العقل وعلم الغيب
الغيب؛ لغة حسب قاموس المحيط،
الشك، وغياب وغيوب وكل ما غاب عنك وما اطمأن من الأرض والشحم؛
والغيبة كالغياب بالكسر، وبما أن الإنسان كائن مُحدَث، حادِثٌ
بمُحدِث له، إذن هو مسبوق بعدم، وسبق العدم يقتضي أن يكون مسبوقا
بجهل لا محالة، وهذا يدفع بأن لا يكون علمه تحصيلي حادث
بحدوثه، ((والله أخرجكم من بطون أُمهاتكم لآتعلمون شيئا وجعل لكم
السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون)) (النحل-78)، وعلمه
التحصيلي هذا علم إكتسابي مقتصر على معارف حواسه الخمسة،
المجعولة له من خالقه، ليدل على أنه محدود العلم بما
علم عن طريقها.
عالم
الشهادة
إن روافد علم الإنسان اليقيني في
واقعه الحاضر المحسوس هي حواسه الخمسة؛ (النظر والسمع واللمس
والذوق والشم)، بحيث أنه لو فقد أي حاسة من هذه الحواس سيفوته
العلم اليقيني بمجال حركة وفاعلية هذه الحاسة، وغياب العلم
اليقيني الذي منشأه الحواس سيدفع بالعقل ليذهب إلى التخيل؛ وهو
رسم صورة ذهنية للمُتخَيل المراد العلم به، من صنع خياله على شرط
أن يكون له مصداق واقعي معلوم عنده، كأن يتخيل الإنسان صورة
لمستقبله، أو حاضر غاب عن حواسه، أو أي صورة لماض سمع
به.
إن مجال تخيل العقل في عالم
الشهادة يكون حرا، مما يُرجّح أن بعض التخيلات أو التهيؤات تكون
بعيدة عن أرض الواقع، وهو ما يسمى بالغيب النسبي، نسبة لغياب
المعطيات اليقينية المدركة من قبل الحواس للواقع المحسوس، لعجز
وقصور فيها.
عالم الغيب
النسبي
إن العلاقة بين الغيب النسبي في
عالم الشهادة وبين العقل؛ تعتمد بالأساس على ما غاب عن الحواس في
هذا العالم، ومنه مجريات الماضي، حيث يمكننا التثبت من صحة أخباره
من خلال قراءة تأريخ من سبقنا بعناية، والتعامل معه بإنصاف لأخذ
العبرة منها للحاضر والمستقبل، ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ
عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَاب)) (يوسف - 111)، سواء كانت هذه
الأخبار عن أشخاص أو مجتمعات وبشتى المجالات، كما يمكن إعتبار بعض
الحاضر غيبا لغيابه عن مشاهدة حواسنا، والذي لا يكون غيبا لمن
شاهده عيانا، كذلك المستقبل غائب عن متناول الحواس، ولكن يمكن
قراءته والتنبؤ بمجرياته من خلال كم المعطيات المتوافرة لدينا
سواء كانت من الحاضر الذي نعيشه أو من الماضي وما توافر لنا من
مجرياته.
الغيب
المطلق
أما في عالم الغيب المطلق وهو
عالم الملكوت، فلا مجال للعقل في إدراك موضوعاته، عن طريق الحواس
ولا وجود لطريق يوصلها إليه، كذلك لا مجال لحركة الخيال العقلي
فيه، كي يرسم صور ذهنية مقاربة للحقيقة، عن أشياء بالأساس لا وجود
لمصاديق لها في عالم الشهادة، (كالعلم بالذات الإلهية، البرزخ،
اليوم الآخر، البعث، الموت، الشفاعة)، حيث يكون اليقين في العالم
الغيبي المطلق، هو المطلوب لا غير، ولا مجال للظن أو الخطأ
فيه، وبما أن خيال الإنسان يحتمل الظن والخطأ كما بينا في عالم
الشهادة، إذن لا مجال للعقل أن يتيقن من رسوماته الذهنية المتخيلة
في عالم غريب وبعيد عن إدراكاته، فكيف يكون مصيبا في عالم لم
يألفه من قبل.
من هنا يجب التفريق بين الغيب
النسبي في عالم الشهادة، وبين الغيب المطلق في العالم
الملكوتي.
يتضح مما سبق أن علم الغيب المطلق
هو مكنون علم خاص بالذات الإلهية دون غيرها ((وَعِنْدَهُ
مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ)) (الأنعام
ـ59)، ومنه اسم العليم، اسم مختص بها حيث يظهر أنها (علم كلها)
غير مسبوقة بجهل، وعلمها حضوري لا كسبي ((وَفَوْقَ كُلِّ ذِي
عِلْمٍ عَلِيمٌ)) (يوسف-76)، على عكس المخلوقات التي هي دونها
مخلوقة لها، عليمة بعلم كسبي حصولي، والإشارة القرآنية
التالية توضح ذلك، لذا لا يمكن للإنسان أن يدرك كنه وأسرار الغيب
المطلق بما يمتلك من قدرات محدودة، حيث أن جملة (ذي علم) تظهر ان
صفة العلم زائدة على الذات المخلوقة، وتعني أنها حصولية مكتسبة قد
سبقها جهل، إلا من شاء الله ان يختصهم ببعض علمه من أنبياءه ورسله
وملائكته تفضيلا منه وتمييزا لهم عن باقي خلقه ((وَلَا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ)) (البقرة-59)، وهذا
من باب إصطفائه لخيرة عباده كي يحملهم رسالات هداياته للبشرية في
عالم أراده أن يجري بالأسباب، ((وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ
تَعْلَمُ)) (البقرة-151).
كما إن العلم بالغيب المطلق لا
يمكن للعقل أن يتحصل عليه بطريق الحواس حيث لا طريق لها للولوج
إليه، ولا يستطيع الخيال من بلوغ مداه، ولا حتى التوهم، إنه تعليم
من عليم لا ينال بكسب عقلي، ولكن جعل الله له روافد وسبل للتعليم
كالوحي، والإلهام، أو الرؤيا، وله مداخل وأبواب لتحصيل المعرفة
((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)) (البقرة ـ282)،
((وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)) (البقرة
ـ151).
دلالات معنى لفظ
(الغيب)
((الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِالْغَيْبِ)) (البقرة-3)، بما أن لفظ الغيب جاء في الآية الكريمة
بصيغة الإطلاق؛ فصار يشمل كل ما غاب عن علم الإنسان بالغيب
المطلق، وبهذا تعددت المصاديق، فمنها مايكون القصد به:
1. الجنة أو النار وما فيها من ملذات أو عقوبات
بشقيها الحسي أو المعنوي.
2. عالم الملائكة وما يختص بهم من أفعال كالإماتة
بإذن الله أو الحفظ أو الرقابة على العباد وما شاكل من أمور
مكلفين بها ولا يعصون ما أمرهم الله بها.
3. عالم الجن وجنس خلقهم وخياراتهم الإعتقادية
التي إختلفوا فيها مما طبع سلوكهم كلها فمنهم الخير ومنهم الشرير
وهكذا.
4. يوم
الحسا ومدته وما يجري فيه وهكذا.
5. أن
(الله) يعتبره البعض غيب رغم أنه ليس غائبا عن عباده كما تشير
الآيات القرآنية بذلك، والتي على العكس تشير إلى قربه المعنوي من
الإنسان مثال ذلك ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ
هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا
أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ
مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) (المجادلة
-7)، فهو الرازق والحافظ والمعين والمحيي والمميت، فكيف يكون
غائبا وكل هذه الأفعال تدلل على حضوره، كما وأنه العليم الذي لا
يعزب عنه مقدار ذرة ((مَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو
مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا
عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَن
رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي
السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي
كِتَابٍ مُّبِينٍ )) (يونس-61)، وأن الناس هم الذين غيبوا أنفسهم
عن الله، وليس هو الغائب عنهم، وكيف يغيب وهو الشاهد والرقيب
عليهم، لكن مزيد المعاصي جعلت الحجب بينهم وبينه فكانوا بسوء
أفعالهم هم المغيبين عنه.
موقف العقل من
الغيب
هنالك منهجين يحددان موقف العقل
من الإيمان بالغيب، هما:
1. منهج عرف إمكانات وحدود العقل وما هو مطلوب
منه في حدود الوحي والشرع، وفيه:
أ. في
الغيب النسبي في عالم الشهادة، والذي عرفنا ان العقل يلجأ فيه
للتخيل بالمحسوس بحرية تامة، في حال عجزت الحواس عن رفده
بالمعلومة اليقينية عن العالم المحسوس، أو أنه فقد حاسة من الحواس
فأصبح عاجزا عن التعويض عنها، وهنا تكون المعلومة ظنية تخيلية
بعيدة أو مخالفة للواقع إذ لا يقين يتحرر من الخيال وهذا جائز في
عالم الشهادة.
ب. في
الإيمان بالغيب المطلق وهو من العالم الملكوتي، فلا مجال للحواس
أن تدركه أو تتعقله؛ فهو خارج نطاق حركتها الحسية أو التخيلية؛
لذلك كان لا بد من التعليم الإلهي للبشر من الخالق العليم المحيط
بعباده، فكان بعث الأنبياء مبشرين ومنذرين ووسائط للتعليم الإلهي
للناس بما في العالم الملكوتي ضمن دائرة تكليفهم الشرعي وعلى قدر
إستيعاب كل مخلوق بحسب كبر وعاءه.
2. منهج يعتقد أن لا حدود لإمكانات العقل في
إدراك المحسوس والمتخيل في عالم الشهادة، كذلك قدرته على أن يخضع
كل شيء لسلطانه حتى بما اخبرت به الأنبياء عن عالم الغيب المطلق،
ولا مانع عندهم ان يرفضوا العالم الغيبي وينكرونه وأن يتخيل العقل
عالما غيبيا خاصا به.
عادل مشكور الظويهري