرب العراق،
وكانت تتكون من مجموعة مماليك أشهرها، مملكة تدمر في سوريا،
ومملكة الأنباط (عاصمتها البتراء ) في الأردن، والتي تميّزت
بقصورها الرهيبة التي حُفرت في الجبال، وهي سابقة للحضارة
اليونانيّة بأكثر 1200 سنة (16) .
وفي مرحلة من مراحل قوتها، وصل
الآراميون إلى بلاد ما بين النهرين العراق، وسيطروا على مدينة
بابل، وكانت لهم هجرة قوية اتجاه أرض العراق حتَّى تمازجوا
واختلطوا مع البابليين ثقافيًّا ودينيًّا فأضحت لغتهم هي
اللّغة الرسمية في بلاد بابل، فلم يعد يمكن بعد ذلك التفرقة بينهم
في بلاد العراق، إلى أن أسقط الفرس حضارة بابل .
الحضارة الحِثِّيَّة: والتي ظهرت
حوالي سنة 3000 ق-م ، وازدهرت في الألفيّة الثانية قبل الميلاد،
وكانت عاصمتهم تقع في وسط تركيا في ما تسمى اليوم «بوغاز كي»، وقد
امتدّ نفوذ سلطتها لتشمل تركيا من شرقها إلى غربها، بحيث أسقطوا
المناطق الشرقية التی تعتبر الجزء الشرقی للحضارة اليونانية،
وكذلك شمال سوريا، وهي قد سبقت الحضارة اليونانيّة بحوالي 1900
سنة (17) .
وقد عُرفت لهم قوة وسطوة في بعض
مراحل وجودهم، بحيث وقعت بينهم وبين مصر الفرعونية صراعات وحروب
كثيرة، وكذلك الحال مع حضارات بلاد ما بين النهرين، حيث امتدت
سيطرتهم كما أسلفنا إلى بلاد بابل في مرحلة من المراحل، وقد
توسعوا في بعض الأزمان في الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط
(سوريا، لبنان ...) .
الحضارة اللِيدِيَّة: وبعد أن
تضعضعت الحضارة الحيثية خَلَفتها الحضارة اللّيدية، وهي التي
عاصرت الحضارة اليونانية، وذلك كلّه كان في آخر الألفية الثانية
قبل الميلاد أي حوالي ( 1200ق-م ) ، وفي أواخر مراحلها وقبل أن
يسيطر عليها الفرس، بلغ الليديون من التوسع حتى سيطروا على الساحل
الشرقي لتركيا، الذي يمثل نصف الحضارة الإغريقية، وأخضعوا
مدنها لسلطتهم وحكمهم .
وهي تقريبًا من أكثر الحضارات
الشرقية التي كان لها تأثير سياسي واقتصادي واجتماعي على بلاد
الإغريق، بل كان اليونانيون في تلك المراحل عبارة عن مرتزقة
متذلّلين لهم، وذلك بسبب ما كانت تتسم به حضارتهم من غنى وترف
مادي (18) .
الحضارة السبئية ( اليمنيّة ):
وهي حضارة قامت في أرض اليمن جنوب الجزيرة العربيّة، التي عرفت
أرضها بأنّها الأصل الأول لجملة كبيرة من شعوب الشرق الأوسط
كالعرب، وهي حضارة تعود للألفية الثانية قبل الميلاد، وقد ازدهرت
في 1200 ق- م ، وامتدادها شمل حتى المنطقة الشرقية من القارّة
الإفريقيّة، السودان، جيبوتي، إريتريا، إثيوبيا، ويرجّح أنّها
وصلت شمالا إلى فلسطين، ومن المؤكد أنها سبقت الحضارة اليونانيّة
ولكن لا يعرف بالتحديد بكم سبقتها، وكذلك عاصرتها، ومن المفارقات
العجيبة، أنّ أبناء أرض هذه الحضارة بقوا محافظين على تطورهم
المعماري إلى يومنا الحاضر، غير أنّنا مازلنا نجهل المعالم العامة
لهذه الحضارة، وذلك يعود للهيمنة السياسية المفروضة عليهم، بحيث
لا نجد لديهم حركة معتبرة في مجال التنقيب الأثري، حول هذه
الحضارة .
الحضارة الفارسية: تأسست أول
حضارة فيها حوالي 4500 ق- م ، وهي الحضارة العِيلاميّة، ومن بعدها
جاءت الحضارة الفارسيّة التي امتدّ نفوذها في أواسط الألفية
الأولى قبل الميلاد ( 546 ق-م )من الغرب ليشمل بلاد ما بين
النهرين (العراق)، وبلاد الليديين (تركيا)، وبلاد الفينيق (ساحل
سوريا ولبنان وفلسطين)،وشيء من بلاد الآراميين (شمال سوريا)،
وبلاد مصر، وبلاد اليونان ( القسم الشرقي كلّه، والمنطقة الشمالية
للقسم الغربي لبلاد اليونان)، وبعض سواحل ليبيا.
والحضارة الفارسيّة هي التي حكمت
ولمرتين جزء كبير من بلاد اليونان ولأكثر من 150 سنة، وهي قد سبقت
الحضارة اليونانيّة بأكثر من 3000 سنة ، وأيضا عاصرتها (19)
.
بلاد ما بين النهرين
(العراق):فبلاد العراق شملت ثلاث حضارات ضخمة، منها أقدم حضارة
عرفتها البشرية، وهي التي قامت في جنوب العراق، فالحضارات
التي شملتها بلاد ما بين النهرين هي، الحضارة «السوماريّة» في
الجنوب، ثمّ في الوسط «البابليّة»، وفي الشمال «الآشوريّة»،
فالحضارة السومريّة تأسست حوالي سنة 4500 ق- م ، (20) والحضارة
البابليّة ازدهرت حوالي سنة 2123 ق- م (21)، أمّا الحضارة
الآشوريّة فالمرجّح أنّها نشأت قرابة سنة 2000 ق- م (22)،
وكل منهم ورثت الأخرى، فالحضارة السومارية هي أولهم، ثمّ بعد ذلك
جاءت البابليّة لترث السوماريّة، وفي الأخير جاءت الآشوريّة
لترثهما معا .
أمّا من جهة الامتداد الجغرافي
لنفوذ هذه الحضارات الثلاثة، فالحضارة السوماريّة لم يلحظ لها
توسع كبير، فهي لم تتجاوز الجنوب العراقي والمناطق القريبة منه،
عكس الحضارة البابليّة التي امتدّ نفوذها ليشمل كل العراق، والنصف
الشمالي لبلاد الحجاز (الجزيرة العربية)، وسيناء، وفلسطين،
والأردن، وسوريا، ولبنان، والجنوب الأوسط من تركيا، أمّا الحضارة
الآشوريّة فقد استولت على بلاد بابل وأضافت من الشرق جزءًا من
إيران، و ومن الغرب شمال مصر، ومن الشمال توسعت أكثر في تركيا
فحكمت أغلب القسم الشرقي لتركيا، وكل هذه الحضارات سبقت الحضارة
اليونانيّة بقرون كثيرة .
وهناك حضارات شرقية غير التي
ذكرناها، لم نتكلم عنها مخافة الإطالة والخروج عن سياق الموضوع،
من قبيل الحضارات التي قامت جنوب ووسط آسيا وشرقها، في بلاد الهند
والصين وما جوارهما، والتي سبقت الحضارة اليونانيّة بقرون
عديدة .
وكما يخبرنا التاريخ فإن الحضارات
الشرقيّة كانت متقدمة من حيث الزمن والتطور المدني والعمراني
وكذلك العلمي والثقافي على الحضارات الغربيّة المتمثّلة في
الحضارة اليونانية والرومانية، وهذا ما أقرَّ وصرّح به « وِيل
ديورانت » الأمريكي صاحب موسوعة « قصة الحضارة »، حيث قال
في كلام طويل نلخّص منه ما نصّه :
« لقد انقضى منذ بداية التاريخ
المكتوب حتى الآن، ما لا يقل عن ستّة آلاف عام، وفي خلال نصف هذا
العهد كان الشرق الأدنى مركز الشؤون البشريّة التي وصل إلينا
علمها.....، نشأت الزراعة والتجارة، والخيل المستأنسة ( الهجينة)
والمركبات، وسُكّت النقود، وكتبت خطابات الإعتماد، ونشأت الحرف
والصناعات، والشرائع والحكومات، وعلوم الرياضيات والطب، والحقن
الشرجية، وطرق صرف المياه، والهندسة والفلك، والتقويم والساعات،
وصوّرت دائرة البروج، وعرفت الحروف الهجائية والكتابة، واخترع
الورق والحبر، وأُلِّفت الكتب وشيُّدَت المكتبات والمدارس، ونشأت
الآداب والموسيقى، والنحت وهندسة البناء....، ونشأت عقيدة التوحيد
ووحدة الزوجة، واستخدمت أدهان التجميل والحليّ، وعُرف النرد
والداما.....، عرفت هذه الأشياء كلّها واستمدّت منها أروبا
وأمريكا ثقافتها على مدى قرون، عن طريق كريت واليونان والرومان،
وقصارى القول أنّ الآريين لم يشيّدوا صرح الحضارة ، بل أخذوها عن
بابل ومصر، وأنّ اليونان لم ينشؤوا الحضارة إنشاء، لأنّ ما ورثوه
منها أكثر ممّا ابتدعوه.....، فإذا درسنا الشرق الأدنى وعظّمنا
شأنه، فإنّا بذلك نعترف بما علينا من دَيْن لمن شادوا بحق صرح
الحضارة الأروبية والأمريكية، وهو دَين كان يجب أن يؤدي من زمَنٍ
بعيد » (23) .
بل مايذكره لنا المؤرخ
الأثِنِي اليوناني « هيرودوت » الذي عاش قبل الميلاد بــ 500 سنة،
هو أن الإغريق اليونانيّين قد أخذوا علومهم و جزء كبير من ثقافتهم
من الحضارات الشرقيّة (24)، حتى الديانة ومراسيمها التي تقام من
خلالها قد أخذوها من الحضارات الشرقية، وبالخصوص من مصر
الفرعونيّة (25)، وكذلك حروف لغتهم فكما هو معلوم اليوم، فقد
أخذوها من الفينيقيين( الكنعانيين ) .
ولعلّنا لو عدنا لقراءة تاريخ
الشعوب الغربيّة عموما والشعوب الإغريقيّة اليونانيّة خصوصا، سنجد
أنّ هناك سمة تغلب على حياتهم الإجتماعيّة والفرديّة، وهي
الصراعات والحروب الداخليّة الكثيرة على السلطة، بين المدن
والمماليك التابعة لهم(26)، و قد وصلت بعض هذه الصراعات إلى
إبادة مُدن بأكملها، وهذا الأمر وقع في الشرق ولكن لم يبلغ حجم ما
وصلت إليه بلاد اليونان .
وبالعودة إلى ما يتعلّق بموضوع
كلامنا بعد أن عرفنا وبشكل مختصر أبرز الحضارات التي قامت في بلاد
الشرق، سواء التي سبقت زمانيًا الحضارة اليونانية أو عاصرتها،
نعود لنستعرض أهم المباني التي شيّدوا عليها أصاحب هذا
الرأي ، قولهم بأنّ الفلسفة نشأت في بلاد اليونان
.
المناقشة :
بعد أن عرفنا أهم الأسباب التي
ساعدت على ترسخ هذا القول في أذهان عموم بني الإنسان قديمًا
وحديثًا، وبعد أن تشكلت لدينا رؤية عامة حول ما كانت عليه حضارات
ما قبل الميلاد، وقبل أن نشرع في مناقشة القول الذي يرى أنّ
الفلسفة والعلوم نشأت في بلاد الإغريق، سنذكر بعض المباني لبعض
أصحاب هذا القول، بدون التطرق للردّ عليهم، وذلك لأنّنا لا نرى
لها قيمة موضوعية حتّى تستحقّ منّا الرّد.
وإنّما سوف نعول على فطنة القارئ
ونباهته، خصوصا بعد أن يطّلع على ما سنذكره من معطيات، وكذلك على
ما سنطرحه من تساؤلات، كما أنّنا سنعتمد في مناقشتنا، على ذكر بعض
-لا كلّ- المعطيات والتساؤلات التاريخية، تاركين بذلك المجال
للقارئ ليحلّل ثمّ يحكم بنفسه على هذا الرأي، ثم نُلخِّص في آخر
الأمر رأينا الذي نقول به ونتبناه ونرى صوابيته.
مباني القائلين بنشوء الفلسفة في
اليونان
أ) أن
حضارة بحر إيجه ( الإغريقية اليونانية)، شهدت ازدهارًا وتطورًا
قبل الحضارات الشرق عموما، ومصر خصوصًا، بل هي أقدم من باقي
الحضارات التي عاصرتها، وهي أقدم من مصر والفينيق ، والفرس وغيرهم
من حضارات الشرق (27) .
ب) القول بأنّ النورمان أو النورمانديين (
الفايكنغ ): هم أول الشعوب التي بنت وشيّدت حضارة بشرية، بل إنّ
النورمانديين هم الذين جاؤوا إلى مصر في العصور الغابرة، وأسسوا
الحضارة المصرية، و أصحاب هذا القول هم الذين لهم ميول للنازية
الألمانية (28) .
ت) أن
ما يميّز الفكر اليوناني عن غيره من الفكر الشرقي، هو أنّ الفكر
اليوناني يتميز بكونه فكر تأملي عقلي، بينما الفكر الشرقي
هو عملي ذا صبغة دينية، وبسبب ذلك كانت اليونان لها المقومات التي
تساعد على تأسيس معرفة فلسفية دون غيرها من الحضارات (29)
.
المعطيات والقرائن
التاريخية:
وكما أسلفنا بالكلام، فنحن سوف
نكتفي بذكر بعض القرائن، معتمدين في الوصول إلى النتيجة على نباهة
وفطنة القارئ، وهي كالتالي:
المُعطى الأول : أنّ الشّرق هو
مهبط الرّسالات السّماوية والبعثات النبويّة منذ وجود الإنسان
الأول، وعليه فالشرق هو من شهد حضور المعلّمين الأوائل للبشريّة،
الذين قدّموا الأجوبة الوجوديّة الأولى عن حياة الإنسان ومراتبها،
وأمدّوا الإنسان بالتصوّرات العامة عن الكون وجزئياته، وكذلك
علّموا أهل الشرق المنظومات العمليّة المنظّمة لحركة الفرد
والمجتمع الإنساني، وبالتالي فالمواضيع العامة للفلسفة قد تمّ
التطرّق إليها وكذلك الإجابة عنها في الشرق قبل الغرب من قِبَل
هؤلاء المعلّمين السّماويين (30) .
المعطى الثاني: أنّ بناء الحضارة
الشرقيّة يسبق الحضارة اليونانيّة زمانيّا، وبالتالي فشعوب الشرق
أسبق من الإغريق اليونانيين بكثير في بناء حضاراتهم، التي
بالضرورة تقتضي تطوّر علمي ومعرفي (31) .
منها: التطوّر العمراني، فما
شهدته بلاد ما بين النهرين ومصر وبلاد فارس وغيرها من الحضارات
التي ذكرناها، من تطوّر عمراني يكشف لنا بوضوح عن تطوّرهم
في علم الرياضيات والهندسة والتقنيّة، التي شيّدوا من خلالها
بنيانهم الضخمة، ومكّنتهم من تشييد صروح عمرانيّة مدهشة، يفوق ما
بنته اليونان(32) .
ومنها: التطوّر الكيميائي(33)،
الذي مكّن الحضارات الشرقيّة وبالخصوص المصريّة، من امتلاك القدرة
على التحنيط الذي لم تعرفه البشرية عبر العصور المتعاقبة، وكذلك
إنتاج مواد ساعدتهم في صناعاتهم التي كانوا يحتاجون إليها، وأيضا
ساعدتهم في تزيين صروحهم العمرانيّة الضخمة، فالرسوم والنقوش
الأثريّة المصريّة كما غيرها تتميّز عن رسوم بعض الحضارات الأخرى
بالألوان المتنوعة والجميلة والتي استطاعت أن تقاوم لعشرات القرون
.
ومنها: التطوّر التشريعي
والقانوني(34)، والسِّبق هنا لبابل التي عُرفت بأنها أوّل حضارة
وضعت لنفسها تشريعات وقوانين تنظم حركة شعوبها على المستوى الفردي
والاجتماعي وكذلك مصر التي عُرفت بامتلاكها لقوانين صارمة نظمت
مستويات كثيرة من علاقات مجتمعها وغيرها من الحضارات
(35).
المعطى الثالث: رجوع جملة كبيرة
من التقاليد الدينيّة اليونانيّة (36)، وكذلك التصوّرات العلميّة
حول الكون والإنسان، وعلاقة الإنسان بالإنسان، والإنسان
بالكون، إلى ما عند الشرق من تقاليد دينيّة وآراء مفسِّرَة
لأصل الكون والإنسان، والعلاقة بينهما، فما كشفته بعض الحفريات
الحديثة هو أنّ أهل بابل كانوا يرون بأنّ أصل الموجودات في الكون
هو الماء، وبنوا تصورهم في تفسير أصل الموجودات على هذا الأساس،
وهذا الرأي نجده عند « طاليس » صاحب مذهب الطبيعة، حيث نجده يُرجع
أصل الموجودات إلى عنصر الماء، وبنى تصوراته الفلسفية على ذلك
.
وأيضا ما نجده عند « هيراقليطس »
من إرجاع أصل الكون إلى عنصر النار(37)، وما نجده عند «أنكسيمانس»
من إرجاع أصل الكون لعنصر الهواء(38)، وغيرهم ممن ذهب إلى أنّ أصل
الأشياء راجع لإحدى العناصر الأربعة أو بعضها « الماء
والهواء والنار والتراب »، فهذا كلّه نجده عند الحضارات الشرقيّة
التي أوجدت مفهوم العناصر الأربعة وأولتها أهميّة بالغة، كما نجده
مثلا عند الحضارة الفارسية في ديانتهم «الزرادشتيّة»، التي ذهبت
إلى تقديس النار والماء باعتبارهما أصل الحياة
.
وكذلك الحال عند «فيثاغورس» صاحب
المذهب الفيثاغوري الذي يغلب عليه الطابع الديني الأخلاقي، وحيث
أسس فلسفته على أنّ العالم يعود إلى بنية عدديّة منظّمة، وهذا
الأمر نجده متأصلا في الشرق عبر العصور وخاصة في الهند، عند من
يسمّونهم أهل الشرق بالروحانيين، وهم الذين أعطوا للأعداد بعدا
روحيّا، وأيضا يولون أهمية بالغة بعلم الحروف وأبعادها العدديّة،
ويرون أنّ الكون في أصله راجع إلى بنيّة لفظيّة وكلّ لفظ له بُعد
عددي، ومع إرجاع الأشياء للألفاظ والألفاظ للأعداد، ثمّ نحسب
الأعداد نصل إلى البنيّة العدديّة الأوّليّة للكون .
المعطى الرابع: أنّ ما تذكره لنا
بعض المصنّفات التاريخيّة التي صُنّفت في العهود الأخيرة من
الحضارة اليونانيّة أو بعدها، هو أنّ جُلّ فلاسفة اليونان
القُدَامى وعلمائهم، قد رحلوا إلى بلاد الشرق وأخذوا ما عندهم من
آراء وأفكار وتصورات، وهذا تكشفه لنا تراجم فلاسفة اليونان مثل «
أفلاطون» الذي سافر مرّتين إلى بلاد مصر ومكث فيها فترة زمنيّة مع
علماء وكهنة مصر، وقبله « طاليس » الذي أيضا سافر للشرق
ويقال أنّه كان يعمل مهندسا حربيا عند قارون، وأيضا تلميذه «
أنكسيمندريس»« وتلميذ الأخير « أنكسيمانس » الذين ولدوا وتربوا في
تركيا التابعة جغرافيا إلى بلاد الشرق، والتي حكمتها
الإمبراطوريّة الفارسيّة مرّتين ولفترات طويلة، وكذلك تأسست فيها
الحضارة الحثيّة، ممّا يُرجِّح وبقوة اتصالهم ببلاد الشرق
وتعلمهم منهم.
بل إنّ فيهم من يذكر أنّه
تعلّم ودرس في الشرق على يد معلّمين شرقيين، مثل« فيثاغورس» الذي
سافر في شبابه لبابل ومصر ودرس الرياضيات والفلك وغيرها من
العلوم فيهما (49) .
التساؤلات
المطروحة:
وفي هذا المستوى سنكتفي بطرح بعض
- وليس كل - الأسئلة الاستفهاميّة التي لطالما عاثت في خاطرنا ولم
نجد لها جوابًا مقنعًا عند الرواية الرسميّة الغربيّة(40)
.
التساؤل الأول :إن كانت الفلسفة
هي نتاج للحضارة الإغريقيّة التي امتدّت لأكثر من عشرة قرون، فلما
لم تدوّن وتحفظ قبل عصر « أرسطو» الذي عايش سقوط مصر وباقي حضارات
الشرق على يد تلميذه «الإسكندر المقدوني »، أليس هذا يُرجّح أنّ
أهم ما تميّز به أرسطو عمن سبقه من الفلاسفة اليونانيين، هو من
نتاجات الشرق .
التساؤل الثاني :كيف يتم تفسير
الظهور والموت المفاجئ للفلسفة في بلاد الإغريق في مرحلة زمنيّة
صغيرة نسبيا، وبمعنى آخر، لماذا فجأة ومن الفراغ انعقدت نطفة
الفلسفة بحوارات « سقراط » التي تتمحور حول موضوع الأخلاق
والسياسة، ثم نمت على يد « أفلاطون » - الذي زار مصر مرتين ومكث
فترة طويلة مع أساتذة مصر وكهنتهم- إلى مثاليّة هي أقرب للديّانة
منها للفلسفة، ثمّ بعد ذلك ولدت على يد « أرسطو » في الفترة التي
تلت سيطرة تلميذه « الإسكندر المقدوني » على مصر وحضارات الشرق،
ثمّ ماتت الفلسفة بموت «أرسطو »، لتَلِدَ مرّة أخرى في
الإسكندريّة الواقعة في بلاد مصر التي يرجح أنّ الفلسفة تطوّرت
فيها، وخاصة عندما نعلم أنّه ولقرون كانت اليونان تأخذ المعارف
منها .
التساؤل الثالث :إن كانت فعلا
الفلسفة هي إفراز طبيعي للعقليّة الإغريقيّة، فلماذا غادرت
الفلسفة بلاد الإغريق اليونانيين مع موت أرسطو إلى بلاد الشرق
وبالتحديد إلى الإسكندريّة في مصر بدون رجعة إلى يومنا هذا، أليس
هذا يرجّح أنّ الفلسفة دخلت إلى اليونان عبر مصر وكُتبت في
اليونان نقلا عن المصنّفات المصريّة وغيرها التي غُنِمَت من مصر
وفارس وبابل زمن أرسطو، وبرجوعها للإسكندريّة قد عادت وبشكل
طبيعي إلى أحضان بيئتها الأولى.
السؤال الرابع: لماذا مَن دَوّن
تاريخ الفلسفة وكذلك مطالبها في زمن أرسطو وما بعده، وأخبرنا على
بعض الآراء أو المذاهب السابقة له، ولم يخبرنا عن أسماء أصحاب هذه
الآراء والمذاهب، بل نجدهم يرجحون أسمائهم ترجيحا، وإن
ذكروا اسما لا تجدهم يعرّفون عن زمان ومكان دراسته أو سيرته
وحياته العلميّة .
وبمعنى آخر، إذا صحّ أنّ العلوم
وخاصة الفلسفة نشأت في أحضان الشعوب اليونانيّة، فهذا يعني أنّ
الحضارة اليونانيّة تمثّل مركز علمي كبير وخاصة في العلوم
النظريّة، وهذا طبعا لا يتحقق إلا بالاحتضان الشعبي والرسمي
للعلماء والفلاسفة ولو نسبيا، إذاً إن كان الأمر كذلك فلما نجد
جهلا كبيرا جدّا لدى من دوَّن الفلسفة وتاريخها مِنَ اليونانيين،
لسيرة وآثار من سبقهم من الفلاسفة والعلماء .
التساؤل الخامس :إذا كانت الفلسفة
هي نتاج أفرزه وعي الشعوب الإغريقيّة – كما يرى ذلك بعض المعاصرين
- فلماذا التاريخ الذي دوّنوه هم بأنفسهم يخبرنا أنّ الثلاثي
الذهبي في بلاد اليونان « سقراط (41)، وأفلطون (42)، وارسطو (43)
» ناهيك عن غيرهم ممن سبقهم مثل « اناكساغوراس » (44) ، و «
فيثاغورس » (45) ، و« زينون الإيلي » (46)، فيهم مَن قُتِل، وفيهم
من سُجِن، وفيهم من نُفِيَ أو طُرِدَ، وفيهم من عذّب حتى الموت،
من قِبل حكومات وشعوب الغرب عموما، واليونان خصوصا، والتهمة تكاد
تكون واحدة، وهي إدخال مذاهب أجنبيّة مُفسِدة لمعتقدات الشعب
اليوناني والقول بما يخالف فكر ومعتقد أهل اليونان
.
التساؤل السادس :إذا كنّا نسلّم
بأنّ المباحث الفلسفيّة وخاصة المجرّدة منها -المنطق
والميتافيزيقيا- لا تكون إلاّ نتاج قرون من التّأمل العقلي
-والواقع هو كذلك فإنّه لا يعقل أن يكون الكشف الأوّل لكل تلك
المطالب والمباحث العقليّة تَمَّ في فترة زمنيّة قصيرة ومن قبل
فرد واحد او فردين- ، فَلِمَا فجأة تمّ تدوين أغلب الأعمال
المنسوبة « لأرسطو » في فترة زمنية واحدة، وهي الفترة التي أعقبت
مباشرة غزو تلميذه «الإسكندر الأكبر» لبلاد مصر وباقي بلدان
الشرق، واستيلائه على المصنّفات المصرية سنة 332 ق.م،
وبالتحديد بعد أنّ أسّس أرسطو مدرسته المشائية ومكتبته التي وُصفت
أنّها ضخمة سنة 335 ق.م، علما أنّ المصريين كانوا يملكون مصنّفات
- مثل تعاليم نظم الأسرار- والتي تُعدُّ من الأسرار المصريّة التي
لا يطّلع عليها إلاّ الكهنة المصريّين وحدهم لما تحمله من معارف
تُعتبر سرّية .
التساؤل السابع والأخير:
لماذا عند العودة لمرحلة ما قبل « سقراط وأفلاطون
وارسطو »(47)، يتم تجاهل حقيقة أنّ هؤلاء الفلاسفة -« طاليس الذي
هو من أيونيا 624-550 ق.م، وأنسيمندريس من مليتس مليطا 611-547
ق.م ، وأنكسيمانس 558-524 ق.م ،وهم أصحاب المدرسة الأيونيّة،
وفيثاغورس من بلدة ساموس 580- 570 ق.م ، وأنكساغوراس من
كلازومينيا 500 ق.م ، ويروى أنّه أول من نقل الفلسفة إلى أثينا
البلد الأم لليونانيي، وأكسانوفان من قولوفون قرب أفسوس 576 ق.م ،
وهيراقليطس من أفسوس 500 ق.م ، ومليسوس من ساموس حوالي 442 ق.م »-
هم من مواليد وأبناء تركيا الشرقيّة، التي لم ينقطع تواصلها مع
الشرق في كل مراحل تاريخها القديم والحديث (48) .
حتى أنّه عندما انتقلت الفلسفة
إلى جنوب إيطاليا، وتأسست ثاني مدرسة فلسفيّة « المدرسة الإيليّة
»، نجد أنّ مؤسسها الحقيقي هو « أكسانوفان » الذي هو من تركيا
الشرقيّة، وهرب من غرب تركيا نتيجة دخول الفرس لبلده قولوفون، بل
إنّ المدينة التي ظهرت فيها هذه المدرسة أسّسها الأيونيون الّذين
هربوا من تركيا نتيجة دخول الفرس لها في القرن الخامس قبل
الميلاد، أمّا الذي ادعى وقال أنّ « بارمنيدس » هو المؤسس للمدرسة
« الأيليّة » تغافل أنّ الأخير قد تتلمذ على يد « أكسانوفان
»، وهذا يرجّحه التماثل في أسس فلسفة كلّ منهما، منها مقولة «
وحدة الوجود » .
خلاصة
البحث:
أنّه ومن الإنصاف أن نقول : أنّ
نشأة الفلسفة والعلوم التي ارتبطت بها، حصل بدايةً في الشرق،
وبالتحديد في المربع الحضاري « مصر ، بلاد الشام ، وبلاد ما بين
النهرين ، وبلاد فارس »، خاصة بعد انكشاف الكثير من الحقائق
الجديدة حول الحضارات الشرقيّة وخصوصا مصر، والتي حصلت من خلال
الحفريات والدراسات الأثريّة التي حصلت خلال العقود الأخيرة
.
وكذلك ليس من الموضوعيّة في شيء
أن نذهب نحو تهميش تراث الآخرين أو محاولة طمس الحقائق التاريخيّة
لجلب الفخر القومي أو العرقي لطائفة أو مجموعة محدّدة من النّاس،
وعليه، فإنّ العلوم التجريبية والمعارف النظريّة، ونَخُصُّ من ذلك
المباحث الفلسفية التي تقف على رأس قائمة العلوم النظريّة، قد
نشأت ثمّ تطوّرت في بلاد الشرق وبدرجات متفاوتة بين حضاراتها
.
فمثلا لو عدنا إلى بلاد فارس سنجد
أنّ الحضارات المتعاقبة عليها، قد اهتمّت ثمّ طورت بُعدَها
الذوقي، بحيث ترسّخ هذا البُعد في عمق المكوَّن الداخلي للأفراد
المنتمين لبلاد فارس، وهذا الأمر يمكن أن يلتمسه أي فرد اتّصل
بالمجتمع الإيراني في عصرنا الحاضر، الذي يُمثّل الوريث الوحيد
للحضارات التي تعاقبت على بلاد فارس .
بينما سنجد في الحضارة البابليّة
(العراق) ، اهتمامهم وتطوِيرهم للجانب السياسي، فكانوا هم
السبّاقين في إنشاء أوّل منظومة تشريعيّة وقانونيّة بين الحضارات
التي قامت ووصلنا شيئا من أخبارها، ولعلّ اهتمامهم بالجانب
السياسي منذ القدم يساعدنا على فهم كل تلك الاضطرابات وعدم
الاستقرار السياسيّ الذي مرّ به العراق عبر القرون الماضية وإلى
عصرنا الحاضر .
أمّا لو رجعنا للحضارة
الفرعونيّة، ببلاد مصر سنلحظ اهتمامهم بالإنسان وخاصة في ما
يتعلّق بحياته بعد الموت، ممّا دفعهم للبحث عن ماهيّة الإنسان
وحياته الأخروية بالخصوص، وهذا ساعدهم على تطوير البحوث
التجريبيّة في ما يساعد على حياة كريمة للإنسان بعد الموت وقبله،
وكذلك البحوث النظريّة التي ساعدتهم على فهم الكائن البشري
وبالتالي تمكّنوا من تصوير حياته قبل الموت وبعده
.
فالشرق هو الذي سبق الغرب في
إنشاء وتطوير العلوم التي فرضتها حاجة الإنسان في وجوده الدُنيوي
بِبُعدَيْهِ المادي والمعنوي، بل ما تكشفه لنا الحضارة المصريّة
وغيرها هو كونهم تجاوزوا بالبحث، ما يتعلّق بحياة الإنسان
الدنيويّة إلى البحث عمّا يتعلّق بحياته بعد الموت، إلاّ أنّ
العلوم وكما يُفهَم من حركة تطوّرها، تحتاج لمراحل طويلة من الزمن
وأيضا لا يمكن حصرها في أفراد محدودين أو مجتمع معيّن، وبالتالي
فلابد من الاعتراف بدور الحضارة اليونانيّة، الذي نراه يتمثّل
:
أولا: في قطف خلاصة المعارف
القديمة وصياغتها بالشكل العلمي المُمَنهج، والعقلي الدقيق، على
يد «أرسطو» ، كما نراه اليوم ممّا وصل إلينا منه، وهذا الدّور ليس
بالدور الثانوي في حركة تطوّر العلوم، بل هو محوري ومهم، فما قام
به «أرسطو» يعدّ من الناحيّة الأخلاقيّة عمل يستحق عليه الثناء
والشكر، ومن الناحيّة العلميّة هو عمل جبّار، لا يقدر عليه إلا من
كانت له مكانة وقدرات ذهنيّة فذّة، و معرفة ودراية بصنوف العلوم
التي يكتب فيها .
وثانيا: في القضاء على الاحتكار
المعرفي -الذي مارسه كهنة المعابد في الحضارات الشرقية-
وإخراج العلوم التجريبية والنّظرية من سراديب السرّيّة -التي كانت
تحيطها بها الحضارات السابقة وخاصة في مصر- إلى عموم من طلبها
وكانت له القابليّة لتقبّلها، وهذا الدّور لهو فضل كبير يحسب «
لأرسطو » ويجب على الجميع الاعتراف به .
فكما هو معلوم لدى كل من يعود
لدراسة الحضارات الشرقية القديمة، أنّ الجانب المعرفي في هذه
الحضارات جلّه بيد رؤساء المعابد وكهنته، بل إنّ المدراس التي
كانت تتمّ فيها عملية النقاش والحوار والبحث والتدريس في تلك
الحضارات الشرقية، كانت تحت سلطة وإشراف وتسيير رجال وكهنة
المعابد، كما أنّه من المعلوم أيضًا أن من أبرز الأدوار التي
يلعبها رجال الله في الأرض من الأنبياء والرُسل هو: تعليم النّاس
ورعايتهم معرفيا، بل وتلبية الحاجيات المعرفية التي ترتبط بتطوير
الحياة اليومية للنّاس، وهذا نجده مذكورا في كل الكتب السماوية
المتواجد بين أيدينا، بل حتى تلك الكتب التي ليست ثابتة لدينا
أنّها كتب سماوية، نجد عند مراجعتها الدور التعليمي البارز، لصاحب
الكتاب .
وختاما:
نقول باختصار، أنّ حقيقة أن
العلوم والفلسفة قد نشأت وتطورت في بلاد الشرق، هي من الحقائق
الموضوعية التي يصل لها كل باحث منصف تخلّص من كل تلك الخلفيات
السلبية، سواء كانت سياسية أو عرقية، ثم بعد ذلك جاء رجالات
الإغريق -وعلى رأسهم أرسطوا - ليُدَوِّنُوا لنا حصيلة ما أنتجه
رجالات الشرق ضمن مناهج علمية.
كما أنّنا نقرّ ونسلّم بتلك
البصمة الواضحة التي تركها فلاسفة الإغريق في الفلسفة والعلوم،
ولكنّنا نرفض بقوة ذلك القول الذي يرى أنّ الفلسفة والعلوم قد
نشأة وتطورت في خصوص بلاد اليونان، وعلى يد فلاسفة ومعلّمي
الإغريق، دون غيرهم، وذلك لوضوح بطلان هذا القول بمجرد الإحاطة
بواقع حال الحضارات القديمة، التي سبقت التاريخ الميلادي
.
وأيضا ندعوا أحفاد الحضارات
الشرقية، وبالأخص أبناء الأمة الإسلامية، من هذا الجيل وما بعده،
للنظر بدقّة أكثر في القول الذي نرجحه، لعلمنا بأنّ الجزم فيه
بالشكل الذي تفرضه المناهج العلمية، لا يتمّ إلا من خلال تطبيقاته
العملية، وذلك من خلال استرداد ثمّ استخراج النصوص القديمة
للحضارات الشرقية وتحليلها لاستخراج المباني والمناهج المعرفية
التي بُنِيَت عليها تلك النصوص .
وكل ذلك لا يمكن تحقيقه عمليًا،
إلا من خلال العمل على مستويين:
الأول: استرداد الآثار والنصوص
التي سرقت في القرنين المنصرمين على يد المستعمر وبعثاته الأثرية،
والانكباب على دراستها وتحليلها لاستخراج المباني المعرفية
التي بنيت عليها تلك النصوص .
الثاني: تطوير وتوسيع الحفريات
الأثرية، مع دارسة كل النتائج التي يمكن أن تترشح على هذه
المجهودات التنقيبية للحضارات الشرقية .
حبيب مقدم
_________________________________
1) بناءا على أنّ أقدم المصنّفات التي وصلتنا
من العالم القديم هي يونانيّة ، ذهب عموم الناس لكون الحضارة
اليونانيّة هي البيئة التي تشكلت فيها حركة العلم والمعرفة ، إلاّ
أنّ هذا الأمر لوحده لا يعني بالضرورة أنّ حركة العلم والمعرفة
تشكلت في أرض اليونان، وخاصة بعد الكشوفات الأثريّة التي أمدّتنا
بالكثير من المعلومات عن الحضارات التي سبقت اليونانية
.
2) المتتبع لثقافة الشعوب الغربيّة منذ العصور
اليونانيّة مرورا بالرومانيّة إلى العصور الوسطى ثم العصر الحديث،
سيلحظ أنّها ثقافة يحكمها النفس الإستعلائي إتجاه باقي الشعوب
الأخرى ، وهذا تكشفه لنا نظرتهم اتجاه الشعوب الشرقية، التي
توضحها المفردة التي كانوا يستخدمونها قديما لنعت الشعوب الشرقيّة
، وهي " البربري " المتأتية من اللّفظة المصريّة القديمة
"بَارْ-بَارْ " التي كانوا يطلقونها على من لا يفهمون لغته، ثم
انتقلت بعد ذلك لليونانيّة ثمّ الرومانية الذين اطلقوها على
الشعوب الشرقيّة وخاصة سكّان شمال إفريقيا، واستعملوها
بمعنى " الهمجي والمتخلّف " ثمّ تلقفتها بعد ذلك المجتمعات
الأوروبيّة واستخدمتها بهذا المعنى الوضيع، أمّا في عصرنا الحاضر
وعندما حاولت السياسة الغربية لِبس ثوب القيم الإنسانيّة لأهداف
سياسية، حاولت إيجاد مفردة جديدة تحمل بعمومها أكثر ممّا تحمله
لفظة " البربري " وتكون منمّقة أكثر، فخرجت لنا بمفردة "العالم
الثالث" التي تنطوي على معاني: التخلف ، والهمجيّة والوحشيّة،
والتأخر والدنو في الرتبة......، إلى آخره من المفردات التي تؤدي
إلى الاستنقاص من إنسانيّة
الإنسان.
3) كما يظهر عند محمد بن أحمد البيروني
.
4) ومن هؤلاء : زيلر، جومبرتز ، جلبرت موري،
ورسل، وغيرهم الكثير ممن تفاخروا بالحضارة اليونانية، وادعوا
أنّها هي صانعة العقل والمعرفة البشرية .
5) كيوسف كرم .
6) جورج جيمس،روبرتسون، وماير، ودنكر
.
7) حسن طلب، وهو الظاهر من كلمات فؤاد زكريا في
كتابه: التفكير العلمي .
8) وهي نظرية تفسّر كيفية تشكل القارات
السبعة، ومفادها أن القارات العالم كانت في قديم الزمان عبارة عن
قارة واحدة متلاصقة اسمها بانجيا، وبسبب تحرك الصفائح التكتونية
التي تقوم عليها هذه القارات ، بدأت هذه القارات بحركة تباعد عن
بعضها البعض حتى تشكلت ما نعرفه اليوم بالقارات السبعة ،
وبوادر هذه النظرية ظهرت في القرن السادس عشر على يد « أبراهام
أورتيليوس »، وتطورت خلال مطلع القرن العشرين على يد « ألفريد
فيغنر »، وتم اعتماد هذه النظرية عمليا بعد اكتشاف نظرية الصفائح
التكتونية في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين
.
9) إنّ القفزة العلمية التي حقّقتها الشعوب
الغربيّة في هذا العصر، هي ليست وليدة واقعها بمعزل عن الحركة
العلميّة التي قامت وطوّرتها الشعوب الشرقيّة لقرون عدّة، وخير
شاهد على ذلك هي حركة الترجمة التي شهدتها مناطق الشعوب الغربيّة
في العصور الميلاديّة الوسطى، والتي شملت علوم عدّيدة منها : علم
الكيمياء والفلك والرياضيات والهندسة والفلسفة والجغرافية والطب
وعلوم الأحياء .....الخ .
10) وحسب تسميات الدول في عصرنا الحاضر ،
فالإسكندر سيطر على مقدونيا ، وجزء من رومانيا ، واليونان ،
وبلغاريا ، وألبانيا ، وجزء من يوغسلافيا ، وجزء من ساحل ليبيا
وشمال مصر ، وفلسطين ، ولبنان ، وسوريا , وتركيا , والعراق ,
وإيران , وأفغانستان , وارمينيا , وباكستان , وطاجكستان ، وعلى
الأرجح جزء من قرغيزستان ، وجزء من الشمال الهندي ، و الجزء
الجنوبي لتركمانستان ، وجزء من كازاكستان وجزء من الصين .....الخ
.
11) راجع موسوعة ، قصة الحضارة ، وِل وَايرْيل
ديورَانت ، ترجمة د.زكي نجيب محمود ، ج 2 ص 66
.
12) تاريخ الحضارات العام، أندريه ايمار و جانين
أوبوايه ، ترجمة فريد داغر و فؤاد أبو ريحان ،ج 1 ص
39
13) الفينيقيون هم نفسهم الكنعانيون، غير أنّ
تسمية الفنيق هي تسمية يونانية أطلقها الإغريق على الكنعانيين
.
14) راجع كتاب ، تاريخ الحضارات العام ، تأليف
مجموعة من المختصين وأشرف عليها ، مفتش المعارف العام في فرنسا ،
موريس كروزيه ، ترجمة فريد داغر و فؤاد أبو ريحان ، ج 1 ص 256 . و
راجع موسوعة ، قصة الحضارة ، وِل وَايرْيل ديورَانت ، ترجمة د.زكي
نجيب محمود ، ج 1 ص256 .
15) راجع موسوعة ، قصة الحضارة ، وِل وَايرْيل
ديورَانت ، ترجمة د.زكي نجيب محمود ، ج 2 ص 313
.
16) راجع كتاب ، تاريخ الحضارات العام ، تأليف
مجموعة من المختصين وأشرف عليها ، مفتش المعارف العام في فرنسا ،
موريس كروزيه ، ترجمة فريد داغر و فؤاد أبو ريحان ، ج 1 ص
262
17) ، تاريخ الحضارات العام ، تأليف مجموعة من
المختصين وأشرف عليها ، مفتش المعارف العام في فرنسا ، موريس
كروزيه ، ترجمة فريد داغر و فؤاد أبو ريحان ، ج 1 ص
203
18) تاريخ الحضارات العام ، تأليف مجموعة من
المختصين وأشرف عليها ، مفتش المعارف العام في فرنسا ، موريس
كروزيه ، ترجمة فريد داغر و فؤاد أبو ريحان ، ج 1 ص
209
19) راجع موسوعة ، تاريخ الحضارات العام ، تاليف
مجموعة من المختصين وأشرف عليها ، مفتش المعارف العام في فرنسا ،
موريس كروزيه ، ترجمة فريد داغر و فؤاد أبو ريحان ، ج 1 ص 214
.
20) راجع موسوعة ، قصة الحضارة ، وِل وَايرْيل
ديورَانت ، ترجمة د.زكي نجيب محمود ، ج 2 ص 13
.
21) راجع موسوعة ، قصة الحضارة ، وِل وَايرْيل
ديورَانت ، ترجمة د.زكي نجيب محمود ، ج 2 ص188
.
22) نفس المصدر السابق ، ج 2 ص 264
.
23) قصة الحضارة ، وِل وَايرْيل ديورَانت ،
ترجمة د.زكي نجيب محمود ، ج 2
ص9-10
24) راجع كتاب تاريخ هيرودوت ، ترجمة عبد الإله
ملاح ، ص 169 ، حيث يقول أن المصريين هم أول من اكتشف مسيرة
الإنسان ومنهم نهل شعراء الإغريق ، وأيضا يقول في صفحة 180 أنّ
اليونانيين أخذوا الهندسة من مصر ، وكذلك يشير في صفحة 213 إلى
أنّ اليونانيين أخذوا بعض القوانين المنظمة لعلاقة الفرد بالدولة
من عند المصريين .
25) يقول هيرودوت في تاريخه صفحة 134 أنّ
المصريين هم أول من وضع أسماء الآلهة الإثني عشر، وهم أوّل من
شيّدوا المعابد والمذابح ونصب الآلهة، وفي صفحة 156 :يذكر أنّ
اليونانيين أخذوا طقوس عباداتهم من مصر ، وفي صفحة 162 : يذكر أن
اليونانيين أخذوا بعض الأحكام الدينيّة من مصر كمنع مقاربة المرأة
في المعابد، وعدم السماح للنساء بدخول المعابد بدون اغتسال
.......الخ .
26) راجع موسوعة تاريخ الحضارات العام ج 1 ص 314
.
27) وهذا القول قال به « جون بيرنت » كما ينقله
حسن طلب في كتابه أصل الفلسفة، ص 20 .
28) وأكثر من تحمّس لهذا القول هو « أرنودي
جوبينو»، راجع نفس المصدر السابق ص 21-22 .
29) نفس المصدر السابق ص 23 .
30) لقد كان دور الأنبياء والرسل هو هداية الناس
للحق ، أي لما هو واقع وحقيقة ، ودورهم لم يقتصر فقط على جانب
الدعوة للخير ، بل يتجاوز ذلك إلى تقديم الأجوبة العامة على
الأسئلة الوجوديّة الفلسفيّة من قبيل من أين ، وإلى أين ، ونحن
أين .....الخ ، وكذلك تقديم البدائل العمليّة للناس من قبيل
المنظومات العباديّة والأخلاقيّة على المستوى الفردي والإجتماعي ،
وكذلك المنظومات السياسيّة المنظّمة لحركة المجتمع ، وكذلك الحلول
الإقتصاديّة التي تساعد على نمو الأفراد في بنيتهم الإجتماعيّة
الدنيويّة .
31) لايمكن أبدا وبأي حال تَصَوُّر وجود مجتمع
متماسك ومنظم وقوي في بعده السياسي والعسكري والإقتصادي بدون فرض
تطوّره على المستوى المعرفي والعلمي وخاصة في المعارف النظريّة
الفلسفيّة .
32) راجع تاريخ هيدوروت ص 134 و169 و180 حيث
يقول أن اليونان أخذت الهندسة من مصر الشرقيّة ، وأنّ المصريين
سابقين للإغريق في علم الفلك والطّب وغيرها من العلوم
.
33) راجع موسوعة تاريخ الحضارات العام ، ج 1 ص
131 .
34) راجع نفس المصدر السابق ، ج 1 ص 179
.
35) راجع كتاب ، تاريخ هيدوروت ص 213 حيث يقول
أن اليونان نقلوا القوانين المتعلّقة بدخل المواطن عن مصر .
36) تاريخ هيرودوت ص 156 و 162
.
37) راجع كتاب تاريخ الفلسفة اليونانيّة ، ولتر
ستيس ،ص 29 .
38) نفس المصدر السابق ، ص 35
.
39) راجع كتاب تاريخ الفلسفة اليونانيّة ، يوسف
كرم ، ص 12 وص 25 وص 76 .
40) نعم لم أجد لها جوابًا حتى وقع بين يديّ
كتاب « التراث المسروق» للكاتب الأمريكي « جورج جيمس»« وليس
من المعيب إن قلت أنّ هذا الكتاب قچ أجاب على جملة من الأسئلة
التي كانت عالقة في ذهني خلال سنوات دراستي للفلسفة
.
41) قتل سقراط من خلال اجباره على شرب
السم في السجن، راجع كتاب تاريخ الفلسفة اليونانية ، وُلتر ستيس،
ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد ، الفصل الثامن ص 87، والفصل العاشر
ص 113 و الفصل الثاني عشر ص 145 .
42) بيع أفلاطون في سوق الرق والنخاسة، راجع
كتاب تاريخ الفلسفة اليونانية ، وُلتر ستيس، ترجمة مجاهد عبد
المنعم مجاهد ، الفصل الثامن ص 87، والفصل العاشر ص 113 و الفصل
الثاني عشر ص 145 .
43) لقد نفي ارسطو طاليس، وبقي هاربا لسنوات
عديدة، راجع كتاب تاريخ الفلسفة اليونانيّة ، يوسف كرم ، صفحة 26
، وصفحة 143 ، وصفحة 39 .
44) نعم لقد سجن ثم نفي اناكساغوراس، راجع كتاب
تاريخ الفلسفة اليونانية ، وُلتر ستيس , ترجمة مجاهد عبد المنعم
مجاهد ، الفصل الثامن ص 87، والفصل العاشر ص 113 و الفصل الثاني
عشر ص 145 .
45) طُرد من موطنه فيثاغورس، راجع كتاب تاريخ
الفلسفة اليونانيّة ، يوسف كرم ، صفحة 26 ، وصفحة 143 ، وصفحة 39
.
46) وعذّب زينون الإيلي حتى الموت، راجع كتاب
تاريخ الفلسفة اليونانيّة ، يوسف كرم ، صفحة 26 ، وصفحة 143 ،
وصفحة 39 .
47) هم ولكي يتجنّبوا الوقوع في القول: بأنّ
الفلسفة ظهرت دفعةً ، وفي زمن واحد وهو زمن « سقراط وأفلاطون
وأرسطوا » لأنّ هذا القول لا يمكن أن يقول به عاقل تجدهم يعودون
للبحث عن جذور تاريخيّة للفلسفة في بلاد اليونان
.
48) راجع كتاب تاريخ الفلسفة اليوانانيّة ، ولتر
ستيس، ص 29 و32 و35 و37 و69 و87، وكذلك كتاب تاريخ الفلسفة
اليونانيّة، يوسف كرم، الفصل الثالث ص 35 و42
.