سماحة الاسلام
تمأسس الاسلام منذ انبثاقه
في غار حراء؛ أحد جبال مكة المكرمة؛ على ثيمة السماح التي اكدها
الله في كتابه الكريم في سورة البقرة ( لَا إِكْرَاهَ فِي
الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن
يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ))(سورة البقرة ـ 256)، وكانت هذه الثيمة اللا
اكراهية اساسا في الانطلاق الى عدم الاكراه في كل شيء مرورا
بـ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا
تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا
أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا
أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ(6))(سورة الكافرون ـ
1 ـ6)، ولم يسجل التاريخ المدوّن حادثا مرويا واحدا عن النبي محمد
صلوات الله تعالى عليه وآله، أجبر فيه أي أحد من
الناس على تغيير دينه او معتقده؛ بل حدث العكس من ذلك تماما؛ اذ
دخل الكثيرون من اصحاب الملل والنحل والايديولوجيات سواء من
السماوية أو من غيرها؛ دخلوا الى الاسلام طواعية
تاركين معتقداتهم السابقة، طوعا واقتناعا بدين الاسلام، دون ان
يُمارس أي ضغط أو اكراه عليهم في ذلك بل عن قناعة تامة بالإسلام
الذي تمأسس على ثيمة التسامح الحنيف وما وجدوه عند المسلمين من
قيم تسامحية فعالة.
ولكن....... ! كل ذلك لم يشفع
للإسلام من نظرة العالم الغربي الذي بقي ينظر اليه والى المسلمين
عكس هذه النظرة ويتصور الاسلام غير هذا التصور، وغير ذلك، توجد
الكثير من المفاهيم الخاطئة والمقلوبة التي رسمها الغرب عن
الاسلام، وما ذلك غلا بفعل ادبيات الاسلام السياسي أولا؛ وادبيات
الإسلام المعاكس والمقلوب ثانيا، وهي ادبيات كتبت بمداد وعاظ
السلاطين والمرتزقة المتسكعين على أبواب الملوك؛ فأنتج لنا تصورات
عائمة ومغلوطة عن الاسلام وحرّفت تلك المفاهيم الى درجة كارثية،
صًور فيها الاسلام على أنه دين يعتمد على الذبح وقطع الرؤوس
والايدي والسبي والاغتصاب وهتك الاعراض والحرق فضلا عن التمدد
بحدود الدولة الى آفاق غير متناهية وبما يشبه شهية الحكام
المتسلطين بالمحتلين الغزاة والبرابرة المتوحشين (وليس الشعوب
المغلوب على امرها) فنتجت عندنا أيدولوجيتان متناقضتان؛ احداهما
تخالف الأخرى، الاولى تمثل الماكنة الاعلامية الحكومية الهائلة
(إعلام السلطة)؛ والثانية اعلام الشعوب الاسلامية المغلوب على
امرها والتي لم توّفق في تقديم وجهة نظر اخرى مغايرة للإعلام
الحكومي؛ فترسخت الصورة المنقولة عن الاعلام الحكومي المكتوب
بمداد وعاظ السلاطين والمنافقين لتكون المصدر الوحيد والرئيس
ليستقي منه الغرب تصوراته الخاطئة عن الاسلام كدين سماوي حنيف؛
فكان هذا الاعلام السلطوي المشوّه هو المصدر لذلك؛ تاركا الاعلام
الاسلامي الاصيل المكتوب بمداد الاسلام المحمدي الاصيل القريب مما
نقله آل بيت النبي صلوات الله تعالى عليهم اجمعين، لأنه المنبع
الوحيد لرسم صورة حقيقية عن الاسلام الاصيل كصورة عقلانية عن
الاسلام ومقنعة للعقل الغربي كي يستوعب الإسلام كما هو، أي كدين
خاتم وحضارة استوعبت كل الاثنيات والقوميات في العالم دون
فرق.
من جهة اخرى، فقد حفل القرآن
الكريم بالكثير من الثيمات التي تدل على التسامح ابتداء من
(........وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَلَا تَنسَوُا
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ))(سورة البقرة ـ 273) فالتقوى بالمفهوم الاسلامي هي اقرب
للإيمان وهي جوهر الايمان بالله سبحانه وتعالى، وفقا لقوله تعالى:
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ
وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ خَبِيرٌ))(سورة الحجرات ـ 13)؛ فالأتقى هو الافضل والاكثر
ايمانا والأقرب لله، وما الى ذلك، تسامحا اذ ربط ذلك الجوهر
الاساس بالعفو الذي هو التسامح كشرط لا بد منه وكشرط لينتقل منه
نحو تأسيس ثيمات التقارب بين البشر مهما اختلفوا؛ وهذا لا
يعني التنازل عن الحقوق والمبادئ بل يكون متأسيا بالسيرة العطرة
للنبي محمد صلوات الله تعالى عليه آله، والائمة عليهم الصلاة
والسلام الذين خلفوه وهم اثنا عشر إماما يمثلون الوجه الحقيقي
للإسلام المحمدي الاصيل وسيرتهم كانت مليئة بالقصص والإشارات
والامثلة التي تؤكد أن الاسلام هو دين التسامح حتى مع الاعداء
والمخالفين؛ وما قصة النبي الأكرم محمد بن عبد الله صلوات الله
تعالى عليه آله، وعفوه عن اعدائه من اهل مكة يوم الفتح
وفتحه للكعبة المشرفة بعد ان طهّرها من الاوثان واستلام مقاليد
الامور فيها؛ منتصرا وتركه عقوبة اعدائه الذين قال لهم: "اذهبوا
انتم الطلقاء"، ولم يرتكب اي عقوبة ضد أي أحد؛ وهم الذين اخرجوه
وجماعته من ديارهم وصادروا حقوقهم واموالهم ونفوهم الى شعب ابي
طالب حيث عانوا المجاعة والحرمان والمذلة الى ان ماتت زوجه خديجة
وعمه ابو طالب ضروان الله تعالى عليهما، ومن ثم النفي الى خارج
الوطن حيث الحبشة وملكها النجاشي العادل الرحيم.. وبعد كل هذه
المعاناة واراقة الدماء والتعسف والظلم يقول لهم النبي الأكرم
محمد صلوات الله تعالى عليه وآله: "اذهبوا انتم الطلقاء"، وهو
المنتصر ويستطيع أن يفعل بهم ما يشاء، أسوق هذا المثل لتوضيح
الحقيقة الغائبة عن أعين الكثير من الغربيين ممن يتهم الإسلام
بالعنف، ويجره حيث الإرهاب، وللتأكيد على ان الإسلام المحمدي
الاصيل الذي حمل لواءه آل بيت النبي صلوات الله تعالى
عليهم والمبني على ثيمة (وان تعفوا اقرب للتقوى)، وهي الصورة التي
ينبغي للناس جميعهم خاصة الغرب تصفّحها مهما كانوا؛ عكس تلك
الصورة التي حملت الكثير من التزييف والتزويق والتحريف والفبركة
والتحامل والمليئة بالإشارات السلبية على الاسلام ونبيه محمد
صلوات الله تعالى عليه وآله وتاريخه الناصع البعيد عن تلك الصورة
المقلوبة التي حملت سيميائيات الذبح والدماء وقطع الرؤوس وهتك
الاعراض والتمدد الى خارج الحدود باحتلال وقضم ما يمكن قضمه من
ارض الله الواسعة.
فاطمة الناظم