| مقالات في القرآن الكريم | التكريم القرآني للإنسان.. قراءة للنزعة الإنسانية في الخطاب القرآني
2022-08-12 1025
التكريم القرآني للإنسان.. قراءة للنزعة الإنسانية في الخطاب القرآني
ينزع القرآن الكريم نزعة خطابية
تكريمية لافتة للنظر في توجيه خطابه للإنسان، إذ يعتبر القرآن
الإنسان؛ النوع الأكرم والخلق الأعظم، فيمجده في موارد عدة، يكرمه
ويُبجله، يُطريه ويمدحه، ومن ذلك قوله تعالى: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا
بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ
مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا))(سورة الإسراء ـ 70).
وإن رد راد على ذلك، بالقول: من الطبيعي أن يكرم القرآن الكريم؛ الإنسان؛ لأنه هو المقصود من هذا الخطاب دون سواه، فيكون الرد بالنفي! خصوصا إذا ما عرفنا إن ثمة مخلوقات أخرى مكلفة كذلك، ومنها الجن مثلا، ((قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا(7))(سورة الجن ـ 1 ـ 7)، أي إن الجن هم الأخرين مكلفين كما الأنس، حسب قوله تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ(57))(سورة الذاريات ـ 56 ـ57)، وقوله تعالى: ((وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29)قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(31))(سورة الأحقاف ـ 29 ـ 31)، وقوله تعالى: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا))(سورة الأنعام ـ 130)، وبالتالي فأن أمم أخرى مكلفة بالتشريع ومقصودة من الخطاب القرآني، كالجن وغيرها، ومع ذلك فثمة تفضيل من القرآن للإنسان، على نحو التكريم، حيث كرم الله جل شأنه ـ من خلال الخطاب القرآني ـ الإنسان وفضله على سائر المخلوقات كما في الآية الشريفة مدخل قولنا هذا.
والأصل في هذا التفضيل هو تأصيل كرامة الإنسان، أي أن الأصل في الأنسان هو الكرامة، وهي صفته الملازمة بغضّ النظر عن لونه وعرقه ومسماه، ولا يمكن بأي حال من الأحوال؛ سلبها منه أو هتكها او تحقيرها، لأن هذا التكريم أصيل من الله سبحانه، وليس مكتسب لظرف او حال ما.
وإمعانا في تكريم النوع الخلقي هذا ـ الإنسان ـ، أستخدم القرآن الكريم لفظة عامة، وهي التعبير بـ (بني أدم)، وهم كل من ولد لأدم وحواء، وبالتالي لم يحصر خطابه لجماعة دون أخرى، او لعصبة دون سواها، وهو بذلك يؤكد على أمرين اثنين، الأول في كون هذا التكريم والكرامة الإلهية للإنسان أصيلة متأصلة في نوعه، في حين أن الأمر الثاني يؤكد على إنها لكل من هو من بني أدم، وبدون قيد و شرط.
وثمة حكمة ربانية في ذلك، قوامها إن هذه الكرامة أسبق وألصق بالإنسان من أي عارض لاحق، سواء كان باللون او الجنس او الدين أو أي تمييز أخر، وبالتالي فأن أي عارض غير إنسانية الإنسان، لا يمكن له سلب كرامته هذه ولا يمكن لأي قوة مهما كانت أن تجرده منها، لأن هذا التكريم إنما هو من الخالق المبدع، وأنه جل شأنه هو مصدر هذه الكرامة، وبالتالي الراعي والحامي لها، بل وإنه أكرمه بها دون سائر خلقه ـ على عظمتهم وعظيم هيئتهم ـ.
من جهة أخرى، يتضمن الخطاب الإلهي في قوله ((وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)) إلزاما بقبول هذا التفضيل، بل وتأكيدا على الإنسان نفسه بأن يراعي أفضليته هذه، وبالتالي فهو ـ الإنسان ـ مطالب بالحفاظ على كرامته وافضليته على باقي الخلق، ولا يتنازل عنها مهما كان الداعي والسبب، لأنها من خالقه وليس منّة من احد، خصوصا وأنه خليفة الله على أرضه في جدلية النفي والإثبات التي حدثت بين الله جل شأنه وملائكته بعد أن أمرهم بالسجود لأم (الإنسان)، والمبينة في قوله تعالى: ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34))(سورة البقرة ـ 30 ـ34).
وإمعانا في النزعة الإنسانية للقرآن الكريم، جاءت السور والآيات القرآنية الشريفة بأسلوب الخطاب، والخطاب كما هو معروف من متلازمات العقل، وبالتالي فأن عقل الإنسان، هو دليل أخر عن التكريم الإلهي لهذا النوع، فهو نبيه الباطن ورسوله الجواني، قبالة النبي والرسول الحقيقي صلوات الله عليهم أجمعين، وبمعنى أدق؛ أن خلق الإنسان عاقلا دون سواه من المخلوقات، ومن ثم تحكيمه لعقله ومطالبته بإعماله، ومنحه حق الاختيار: ((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا))(سورة الإنسان ـ 3)، هو دليل أخر على افضليته من غيره، وكرامته عند خالقه، بمعنى أنه يختلف عن باقي الخلق ممن جُبل على الطاعة مثلا أو التسبيح وما الى ذلك، لأنه ـ الإنسان ـ قد مُنح حق الاختيار بناءً على مقتضيات تعقله وإعماله لمعارفه ومدخلات عقله، فضلا عما اتسم به من قدرة على الترقي والارتقاء في مدارج التكامل.
وقد تميز القرآن الكريم عن سائر الكتب السماوية في إلحاحه على تفعيل العقل الإنساني، وبالتالي تأكيده على النزعة الإنسانية في هذا الكائن، حيث أمر الله الإنسان كثيرا في إعمال عقله، كقوله تعالى: ((لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ))(سورة الأنبياء ـ10)، وقوله تعالى: ((وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))(سورة النحل ـ12)، ((ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِّنْ أَنفُسِكُمْ ۖ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))(سورة الروم ـ 28)، وغير ذلك المئات من دعوات التعقل وإعمال الفكر واشغال العقل بالله وما خلق مما، أمر به القرآن الكريم الإنسان.
ومما يُثبت تكريم الله جل شأنه للإنسان، جملة امتيازات تُبينها بعض من الآيات الشريفات أدناه، إذ إن خلق الإنسان كان بفعل من يده جل شأنه، (( ... مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ... ))(سورة ص ـ75)، وتعبير (خلقت بيدي) لا يراد به الجسمانية لله تنزه عن ذلك؛ إنما المراد كناية عن اهتمامه البالغ جل شأنه في خلق هذه الكائن والإبداع في صنعه؛ كما أنه روحه من روحِه جل شأنه ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ))(سورة الحجر ـ 28 ـ29)، وما هذه النفخة من روح الله إلا كناية لعلاقة هذا المخلوق بالملأ الأعلى، مع ما له من خصائص مادية كطبيعة خلقه من التراب، وبالتالي فأن روحه المنفوخة من روح الله جل شأنه تُثبت بأن له ـ الإنسان ـ جنبة سماوية غير الجنبة الأرضية.
كما إن هذا الإنسان حامل لأمانة ربه جل شأنه، دون باقي الخلق الذين اشفقوا من حملها؛ ((إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا))(سورة الأحزاب)، وأنه قد تعلم العلم من لدن الله مباشرة ((وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ))(سورة البقرة ـ 31 ـ33)، والأسماء هنا كناية عن قدرة أدم (المخلوق النوعي) على معرفة مكنونات الأشياء وذواتها وخاصّيّاتها وآثارها في تطوير الحياة؛ وأبعد من ذلك، هو أمر الله سبحانه بسجود الملائكة لهذا الإنسان (( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا .... ))(سورة البقرة 34) كإخضاع من الله جل شأنه لجميع القوى النورانية والقريبة منه؛ لهذا المخلوق، ثم استخلافه على الأرض وما فيها ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً))(سورة البقرة ـ30)، فضلا عن تسخير باقي الخلق له ((وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ))(سورة الجاثية ـ 13)، وأخيرا فأن الله قد بارك لنفسه في هذا الخلق العظيم يوم قال جل شأنه: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ(15))(سورة المؤمنون ـ 12 ـ15)، وهذا ما يجعل من الإنسان سر الخليقة وسر الخالق جل شانه.
وإن رد راد على ذلك، بالقول: من الطبيعي أن يكرم القرآن الكريم؛ الإنسان؛ لأنه هو المقصود من هذا الخطاب دون سواه، فيكون الرد بالنفي! خصوصا إذا ما عرفنا إن ثمة مخلوقات أخرى مكلفة كذلك، ومنها الجن مثلا، ((قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا(7))(سورة الجن ـ 1 ـ 7)، أي إن الجن هم الأخرين مكلفين كما الأنس، حسب قوله تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ(57))(سورة الذاريات ـ 56 ـ57)، وقوله تعالى: ((وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29)قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(31))(سورة الأحقاف ـ 29 ـ 31)، وقوله تعالى: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا))(سورة الأنعام ـ 130)، وبالتالي فأن أمم أخرى مكلفة بالتشريع ومقصودة من الخطاب القرآني، كالجن وغيرها، ومع ذلك فثمة تفضيل من القرآن للإنسان، على نحو التكريم، حيث كرم الله جل شأنه ـ من خلال الخطاب القرآني ـ الإنسان وفضله على سائر المخلوقات كما في الآية الشريفة مدخل قولنا هذا.
والأصل في هذا التفضيل هو تأصيل كرامة الإنسان، أي أن الأصل في الأنسان هو الكرامة، وهي صفته الملازمة بغضّ النظر عن لونه وعرقه ومسماه، ولا يمكن بأي حال من الأحوال؛ سلبها منه أو هتكها او تحقيرها، لأن هذا التكريم أصيل من الله سبحانه، وليس مكتسب لظرف او حال ما.
وإمعانا في تكريم النوع الخلقي هذا ـ الإنسان ـ، أستخدم القرآن الكريم لفظة عامة، وهي التعبير بـ (بني أدم)، وهم كل من ولد لأدم وحواء، وبالتالي لم يحصر خطابه لجماعة دون أخرى، او لعصبة دون سواها، وهو بذلك يؤكد على أمرين اثنين، الأول في كون هذا التكريم والكرامة الإلهية للإنسان أصيلة متأصلة في نوعه، في حين أن الأمر الثاني يؤكد على إنها لكل من هو من بني أدم، وبدون قيد و شرط.
وثمة حكمة ربانية في ذلك، قوامها إن هذه الكرامة أسبق وألصق بالإنسان من أي عارض لاحق، سواء كان باللون او الجنس او الدين أو أي تمييز أخر، وبالتالي فأن أي عارض غير إنسانية الإنسان، لا يمكن له سلب كرامته هذه ولا يمكن لأي قوة مهما كانت أن تجرده منها، لأن هذا التكريم إنما هو من الخالق المبدع، وأنه جل شأنه هو مصدر هذه الكرامة، وبالتالي الراعي والحامي لها، بل وإنه أكرمه بها دون سائر خلقه ـ على عظمتهم وعظيم هيئتهم ـ.
من جهة أخرى، يتضمن الخطاب الإلهي في قوله ((وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)) إلزاما بقبول هذا التفضيل، بل وتأكيدا على الإنسان نفسه بأن يراعي أفضليته هذه، وبالتالي فهو ـ الإنسان ـ مطالب بالحفاظ على كرامته وافضليته على باقي الخلق، ولا يتنازل عنها مهما كان الداعي والسبب، لأنها من خالقه وليس منّة من احد، خصوصا وأنه خليفة الله على أرضه في جدلية النفي والإثبات التي حدثت بين الله جل شأنه وملائكته بعد أن أمرهم بالسجود لأم (الإنسان)، والمبينة في قوله تعالى: ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34))(سورة البقرة ـ 30 ـ34).
وإمعانا في النزعة الإنسانية للقرآن الكريم، جاءت السور والآيات القرآنية الشريفة بأسلوب الخطاب، والخطاب كما هو معروف من متلازمات العقل، وبالتالي فأن عقل الإنسان، هو دليل أخر عن التكريم الإلهي لهذا النوع، فهو نبيه الباطن ورسوله الجواني، قبالة النبي والرسول الحقيقي صلوات الله عليهم أجمعين، وبمعنى أدق؛ أن خلق الإنسان عاقلا دون سواه من المخلوقات، ومن ثم تحكيمه لعقله ومطالبته بإعماله، ومنحه حق الاختيار: ((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا))(سورة الإنسان ـ 3)، هو دليل أخر على افضليته من غيره، وكرامته عند خالقه، بمعنى أنه يختلف عن باقي الخلق ممن جُبل على الطاعة مثلا أو التسبيح وما الى ذلك، لأنه ـ الإنسان ـ قد مُنح حق الاختيار بناءً على مقتضيات تعقله وإعماله لمعارفه ومدخلات عقله، فضلا عما اتسم به من قدرة على الترقي والارتقاء في مدارج التكامل.
وقد تميز القرآن الكريم عن سائر الكتب السماوية في إلحاحه على تفعيل العقل الإنساني، وبالتالي تأكيده على النزعة الإنسانية في هذا الكائن، حيث أمر الله الإنسان كثيرا في إعمال عقله، كقوله تعالى: ((لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ))(سورة الأنبياء ـ10)، وقوله تعالى: ((وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))(سورة النحل ـ12)، ((ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِّنْ أَنفُسِكُمْ ۖ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))(سورة الروم ـ 28)، وغير ذلك المئات من دعوات التعقل وإعمال الفكر واشغال العقل بالله وما خلق مما، أمر به القرآن الكريم الإنسان.
ومما يُثبت تكريم الله جل شأنه للإنسان، جملة امتيازات تُبينها بعض من الآيات الشريفات أدناه، إذ إن خلق الإنسان كان بفعل من يده جل شأنه، (( ... مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ... ))(سورة ص ـ75)، وتعبير (خلقت بيدي) لا يراد به الجسمانية لله تنزه عن ذلك؛ إنما المراد كناية عن اهتمامه البالغ جل شأنه في خلق هذه الكائن والإبداع في صنعه؛ كما أنه روحه من روحِه جل شأنه ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ))(سورة الحجر ـ 28 ـ29)، وما هذه النفخة من روح الله إلا كناية لعلاقة هذا المخلوق بالملأ الأعلى، مع ما له من خصائص مادية كطبيعة خلقه من التراب، وبالتالي فأن روحه المنفوخة من روح الله جل شأنه تُثبت بأن له ـ الإنسان ـ جنبة سماوية غير الجنبة الأرضية.
كما إن هذا الإنسان حامل لأمانة ربه جل شأنه، دون باقي الخلق الذين اشفقوا من حملها؛ ((إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا))(سورة الأحزاب)، وأنه قد تعلم العلم من لدن الله مباشرة ((وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ))(سورة البقرة ـ 31 ـ33)، والأسماء هنا كناية عن قدرة أدم (المخلوق النوعي) على معرفة مكنونات الأشياء وذواتها وخاصّيّاتها وآثارها في تطوير الحياة؛ وأبعد من ذلك، هو أمر الله سبحانه بسجود الملائكة لهذا الإنسان (( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا .... ))(سورة البقرة 34) كإخضاع من الله جل شأنه لجميع القوى النورانية والقريبة منه؛ لهذا المخلوق، ثم استخلافه على الأرض وما فيها ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً))(سورة البقرة ـ30)، فضلا عن تسخير باقي الخلق له ((وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ))(سورة الجاثية ـ 13)، وأخيرا فأن الله قد بارك لنفسه في هذا الخلق العظيم يوم قال جل شأنه: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ(15))(سورة المؤمنون ـ 12 ـ15)، وهذا ما يجعل من الإنسان سر الخليقة وسر الخالق جل شانه.
الأكثر قراءة
26188
18710
13917
10790