9 شوال 1445 هـ   18 نيسان 2024 مـ 11:09 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2021-04-07   710

الدين من وجهة نظر فلسفية

تبنت بعض الدراسات الفلسفية مبحثا فسلفيا مهما، يجيب عن سؤال أزلي بخصوص سببية وجود الدين، ولمن تدين الخلائق؟ فضلا عّمن هو ذاك المبدع والُمنشئ الذي تدين له، وبل وتعمقوا أكثر في البحث عن أصل النشأة ومنشأ الوجود، وذلك من خلال البحث عن المطلق.
والمطلق حسب الفلاسفة هو الموجود القائم بذاته، بل أنه قائم بذاته ولا يحتاج لغيره، ومع تأكيدهم على أن كل ما خلا المطلق، محتاج إليه ومتوالد منه وبعدي له، ومتلاشي بدونه.
ومع ما خلص إليه العقل الفلسفي هذا، إلا أنه أصر على ضرورة وجود النسبي قبالة هذا المطلق، لأن بدون النسبي لا يمكن فهم المطلق.
وعلى الرغم من اختلاف لغة الفلاسفة وخصوصية الفاظهم، إلا أن المطلق عندهم هو الخالق عند أهل الدين، إذ أن الخالق حسب المتدينين هو من خلق غيره وأوجده من العدم، بل أن كل ما غيره هو مخلوق موجود، تابع لواجب الوجود جل شأنه، وهم ـ أهل الدين ـ يقاربون ما خلص إليه الفلاسفة حول العلاقة بين المطلق والنسبي.
وقد توسل الفلاسفة بوسائل شتى للوصول الى تفسير العلاقة بين المطلق والنسبي، كالعقل، أو ما يمكن تسميته بالتفكير العقلي، والوجدان، أو ما يمكن تسميته بالتأمل القلبي.
وعلى الرغم من عظمة هذين السبيلين، إلا أن الفلاسفة واجوا صعوبات جمة في ترجمان المطلق، وإدراك ماهيته، فضلا عن الجزم بتبيان علاقته بالنسبي، مع انهم أدركوا الى حد ما حقيقة المطلق واسبغوه بما يقارب ما سبغه عليه أهل الدين، إلا أن الآخرين ـ أهل الدين ـ تميزوا بوسيلة ثالثة فوق ما أُعتمد من قبل الفلاسفة، إلا وهي الوحي، من خلال ما يوحيه الله جل شأنه الى المصطفين من خلقه إمعانا منه وتحننا في كشف ما لا يستطيع العقل بلوغه لضعف قدراته على فهم ذلك، ومنعا من حيرة عقولهم من جهة، وإقامة للحجة عليهم من جهة ثانية، ناهيك عن مهمته الأخرى ـ الوحي ـ في إفهام هؤلاء النسبيين؛ علاقتهم بالمطلق، ترقيا لهم بما يوصلهم الى أعلى مستويات الحكمة الربانية في علاقة العبودية والربوبية بين النسبي والمطلق (الخالق والمخلوق). 
وبغية الإجابة عن الأسبقية في الحضور، الدين أم الفلسفة، فقد خلق الفلاسفة ـ فضلا عن أهل الدين ـ الى أن التدين والخضوع بل والعبودية والبحث عن قوة لا متناهية يلجأ اليه المحدود والنسبي، إنما هي لازمة أزلية ابدية في الخلق، ففي أعماق الإنسان تسكن اسئلة كبرى حول الموجد ومن ذلك تتسلسل اسئلته حول الدين والربوية والعبودية، وأدل عليل على ذلك؛ أن المطلع على تاريخ الحضارات يلمس جليا ذلك الرابط بينها في البحث عن أله، بل آلهة إشباعا للنقص الذاتي من خلال الكامل المطلق. 
وثمة مشتركات أخرى بين الفلسفة والدين، خصوصا في ما تبحثه من لوازم عقلية أو ما يصطلح عليه فلسفيا بالحقائق، الحقائق التي تملئ الكون لمن أراد التدبر والتفكر، من خلال المجسات التي أودعاها الله فيه من حواس وعقل، فضلا عن الوحي.
وقد خلص الفلاسفة، بضميمة ما خلص إليه أهل الدين، بأن ثمة ثلاثة مستويات للحقائق محل البحث الإنساني، إلا وهي:
المستوى الأول: ومساحته تكمن في البحث عن قيم الحق الكبرى؛ وهي: من أوجدنا؟ لماذا هذا الإيجاد؟ من أين جئنا؟ لماذا جئنا؟ وإلى أين سنذهب؟ وهي في الظاهر اسئلة ميتافيزيقية أو إن شأت فقل غيبية.
المستوى الثاني: ومساحته البحث عن قيم الخير الذي يصلح حياة الإنسان في عالم الشهادة، فضلا عن تبيان مناشئ الشر ودواعيه واسباب صراعه مع الخير.
المستوى الثالث: ومساحته البحث عن قيم الجمال الذي يحقق كمال السعادة للإنسان، ويأتي القبح هنا ليكون كاشفا للجمال.
والمتفكر والمتدبر في هذه المستويات الثلاثة، يجد أنها توضح اصل الصراع بين الحق والباطل، الصراع بين الخير والشر، خصوصا وأن حقائق المستوى الأول مما يشتغل عليها العقل والقلب (التفكير والوجدان)، لأن إعمال العقل فيها دون القلب يجعلها غير منطقية او فوق أدراكه، ما يجعل تأمل العقل فيها بحاجة الى شراكة من القلب.
ولأن العقل غير قادر على إدراكها في كل حالاته، كانت الرحمة الإلهية في أرسال الرسل والأنبياء فضلا عن الملائكة، إخبارا وإفهاما للناس، لأن حقائق هذا المستوى عالية المدارك محيرة للعقول، ما جعل الحاجة فيفهمها الى الوحي من الله مع لازمة إعمال العقل وطمأنة القلب.
كما يرى المتفكر بهذه المستويات بأن حقائق في المستوى الثاني مما يمكن للعقل إدراكها، سواء كان عقلا فطريا أم كسبيا، فالعقل الفطري - وهو الذي يشترك فيه جميع الناس- يُعرف به قيم الخير والشر؛ في حين أن العقل الكسبي - وهو الذي يختلف فيه الناس بحسب ثقافتهم ومعرفتهم وتجربتهم وتأملهم وعلى أساسه يختلفون في العمق والتسطيح لتفسير الأحداث والقضايا - يستطيع أن يكتشف حقائق أخرى غير السابقة، وهي الحقائق المركبة، فيقوم بعمله في التحليل والتركيب والنقد، ليصل إلى حقائق أعمق، وكلما زاد الغوص زاد العمق.
ويتبنى المستوى الثالث حقائق يمكن إدراكها بالحواس الخمس، فتدرك العين بالبصر؛ المنظر الجميل والقبيح، وتدرك الأذن بالسمع؛ الصوت الجميل والقبيح، ويدرك الفم بالذوق؛ الطعم اللذيذ من غيره، وتدرك اليد باللمس الناعم من غيره، وهناك قدر كبير من الجمال والقبح يتفق الناس عليه بفطرتهم أي بالعقل الفطري، كما أن هناك أيضا ما يختلفون فيه بحسب ثقافاتهم أي بالعقل الكسبي.
وعلى هذا وذاك، فقد اشترك أهل صنعة الفلسفة مع المؤمنين بحاجة الإنسان الى مطلق لا عيب فيه، كما أتفقا على تباين مستويات فهم الإنسان لهذا المطلق وآياته ودلائله، واشتركوا ايضا في لازمة إعمال العقل في فهم المطلق جل شأنه والنسبي القاصر دونه، ما صير العلاقة بين الدين والفلسفة طرديا، وبالتالي فان الفسلة وسيلة من وسائل وصول البعض للخالق جل شأنه. 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م