9 شوال 1445 هـ   18 نيسان 2024 مـ 5:19 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2021-02-23   1383

أحسن القصص... قراءة في حقيقة القصص القرآنية

اعتمد القرآن الكريم ـ باعتباره الدستور العلوي للمسلمين ـ على وسائل وطرائق وأساليب عدة، في بيان مراده، فيبن أن يُشرع هنا وينظم هناك، يُلزم هنا ويُخير هناك، يتشدد هنا ويتسامح هناك، يرُّغب هنا ويرّهب هناك، تبعا لمقاصده، وبالتالي فأنه الكتاب الأشمل والأوسع، الذ لم يغادر صغيرة ولا كبير الا احصاها ((وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)) (الكهف ـ49).
ولا نقصد بهذه الشمولية جانبها الموسوعي حسب التفكير البشري الآني، إنما موسوعيته متأتية من سعة مرسله؛ رب السموات والأرضين وما بينهما. 
ولهذه الموسوعية متطلبات عدة، منها على سبيل المثال، محاكاة طروحاته لزمن نزوله وأزمنة أخرى، وإدراكه للمتغيرات الزمكانية ـ أنى كانت ـ خصوصا وأن حامله أنما حمله مرسلة للناس كافة ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)) (سبأ ـ 28)، فكان السبيل الى ذلك أن ينتهج القرآن الكريم ـ أحيانا ـ الأسلوب القصصي في ايراد ما حدث ويحدث من باب صنع الاعتبار للمسلمين من الأمم السالفة لهم. 
وهنا تنبثق جملة تساؤلات عما أورده الباري عز وجل في كتابه الكريم من قصص وحوادث، وعن طريقة سردها ومديات تطابقها مع الواقع الخارجي لها، وهل يمكن أن تكون قصصا حقيقية وواقعية؟ أم أنها اسطرة يراد منها توجيه المسلمين؟ حتى وإن كان أسلوبه في ذلك هو تسطير الأقاصيص من خيال وليس واقعا!!! خصوصا وإن بعضها يدخل مدخلا لا ينسجم مع ما أعتاد عليه العقل البشري من معارف كعمر النبي نوح على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام.
وقبل البدء في الحديث عن القيمة العلمية للقصص القرآنية، فأن كل قول القرآن الكريم إنما هو قوله سبحانه وتعالى أنزله على صدر نبيه محمد صلوات الله عليه وآله وسلم ((كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ))(الأعراف ـ2)، ولأن الله هو المحصي العليم العدل الخبير الحق الحفيظ، فذه ينسحب على قوله وعلى رسوله صلوات الله عليه وآله.
وبالتالي فأن ما ورد في القرآن من قصص إنما لها مصداقا خارجيا (واقعيا)، وليس نسجا من خيال، وبمعنى أدق، إنها قصص حقيقية حدثت لأمم وأناس في أزمنة سابقة، ليأتي دور القرآن الكريم في توظيفها كأخبار من باب العبرة والاعتبار، والمخرج القرآني في ذلك هو قول سبحان من قال ((وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ۚ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا)) (النساء ـ164)، ما يجعل من قصص الأنبياء إنما هي وقائع حدثت بالفعل ولم تكن فرضيات قصصية. 
وفي سياق أخر، يؤكد الحق جل وعلا على أن هذه القصص إنما هي أنباء (أخبار) لقرى ومدن كانت موجودة ـ وربما قائمة لحد اللحظة ـ ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى ((تِلْكَ الْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ ۚ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ))(الأعراف ـ101)، مع العرض بأن مفردة (نبأ) إنما هي إخبار لحدث ما، مع ما تحتويه الآية الكريمة من أسلوب قطعي في تبيان الحدث بعد حدوثه، أي أن القرآن الكريم كان بصدد تبيان واقعة تاريخية وليس سردا خياليا، بدلالة أهمية الموضوع مع إشارته لتلك القرى ـ اسم إشارة بمراد مجازي ـ ما يجعلنا نصدق أن الخبر عن تلك القرى المقصودة إنما هو خبر حقيقي.
من جهة أخرى، فأن مفردة (نقّص) من الـ (قص) وهو تتبع أثر ووصف واقعي لحادثة حقيقية، أي أنه سبحانه وتعالى يخبر نبيه الكريم بالخبر اليقين بعد تقصيه له.
لغويا، فأن النبأ (الخبر) إنما يكون إخبار عن حدث قد وقع فعليا، مع عدم حاجة الله سبحانه وتعالى الى نسج الخيال لتقريب الصورة لنبيه فهو المحصي المُعّد. 
أما قوله جل وعلا ((نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)) (الكهف ـ13) فأنه الأخر يلزمنا التصديق بأن كل ذلك إنما هو صدق جلي لا غبار عليه ـ الحديث هنا عن قصة أهل الكهف التي وردت في الكتب السماوية الثلاث ـ باعتبار أن الخبر لا يكون صادقا الا بعد وصفه لما يطابق الواقع الخارجي (الحدث الفعلي)، وبالتالي فلا يمكن وصف الأسطورة او الخيال بالصدق لعدم وجود واقع خارجيا لهما.
ونفس الأمر يكون مع قوله تعالى ((وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ)) (هود ـ120)، حيث أن عملية الإنباء ـ قص الخبر بصدقية ـ إنما هو عملية لتثبيت للفؤاد وربطه بالحق كزخم معنوي ـ ما يجعلنا نؤمن بأن هذه القصة حقيقية وواقعية.  
وقوله تعالى ((كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا)) (طه ـ99)، أي أن هذه القصص إنما هي أنباء لما حدث بالفعل ـ سابقا ـ من أحداث الاسلاف من الأمم ووقائع افرادها. 
  من جهة أخرى، فأن تضمن القصص القرآنية لأسماء الأشخاص ـ أحيانا ـ والمدن والأحداث التي أثبت الرواة وهل القصص وارباب الأنساب ـ عبر اجيالهم المتتالية دون تواطئ ـ وقوعها، إنما هو دليل أخر على إن هذه القصص أنما هي حوادث حقيقية.
وقد يسأل سأل عن تضمن بعض القصص القرآنية أحداثا ووقائع تُعد غريبة على العقل ولا يصدقها الحال!
والجواب على ذلك هو إن غرابة بعض الأحداث وعدم ألفة بعض الأمور ينسجم مع تعطيل بعض القوانين الطبيعية فيزيائية كانت ام فلكية بل وحتى اجتماعية ـ ككرامة أو معجزة تستلزم ذلك، وربما يورد ذلك لتوفر ظرف أخر غير ما توافر في حوادث أخرى ، ما حتم هذا التعطيل، فعدم الوجدان لا يعني عدم الوجود، وبالتالي فأن غرابتها على العقل البشري (حاليا) لا يعني عدم حدوثها بل ولا يمنع من قيامها بظرف أو بأخر، خصوصا وأن الوجود مليء بالأسرار والوقائع الغامضة التي تحدث لمرات قلائل قد لا يعاصرها عشرات الأجيال، ما يعدها غريبة وغير موثوقة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فأن المدارك البشرية أقصر من أن تدرك كل حيثيات هذا الكون المخبوء بالعجائب والأسرار، خصوصا وأن هذا العقل لم يدرك بعد حتى اسرار كينونته والروح التي تداخله ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلً)) (الإسراء ـ85)، وبالتالي فأن كون الحدث غريبا وغير مألوفا، لا يعني البتة استحالة حدوثه. 
من هذا نفهم أن طول عمر النبي نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام ـ رغم غرابته ـ لا يمكن استحالته، خصوصا وأن علماء الفسلجة بدأوا بتسمية الأسباب الحقيقة لهرم الإنسان وموته ـ حتف الأنف وليس بعارض خارجي ـ بدء من طبيعة طعامه وحميته الصحية ونظامه الغذائي ـ ما يعني امكانية أن يمد الإنسان ـ من خلال توجيهات الطبيب الحاذق ـ بعمره اذا ما التزم بقوانين وأنظمة حياتية محددة، وهو ما يأمله العلماء في قابل السنوات.
كما أن مد الإنسان بعمره ليس محال من جهة اعتبارية، لأن الموت المعلن غالبا ما يكون بسبب طبي او عرضي، وبالتالي فأن خلق بيئة سليمة تخلو من هذه العوارض ستسبب للإنسان عمرا أطول، كما يحدث ذلك في البلدان المتقدمة طبيا من ارتفاع في معدلات أعمار سكانها، او تلك التي تعتمد أنظمة غذائية معينة، وكل ذلك ليس بغريب إذا ما قارنا طول عمر بعض مخلوقات قياسا بأقرانها كالأفاعي والسلاحف وبعض أنواع الشجر. 
والخلاصة في ذلك، أن إخبار الله لبنيه الكريم عبر قرآنه المجيد من قصص وحوادث إنما هي قصص حقيقية ووقائع تأريخية بعيدة عن الأسطرة والخيال والفرض، وما سوقَها له إلا للعبرة والوعظ.  

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م