2019-02-27 2461
السيد محمّد سعيد الحبوبي... الشاعر المجاهد
عندما قامت الحرب العالمية الأولى
عام 1914 وأعلنت الحكومة العثمانية الحرب على الحلفاء، أعلن
المسلمون في العراق الجهاد والزحف لمحاربة جيوش الانكليز التي نزلت
في البصرة، وقد رفع لواء الجهاد السيد محمد سعيد الحبوبي وقاد
جموعاً من المجاهدين حيث دارت بينهم وبين الجيش البريطاني في
(الشعيبة) معركة ضارية وقد أرسل أبو المعز السيد محمد الحسيني
القزويني وهو أحد العلماء الذين أعلنوا الجهاد وباركوا هذا الزحف
رسالة إلى الحبوبي يقوي فيها من عزيمة المجاهدين ويحثهم في الدفاع
عن أرضهم ومقدساتهم وختمها بقوله:
نحنُ بني العربِ ليوث الوغى دينُ الهدى فينا قويٌّ عزيز
لا بد أن نزحفَ في جحفـــــلٍ نبيـــــدُ فيه جحفلَ الإنكليز
ولم ينهض الحبوبي وحده من بين العلماء للجهاد، وإنما شاركه معظم المجتهدين مشاركة فعلية فخاضوا خلالها المعارك بأنفسهم فكان من بين العلماء المجاهدين شيخ الشريعة الأصفهاني والسيد علي الداماد والمولى محمد حسين القمشهي الكبير والقمشهي الصغير والسيد محمد حسين عبد العظيم والشيخ باقر جيلة والسيد ابو القاسم الكاشاني وغيرهم كثيرون.
وكان الحبوبي في طليعة هؤلاء العلماء المجاهدين، فقد قاد جيشاً جرّاراً عسكر به في الشعيبة بلغ عدده تسعين ألف مجاهد، وخاض به معارك شرسة أبدى فيها الثوار بطولاتهم وشجاعتهم في مقارعة الاحتلال، ولما اندحرت جيوش الأتراك وانزاحت عن مراكزها وآل الأمر إلى الانسحاب والجلاء عن العراق بعد معارك طويلة لم تصمد جموع المجاهدين ــ رغم استبسالها ــ أمام الجيش الانكليزي الذي يفوقها في العدة والعدد، فعاد الحبوبي إلى ناصرية المنتفك لاستنهاض العشائر وحثهم على الجهاد من جديد، لكن الأجل فاجأه في الناصرية وذلك في أوائل شعبان 1333هـ / 1915م فحُمل إلى النجف الأشرف بتشييع عظيم ودفن حيث مقبرته المشهورة في الصحن الحيدري الشريف.
وكان لوفاته في العراق كله صدىً كبيراً وأسىً عميقاً وقد رثاه كبار الشعراء وأعلام الأدباء في العراق منهم الشيخ جواد الشبيبي الذي يقول في رثائية أرّخ فيها وفاة الحبوبي:
فقيد المسلمين غداة أودى حسبــت الدين بينهم فقيدا
لئن وجدوه للداعي مجيباً فقـــــد فقدوه قرآناً مجيدا
وإن شهدته أعينهم سعيداً فقد حملته أرؤسهم شهيدا
تقدم للجهاد أمير ديــــــن وساق المسلمين له جنودا
ومذ لاقى المنية أرّخــوه (سعيد في الجهاد قضى سعيدا)
كما رثاه الشاعر الكبير علي الشرقي بقصيدة نقتطف منها هذه الأبيات:
وشاؤوك للأوطان ظهراً ممنّعـــــاً وما شعروا إلا بقاصمة الظهرِ
وكم خطوة للمجد قمت بسعيهــــــا تقصر من إدراكها خطوة الخضرِ
وكم ليلة ماليلة القدر مثلهــــــــــــا ووجهك في آفاقنا مطلع الفجرِ
مضى منعة الأبصار وجهاً مباركاً نقياً كقرص البدر أو طبق الزهرِ
من خلال هذه الإطلالة المشرقة من الجانب الجهادي للسيد الحبوبي آثرنا أن ندخل باب التعرف على المجاهد والشاعر الكبير محمد سعيد الحبوبي الذي وجدناه شخصية تعددت فيها المآثر وتنوعت فيها الجوانب المشرقة، فحريٌّ بنا أن نطالع سفر حياته المليء بالعلم والجهاد والأدب وهو قمين بذلك.
ولد السيد محمد سعيد ابن السيد محمود ابن السيد حمزة ابن السيد مصطفى (جد الحبوبي) في النجف الأشرف سنة (1266هـ/1849م)، وأسرة الحبوبي أسرة عربية ينتهي نسبها الشريف إلى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام وينحدر أصل هذه الأسرة من الحجاز حيث لا يزال كثير منهم يسكن هناك، أما في العراق فهم ينتشرون بين السماوة والنعمانية والنجف وغيرها من المدن العراقية، ومعظم رجال هذه الأسرة يمتهنون التجارة.
نشأ الحبوبي على ما ينشأ عليه لدّاته في المجالس العلمية والأدبية في النجف الأشرف ولا يخفى ما لهذه النشأة من أثر كبير في تكوين شخصية الانسان فهذه البيئة العلمية والمحيط الأدبي قد رفدا العالم الإسلامي بالمئات من كبار العلماء الأعلام وفحول الشعراء والأدباء والمفكرين والنوابغ والدعاة فضلاً عن ذلك فقد اجتمعت لدى الحبوبي كثير من المواهب والمؤهلات التي كانت السبل للرقي والنبوغ العلمي والأدبي.
درس الحبوبي الأخلاق والرياضيات عند العلامة الكبير ميرزا حسين قُلي ودرس الفقه والأصول عند الأستاذ الكبير الشيخ محمد حسين الكاظمي وبعد وفاة هذا الأستاذ حضر الحبوبي دروس الشيخ محمد طه نجف وقد أشاد هذا الأستاذ الكبير بعلمية الحبوبي ومنزلته بكلمات كثيرة ثم انقطع الحبوبي للتأليف والتدريس وقد تخرج على يديه الكثير من طلاب العلم وكبار العلماء والمجتهدين، كما ترك آثاراً وكتابات في الأصول والفقه لم يطبع منها سوى ديوان شعره.
وإذا رأينا الحبوبي طوداً في علمه وفقهه فإننا نلفيه بحراً زاخراً بأدبه وشعره ويشهد له ديوانه وهو السفر الأدبي على صدارته الشعرية في عصره بالرغم مما كانت تضم مدينة النجف الاشرف في ذلك الوقت من فطاحل الشعر ونوابغ الأدب أمثال السيد جعفر الحلي والسيد موسى الطالقاني والشيخ عباس القرشي والشيخ محسن الخضري وغيرهم.
امتاز شعر الحبوبي بدقة الوصف وجودة السبك وحسن الاختيار في الصورة الشعرية إضافة إلى ذلك جمال الأسلوب وجزالة التراكيب كما كان متميزاً باختياره لمطلع القصيدة ليكون لوحة رائعة متكاملة فلنستمع إلى مطلع مرثيته للسيد حيدر الحلي بقيثارته الحزينة والتي لا يخالج القارئ الشك في أنه يستمع إلى مرثية لأحد كبار شعراء العصر العباسي يقول الحبوبي:
أبِنْ ليَ نجوى لو تطيق بيانــــــا ألستَ لعدنـــــانٍ فماً ولسانا
وأبلغ خطاباً فالبلاغة سلِّمــــــت لكفيــــك منها مقوداً وعنانا
وجلْ يا جوادَ السبقِ في حلباتِها فهاشم سامت للسباتِ رهانا
ورغم طول القصيدة ـ 85 بيتاً ـ إلا أنها لا تفقد تأثيرها وروعتها لدى القارئ حيث تكاملت فيها جميع الخصائص الرثائية ولعل شخصية المرثي له قد ساعدت في هذا التكامل يقول الحبوبي:
أغيث الأيادي قد تقشّـــــــــــــع غيثهـــــا وحين المعادي كيف حينكَ حانا
صرعتَ وما خلتُ الردى يصرعُ الردى لعمري وما يفني الزمانُ زمانا
فيا صارماً لاقى من الموتِ صارمــــــــاً بلـــــــى وسناناً ذاق منه سنانا
ثم تدور أبيات القصيدة الأخرى حول الإحساس بالفقد ويشيع فيها جو من الحزن والأسى يجعلها وحدة عضوية واحدة:
أجدّك علّمني لوصلكَ حيلـــــــةً فأنتَ الذي علّمتني الهيمانا
وهب أن سمعي نافع بحديثكــــم أللعين معنىً أو تراكَ عيانا
ولا أسفاً ما أن مضى الدهر كلّه هباءً إذا أبصرتُ وجهكَ آنا
والمطالع لديوان الحبوبي يجد أن أغلب قصائد الديوان تصب في مصب الغزل والنسيب وقد أبدع الحبوبي في هذا الباب أيما إبداع حيث فاق شعراء عصره في هذا الباب فكانت ألفاظه وأساليبه فيها الكثير من الأصالة والجودة والرقة والعذوبة ولا يخفى أن الشاعر يطرق في شعره جميع الأغراض حيث أن الذي ساد أغلب القصائد في الشعر العربي القديم هو المقدمة الغزلية وقد يبدأ الشاعر مقدمته بهذا الباب حتى وإن كانت رثائية أو في باب المدح ويجود خياله له بأسماء وهمية يتغزل بها في هذه المقدمة كـ(دعد) و (هند) و (سعاد) كما في قصيدة كعب بن زهير المشهورة والتي أنشدها أمام النبي (ص) في مدحه والتي يقول فيها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ متيمٌ بعدها لم يفد مكبولُ
هيفاء مقبلة عجزاء مدبـــــرة لا يشتكى قصر منها ولا طولُ
وقد جرى الشعراء في عصر الحبوبي على هذه الطريقة فكان الشاعر يتفنن في أغراض الشعر ويطرق جميع أبوابه ومنها باب الغزل لكي يبرهن أنه ذو مقدرة في هذا الباب ويؤكد الحبوبي هذا وينبئ عن مركزه في العفة بقوله في (موشح):
لا تخل ويكَ ومن يسمع يخــل إنني بالراحِ مشغوفُ الفؤاد
أو بمهظوم الحشا ساهي المقل أخجلت قامته سمر الصعاد
أو بربات خدور وكــــــــــــلل يتفنـــــــــــــنّ بقرب وبعاد
وقوله:
إن لي من شرفي برداً ضفا هو من دون الهوى مرتهني
غير أني رمت نهج الظرفا عفــــة النفس وفسق الألسن
ولم تكن إجادته في هذا الباب وحده فمن يطالع رثائياته يجده قد تفرد بهذا الفرض بإسلوبه الرائق المشجي يقول في إحداها راثياً أحد علماء الدين في النجف الأشرف:
نزعتك من يدها قريش صقيلا وطوتك فذاً بل طوتك قبيلا
فجعت بفقدك واحداً فكأنمــــــا فجعت بآل النظر جيلاً جيلا
وتذكرت في يوم فقدك فقدهــا مضراً فأوصلت العويل عويلا
كما تعددت الأغراض بين ثنايا شعره وتنوعت المعاني في وصف وتصوير الطبيعة ونعت لمشاهد الكون يقول من قصيدة طرق فيها باب الفلسفة الأدبية:
سماء اليوم مثل سماء أمس وما نقصت سموّاً وارتفاعا
وليس بضائر المسك استتارٌ إذا ما عرفه الداريّ ضاعا
وما غبّ البطاح السيل إلا مذ أخضرّت بمجراه بقاعا
ونقتطف هذه الصورة الأسطورية من إحدى قصائده الرثائية:
والموت موعد من تمادى عمره والدهر منجز وعده الموعودِ
ولسوف يقتطف الثريا إذ غـدت تلتــــــام في شبه من العنقودِ
ويدوس سنبله السماء وينثنــــي من زرع أنجمها بكل حصيدِ
ويصيد نسر النجم من أوكاره بشباك مقتنص وفخ مصيدِ
ولعل الموضوع لا يتسع لذكر أكثر مما ذكرناه من أبيات متفرقة لكن يجدر بنا أن ننوه الى أن الحبوبي ترك الشعر نهائياً قبل أن يدركه الموت بثمان وعشرين سنة حيث تفرغ كلياً لما كان يتطلبه الدين الحنيف من فقه وأصول وعلوم إسلامية.
محمد طاهر الصفار
نحنُ بني العربِ ليوث الوغى دينُ الهدى فينا قويٌّ عزيز
لا بد أن نزحفَ في جحفـــــلٍ نبيـــــدُ فيه جحفلَ الإنكليز
ولم ينهض الحبوبي وحده من بين العلماء للجهاد، وإنما شاركه معظم المجتهدين مشاركة فعلية فخاضوا خلالها المعارك بأنفسهم فكان من بين العلماء المجاهدين شيخ الشريعة الأصفهاني والسيد علي الداماد والمولى محمد حسين القمشهي الكبير والقمشهي الصغير والسيد محمد حسين عبد العظيم والشيخ باقر جيلة والسيد ابو القاسم الكاشاني وغيرهم كثيرون.
وكان الحبوبي في طليعة هؤلاء العلماء المجاهدين، فقد قاد جيشاً جرّاراً عسكر به في الشعيبة بلغ عدده تسعين ألف مجاهد، وخاض به معارك شرسة أبدى فيها الثوار بطولاتهم وشجاعتهم في مقارعة الاحتلال، ولما اندحرت جيوش الأتراك وانزاحت عن مراكزها وآل الأمر إلى الانسحاب والجلاء عن العراق بعد معارك طويلة لم تصمد جموع المجاهدين ــ رغم استبسالها ــ أمام الجيش الانكليزي الذي يفوقها في العدة والعدد، فعاد الحبوبي إلى ناصرية المنتفك لاستنهاض العشائر وحثهم على الجهاد من جديد، لكن الأجل فاجأه في الناصرية وذلك في أوائل شعبان 1333هـ / 1915م فحُمل إلى النجف الأشرف بتشييع عظيم ودفن حيث مقبرته المشهورة في الصحن الحيدري الشريف.
وكان لوفاته في العراق كله صدىً كبيراً وأسىً عميقاً وقد رثاه كبار الشعراء وأعلام الأدباء في العراق منهم الشيخ جواد الشبيبي الذي يقول في رثائية أرّخ فيها وفاة الحبوبي:
فقيد المسلمين غداة أودى حسبــت الدين بينهم فقيدا
لئن وجدوه للداعي مجيباً فقـــــد فقدوه قرآناً مجيدا
وإن شهدته أعينهم سعيداً فقد حملته أرؤسهم شهيدا
تقدم للجهاد أمير ديــــــن وساق المسلمين له جنودا
ومذ لاقى المنية أرّخــوه (سعيد في الجهاد قضى سعيدا)
كما رثاه الشاعر الكبير علي الشرقي بقصيدة نقتطف منها هذه الأبيات:
وشاؤوك للأوطان ظهراً ممنّعـــــاً وما شعروا إلا بقاصمة الظهرِ
وكم خطوة للمجد قمت بسعيهــــــا تقصر من إدراكها خطوة الخضرِ
وكم ليلة ماليلة القدر مثلهــــــــــــا ووجهك في آفاقنا مطلع الفجرِ
مضى منعة الأبصار وجهاً مباركاً نقياً كقرص البدر أو طبق الزهرِ
من خلال هذه الإطلالة المشرقة من الجانب الجهادي للسيد الحبوبي آثرنا أن ندخل باب التعرف على المجاهد والشاعر الكبير محمد سعيد الحبوبي الذي وجدناه شخصية تعددت فيها المآثر وتنوعت فيها الجوانب المشرقة، فحريٌّ بنا أن نطالع سفر حياته المليء بالعلم والجهاد والأدب وهو قمين بذلك.
ولد السيد محمد سعيد ابن السيد محمود ابن السيد حمزة ابن السيد مصطفى (جد الحبوبي) في النجف الأشرف سنة (1266هـ/1849م)، وأسرة الحبوبي أسرة عربية ينتهي نسبها الشريف إلى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام وينحدر أصل هذه الأسرة من الحجاز حيث لا يزال كثير منهم يسكن هناك، أما في العراق فهم ينتشرون بين السماوة والنعمانية والنجف وغيرها من المدن العراقية، ومعظم رجال هذه الأسرة يمتهنون التجارة.
نشأ الحبوبي على ما ينشأ عليه لدّاته في المجالس العلمية والأدبية في النجف الأشرف ولا يخفى ما لهذه النشأة من أثر كبير في تكوين شخصية الانسان فهذه البيئة العلمية والمحيط الأدبي قد رفدا العالم الإسلامي بالمئات من كبار العلماء الأعلام وفحول الشعراء والأدباء والمفكرين والنوابغ والدعاة فضلاً عن ذلك فقد اجتمعت لدى الحبوبي كثير من المواهب والمؤهلات التي كانت السبل للرقي والنبوغ العلمي والأدبي.
درس الحبوبي الأخلاق والرياضيات عند العلامة الكبير ميرزا حسين قُلي ودرس الفقه والأصول عند الأستاذ الكبير الشيخ محمد حسين الكاظمي وبعد وفاة هذا الأستاذ حضر الحبوبي دروس الشيخ محمد طه نجف وقد أشاد هذا الأستاذ الكبير بعلمية الحبوبي ومنزلته بكلمات كثيرة ثم انقطع الحبوبي للتأليف والتدريس وقد تخرج على يديه الكثير من طلاب العلم وكبار العلماء والمجتهدين، كما ترك آثاراً وكتابات في الأصول والفقه لم يطبع منها سوى ديوان شعره.
وإذا رأينا الحبوبي طوداً في علمه وفقهه فإننا نلفيه بحراً زاخراً بأدبه وشعره ويشهد له ديوانه وهو السفر الأدبي على صدارته الشعرية في عصره بالرغم مما كانت تضم مدينة النجف الاشرف في ذلك الوقت من فطاحل الشعر ونوابغ الأدب أمثال السيد جعفر الحلي والسيد موسى الطالقاني والشيخ عباس القرشي والشيخ محسن الخضري وغيرهم.
امتاز شعر الحبوبي بدقة الوصف وجودة السبك وحسن الاختيار في الصورة الشعرية إضافة إلى ذلك جمال الأسلوب وجزالة التراكيب كما كان متميزاً باختياره لمطلع القصيدة ليكون لوحة رائعة متكاملة فلنستمع إلى مطلع مرثيته للسيد حيدر الحلي بقيثارته الحزينة والتي لا يخالج القارئ الشك في أنه يستمع إلى مرثية لأحد كبار شعراء العصر العباسي يقول الحبوبي:
أبِنْ ليَ نجوى لو تطيق بيانــــــا ألستَ لعدنـــــانٍ فماً ولسانا
وأبلغ خطاباً فالبلاغة سلِّمــــــت لكفيــــك منها مقوداً وعنانا
وجلْ يا جوادَ السبقِ في حلباتِها فهاشم سامت للسباتِ رهانا
ورغم طول القصيدة ـ 85 بيتاً ـ إلا أنها لا تفقد تأثيرها وروعتها لدى القارئ حيث تكاملت فيها جميع الخصائص الرثائية ولعل شخصية المرثي له قد ساعدت في هذا التكامل يقول الحبوبي:
أغيث الأيادي قد تقشّـــــــــــــع غيثهـــــا وحين المعادي كيف حينكَ حانا
صرعتَ وما خلتُ الردى يصرعُ الردى لعمري وما يفني الزمانُ زمانا
فيا صارماً لاقى من الموتِ صارمــــــــاً بلـــــــى وسناناً ذاق منه سنانا
ثم تدور أبيات القصيدة الأخرى حول الإحساس بالفقد ويشيع فيها جو من الحزن والأسى يجعلها وحدة عضوية واحدة:
أجدّك علّمني لوصلكَ حيلـــــــةً فأنتَ الذي علّمتني الهيمانا
وهب أن سمعي نافع بحديثكــــم أللعين معنىً أو تراكَ عيانا
ولا أسفاً ما أن مضى الدهر كلّه هباءً إذا أبصرتُ وجهكَ آنا
والمطالع لديوان الحبوبي يجد أن أغلب قصائد الديوان تصب في مصب الغزل والنسيب وقد أبدع الحبوبي في هذا الباب أيما إبداع حيث فاق شعراء عصره في هذا الباب فكانت ألفاظه وأساليبه فيها الكثير من الأصالة والجودة والرقة والعذوبة ولا يخفى أن الشاعر يطرق في شعره جميع الأغراض حيث أن الذي ساد أغلب القصائد في الشعر العربي القديم هو المقدمة الغزلية وقد يبدأ الشاعر مقدمته بهذا الباب حتى وإن كانت رثائية أو في باب المدح ويجود خياله له بأسماء وهمية يتغزل بها في هذه المقدمة كـ(دعد) و (هند) و (سعاد) كما في قصيدة كعب بن زهير المشهورة والتي أنشدها أمام النبي (ص) في مدحه والتي يقول فيها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ متيمٌ بعدها لم يفد مكبولُ
هيفاء مقبلة عجزاء مدبـــــرة لا يشتكى قصر منها ولا طولُ
وقد جرى الشعراء في عصر الحبوبي على هذه الطريقة فكان الشاعر يتفنن في أغراض الشعر ويطرق جميع أبوابه ومنها باب الغزل لكي يبرهن أنه ذو مقدرة في هذا الباب ويؤكد الحبوبي هذا وينبئ عن مركزه في العفة بقوله في (موشح):
لا تخل ويكَ ومن يسمع يخــل إنني بالراحِ مشغوفُ الفؤاد
أو بمهظوم الحشا ساهي المقل أخجلت قامته سمر الصعاد
أو بربات خدور وكــــــــــــلل يتفنـــــــــــــنّ بقرب وبعاد
وقوله:
إن لي من شرفي برداً ضفا هو من دون الهوى مرتهني
غير أني رمت نهج الظرفا عفــــة النفس وفسق الألسن
ولم تكن إجادته في هذا الباب وحده فمن يطالع رثائياته يجده قد تفرد بهذا الفرض بإسلوبه الرائق المشجي يقول في إحداها راثياً أحد علماء الدين في النجف الأشرف:
نزعتك من يدها قريش صقيلا وطوتك فذاً بل طوتك قبيلا
فجعت بفقدك واحداً فكأنمــــــا فجعت بآل النظر جيلاً جيلا
وتذكرت في يوم فقدك فقدهــا مضراً فأوصلت العويل عويلا
كما تعددت الأغراض بين ثنايا شعره وتنوعت المعاني في وصف وتصوير الطبيعة ونعت لمشاهد الكون يقول من قصيدة طرق فيها باب الفلسفة الأدبية:
سماء اليوم مثل سماء أمس وما نقصت سموّاً وارتفاعا
وليس بضائر المسك استتارٌ إذا ما عرفه الداريّ ضاعا
وما غبّ البطاح السيل إلا مذ أخضرّت بمجراه بقاعا
ونقتطف هذه الصورة الأسطورية من إحدى قصائده الرثائية:
والموت موعد من تمادى عمره والدهر منجز وعده الموعودِ
ولسوف يقتطف الثريا إذ غـدت تلتــــــام في شبه من العنقودِ
ويدوس سنبله السماء وينثنــــي من زرع أنجمها بكل حصيدِ
ويصيد نسر النجم من أوكاره بشباك مقتنص وفخ مصيدِ
ولعل الموضوع لا يتسع لذكر أكثر مما ذكرناه من أبيات متفرقة لكن يجدر بنا أن ننوه الى أن الحبوبي ترك الشعر نهائياً قبل أن يدركه الموت بثمان وعشرين سنة حيث تفرغ كلياً لما كان يتطلبه الدين الحنيف من فقه وأصول وعلوم إسلامية.
محمد طاهر الصفار
الأكثر قراءة
25742
18677
13861
10719