| لماذا الدين الإسلامي؟ | لماذا الدين الإسلامي؟
2019-02-28 2168
لماذا الدين الإسلامي؟
ظاهرة قمع التساؤل، هي ظاهرة نلحظها
في حياة بني الإنسان بمختلف شرائحهم، وقد تتفاوت درجاتها من مجتمع
لآخر، وكذالك نلحظ اشتداد هذه الظاهرة بقوة ارتباط أفراد الجماعة
بما تنتمي إليه، سواء كان انتمائهم ديني مذهبي، أم فكري فلسفي، بل
قد يصل ببعض الأفراد أن يشكّك في مصداقيتك ويرميك بالاتهامات
الكثيرة، لا لشيء إلاّ لكونك من المثيرين للسؤال
والتساؤل.
وهذا كله يحصل، والنّاس غافلة عن حقيقة أنّ التساؤل هو أمر تقتضيه تلك الفطرة التي جُعلت عليها تركيبة بني الإنسان، بل إنّ ثقافة التساؤل والسؤال هي ثقافة قرآنية محضة، قد كرّسها وأقرّها المولى تعالى في خطابه مع بني الإنسان، فكم وكم هي المَوَاضِعْ والآيات التي نجد فيها دَفْعُ المولى تعالى لبني الإنسان نحو السؤال التساؤل، وعدم الإكتفاء بما هو سائد في واقع النّاس، ونكتفي بالإشارة إلى مسيرة نبي الله «إبراهيم عليه السلام» التي تشبّعت من أولها لآخرها، بل لم يفارقها البحث والتأوّه والسؤال.
ولأجل صوابيتها وحاجة الكمال البشري لها، قرّر المولى تعالى أن يجعلها الملّة الفُضْلى التي يجب على المؤمنين بالإسلام اتبعها، واتخاذها الطريقة المُثْلى للسير في الحياة الدنيا، فقال تعالى: ((قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) (آل عمران ـ95) ، وقال تعالى: ((وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّه وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً))(النساء ـ125)، بل نجد خطاب المولى تعالى يشتدُّ أكثر، فيسفّه من ترك ورغب عن ملّة إبراهيم عليه السلام، فيقول تعالى((وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ))(البقرة ـ 130).
فمفردة «المِلَّة» الواردة في جملة من الآيات وفي أغلبها قُرنت بنبيّ الله إبراهيم عليه السلام، ليس معناها هو نفس المعنى الذين تحمله مفردة «الدّين»، كما يمكن للبعض أن يتوهّم، بل «الملَّة» تفيد معنى طريقة التعاطي والسير في الحياة الدنيا، أي كيفية تعاطي الإنسان مع ما يعترضه في كل مسيرته الحياتية، فمجموع الهيئة أو الطريقة التي سيكون عليها الإنسان من تعاطي وتفاعل هو المقصود بمفردة «المِلَّة»، وعليه فالمولى عندما يحثّ من آمن بالقرآن إلى اتباع ملّة إبراهيم عليه السلام، فهو يدفعه نحو التلبّس بما كان عليه إبراهيم عليه السلام من منهج ومن طريقة تعاطي مع ما يعترض مسيرته الحياتية.
وبناءا على ما تقدّم، يمكن أن نقرّر أنّه من الأولى لنا أن نطرح سؤال «لماذا الإسلام؟»، ونطرحه على المُسَلِّم به قبل غيره، وذلك لوضوح أن الإيمان الأسمى هو الذي يُبنى على العلم والمعرفة، لا الذي يبنى على التبعية والتقليد الوِراثي، وأيضا فبلحاظ الدور المؤثر الذي يمثله الدين في حياة الإنسان الدنيوية، وكذالك حساسية تعلّقه بمصائر بني الإنسان الآخروية، فمن الضروري على كل فرد أن يتساءل عن العناصر التي تجعل من الدين الذي يتبنَّاه، هو الدّين الذي يجب الأخذ به والإستناد عليه، بحيث يكون المنهج والطريقة الفُضلى لمن يستند عليه، ونحن هنا وانطلاقا من معرفتنا، وكذالك وبحكم ضيق المقام، سوف نعمل على كشف عنصرٍ من مجموع العناصر التي تُرشِّح «الدِّين الإسلامي» ليكون المنظومة الأَقوَم بحكم الواقع، ولنتمكن من ذالك علينا أن نقرّر التالي:
أنّ الضابطة في تفضيل أو الحكم بصحة أي منظومة معرفية، وخاصة التي فيها أبعاد تشريعية وقانونية، هي قدرتها على تحقيق الأهداف السامية التي لأجلها وُضعت أو أُقرَّت هذه المنظومة، وبالتالي تكون لها القدرة على ايصال الإنسان لمراتب عالية من الكمال البشري، بعد أن تحافظ على القدر المطلوب من الاستقرار المساعد على بلوغ الكمال المنشود، وهذه الضابطة لا نتصور أن يخالفها كل ذي عقل سليم .
غير أنّ هذه الضابطة لوحدها لا يمكن أن تُحدّد أو تمكَّن الفرد من الحكم عمليا، وذلك لوضوح امكانية الإدعاء ونسبة تحقّق الضابطة في ما يتبناه كل فرد ومجموعة، وبالتالي فلابد لنا من أدوات أخرى تمكّننا من الحكم بتحقّق هذه الظابطة في ما هو مطروح من عدمه، وهنا سنجد أنفسنا أمام البحث عن ما يساعدنا على تشخيص تحقّق الضابطة من عدمه.
وفي البحث عن الأداة التي يمكن لها أن تَحلّ لنا هذا الإشكال، سنجد الجواب عند المولى تعالى الذي نلحظ أنّه تعالى قد التفت لخصوص هذه النقطة الدقيقة، وكذلك قرّر لنا في كتابه الأداة الأبرز في مهمتنا، وهي: «أن تكون المنظومة منسجمة مع طبيعة الفطرة التي عليها خلقَ اللهُ الإنسانَ، وكذالك متطابقة مع طبيعة الجعل الذي وجد عليه الواقع البشري».
ومن جانب آخر لابد لهذه المنظومة أن لا تخالف طبيعة الخلقة والجعل الذي وُجد عليه الإنسان وواقعه الذي يصنعه بحركته في عالم الدنيا، وذلك لوضوح أنّ الكمال المنشود بجميع مراتبه هو ناتج عن تفاعل بين البُنية التي عليها الإنسان وتلك المنظومات العملية التي جُعلت لتنظيم حركة الإنسان، والتي تحتوي في بُناها الأوَّلية على القيم والمبادئ الإنسانية.
فهو تعالى يرشدنا إلى أنّ المنظومة الصالحة لتكون عبارة عن المنهج والطريقة القيّمة لعيش بني الإنسان في حياته الدنيا، هي تلك المنظومة التي تكون منسجمة مع طبيعة التركيبة التي خلق ووُجد عليها الإنسان، بحيث لا تتعارض في أي جزئية منها مع ما تقتضيه طبيعة الفطرة التي فُطرت عليها التركيبة البشريّة، وهذه اللَّفْتَة نجدها في قوله تعالى: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ))(الروم ـ 30)، ففي هذه الآية نجد أنّ المولى تعالى يأمر نبيه محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم، بأنّ يتوجَّه ويَصُبّ اهتمامه ونظره نحو الدين وهو في حالة ميل، وذالك لوضوح معنى الميل الذي تحتويه لفظة (حَنِيفًا) وكذالك نجده تعالى قد أمر نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلم بهذا الأمر في موضع آخر فقال: ((وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ))( يونس ـ 105).
وعليه فعند التأمّل في الآية الأولى، وذالك بعد أن نتتبع لفظة (حَنِيفًا) التي وردت في اثنى عشر مورد، ونحلّل السياقات التي جاءت فيها، سنصل إلى أنّ الآية المذكورة تحتمل تفسيرين:
التفسير الأول: هو أنّ المولى تعالى يأمر نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلم بأن يتوجه للأخذ بالدين الإسلامي، وهو مائل إلى الله كما توضح آية أخرى، حيث نجده تعالى يقول: ((حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ.... ))(الحج ـ 31)، فالقيام لأخذ الدين في حالة ميل ونزوع لله هو الفطرة التي فطر الله عليها النّاس، وبالتالي وبلحاظ كون الإنسان مفطور على أخذ الدين وهو مائل لجنب الله، فلابد له من الإلتزام بذالك، لأنّه لا يمكن تبديل فطرة الله التي فطر النّاس عليها، وهذا هو الدين القيم ولكن أكثر النّاس لا يعلمون أنّه الدين القيم.
وعليه فالآية تفهم بالطريقة التالية: فأقم وجهك يا محمد لدين الله وأنت مائل لله، لأنّ ذالك هو فطرة الله التي فطر النّاس عليها فلا تُبدّل في ما خلق الله، وذالك هو الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنّه الدّين القيم.
التفسير الثاني: هو أنّ المولى تعالى يأمر نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلم بالتوجه لأخذ الدين وهو في حالة ميل ونزوع اتجاه نفس الفطرة التي فطر الله النّاس عليها، لوضوح أنّ الله لا يشرّع ولا يحكم بما يخالف ما فطر النّاس عليه، لأنّه عند ذلك ستكون تلك التشريعات والأحكام هادفة لتّبديل ما خلق الله، وهذا محال لأنّه لا تبديل لما خلق الله، فالأخذ بالدين بالشكل الذي ينسجم فيه مع الفطرة التي فطر الله عليها النّاس، هو الذي يجعل هذا الدّين قيّمًا، وأكثر النّاس لا يعلمون هذه الحقيقة.
وعليه فالآية تفهم كالتالي: فأقم وجهك يا محمّد لدين الله وأنت مائل لفطرة الله التي فطر النّاس عليها، لأنّه لا تبديل لخلق الله، وذلك هو الدين القيّم لكن أكثر النّاس لا يعلمون بهذه الحقيقة.
والحق أن التفسير الذي نرجّحه هو الثاني، وذالك لكونه ينسجم مع السياق المعنوي لباقي فقرات الآية، كما أنّ الأخذ بالدين نفسه هو مصداق للميل لله، وبالتالي فلا معنى أن يرشد المولى للميل لله مرّة أخرى، أمّا الآية ((حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ....)) فقد جاءت في مقام بيان حقيقة الميل لله في مقابل الميل لمصاديق الشريك له، وليس في مقام تحديد مصبّ الميل في أخذ الدين.
وبناءا على ما تقدم، نعود لأصل بحثنا لنقرَّر:
أنّ المولى تعالى في الآية السابقة يكشف لنا أهم وأبرز ضابطة في تقييم مختلف المنظومات التي تُطرح لتكون العنصر المنظّم لحركة وحياة بني الإنسان في هذا المستوى من الحياة الدنيا، بحيث نتمكن من خلالها على الحكم بأنّ المنظومة أو الدين القَيِّم، هو ذالك الدّين أو المنظومة التي تكون منسجمةً تمامَ الإنسجامِ مع طبيعة الفطرة التي فطر الله عليها تركيبة الإنسان، ويجب أن لا تخالفها في أي جزئية، لوضوح أنّ مخالفة الدّين لما فطر الله عليه النّاس، لا يتعارض فقط مع هيئة الخلقة التي أوجدها الله في الواقع بجميع مكوناته، بل إنّ هذه المخالفة سوف تحرّف حركة الإنسان عن الهدف الأسمى، المُسَلَّم به عند جميع العقلاء من بني الإنسان، وهو هدف بلوغ الكمال البشري على المستوى الفردي والجماعي.
وخلاصة كل ما تقدم هو: أنّ السؤال والتساؤل من الركائز الأساسية التي بني عليها الخطاب الإلهي لبني الإنسان، وكذلك هو جزء مهم في الثقافة قرآنية، بل هو إحدى السمات البارزة التي حكمت مسيرة وما كان عليه نبّي ورسول الله إبراهيم عليه السلام، الذي جعلت طريقته في السير وملّته هي الملَّة المثلى في الإقتداء، بل وفرضها الله على من يؤمن به وبنبيّه محمد صلّ الله عليه وآله وسلم.
وعليه لا يحقّ لأي فرد أو أي جماعة، أن تمنع التساؤل والبحث مهما كان نوع الموضوع الذي تعلّق به السؤال، ومع فرض تحقّق المنع، فذلك يدلّ بوضوح على عدّة أمور سلبية، قد يعود بعضها لتركيبة صاحب المنع، وقد يعود بعضها الآخر إلى نفس المنظومة المُتَبَنَّاة من قِبَلِه، ومن أبرزها إدراكه لضعف وهشاشة بُنيان ما يتبنّاه من دين أو مذهب أو منحى فكري.
كما أنّ الجواب الذي عملنا على طرح سؤاله في هذا المقال، هو أنّ من أبرز وأهم الضوابط الأساسية في تقييم قيمة الدِّين أو المذهب أو المدرسة الفكرية، وخاصة تلك المنظومات العملية منها، هو قدرتها على ايصال الإنسان للغاية البشرية القصوى وهو الكمال البشري، وتشخيص تحقّق هذه الضابطة في هذه المنظومة أو تلك، يتمّ من خلال تطابق وانسجام هذه المنظومة مع الفطرة التي جعلت عليها تركيبة الإنسان، وعدم مخالفتها لها، وذالك لوضوح أنّ الكمال البشري يتحقّق من خلال التفاعل الصحيح بين ما عليه تركيبة الإنسان والقيم المثالية المعروفة لدى الإنسان .
ومن هنا يمكن لنا - ومن خلال ما نعرفه عن الإسلام كدين يتشكّل ويحتوي على مجموعة من المنظومات العملية والمعرفية - أن ندّعي أنّ الدين الإسلامي هو أكثر المنظومات التي عرفتها البشرية، لها انسجام تام مع طبيعة خلقة الإنسان، بل ندّعي أنّ كل منظوماته وخاصة العملية منها، تأسست على وفق هذه الضابطة التي نتحدّث عنها كما ورد في الآية السابقة الذكر.
وعليه فنحن نتبنى الدين الإسلامي ونتعبّد باتباعه لأسباب عديدة، من أبرزها انسجامه مع الهيئة التي جُعلت عليها التركيبة البشرية، والتي يسميها القرآن «الفطرة»، وبالتالي فلا يمكن لنا أن نتصور أن هناك جزئية إسلامية تخالف ما فطر الله النّاس عليه، وإن تحقّق الخلاف أمامنا، فلابد من مراجعة فهمنا وتصوّرنا لتلك الجزئية، فإن استوثق الخلاف لزم عند ذالك أن نرمي بها عرض الحائط.
وختاما، نلفت إلى أنّ هناك فرق شاسع بين مقتضيات الطبيعة البشرية، وبين مقتضيات الأهواء النفسية، أو المقتضيات الذهنية الراجعة للخلفية الثقافية، ونحن نلفت لهذا لأنّ مانشاهده اليوم عند عموم بني الإنسان هو عدم قدرتهم على التفرقة بين الأمور الثلاثة، فالأهواء النفسية قد تقتضي ما فيه هلاك الطبيعة البشرية، وكذالك قد تستحسن الذهنية البشرية تبعا لاستحسان الخلفية الثقافية أمرا فيه تعارض مباشر مع طبيعة التركيبة البشرية، وعليه فلابد من الدّقة والتمعّن في كل جزئية من الجزئيات عند العمل على تطبيق ما نحن في مقام الكلام عنه .
حبيب مقدم
وهذا كله يحصل، والنّاس غافلة عن حقيقة أنّ التساؤل هو أمر تقتضيه تلك الفطرة التي جُعلت عليها تركيبة بني الإنسان، بل إنّ ثقافة التساؤل والسؤال هي ثقافة قرآنية محضة، قد كرّسها وأقرّها المولى تعالى في خطابه مع بني الإنسان، فكم وكم هي المَوَاضِعْ والآيات التي نجد فيها دَفْعُ المولى تعالى لبني الإنسان نحو السؤال التساؤل، وعدم الإكتفاء بما هو سائد في واقع النّاس، ونكتفي بالإشارة إلى مسيرة نبي الله «إبراهيم عليه السلام» التي تشبّعت من أولها لآخرها، بل لم يفارقها البحث والتأوّه والسؤال.
ولأجل صوابيتها وحاجة الكمال البشري لها، قرّر المولى تعالى أن يجعلها الملّة الفُضْلى التي يجب على المؤمنين بالإسلام اتبعها، واتخاذها الطريقة المُثْلى للسير في الحياة الدنيا، فقال تعالى: ((قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) (آل عمران ـ95) ، وقال تعالى: ((وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّه وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً))(النساء ـ125)، بل نجد خطاب المولى تعالى يشتدُّ أكثر، فيسفّه من ترك ورغب عن ملّة إبراهيم عليه السلام، فيقول تعالى((وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ))(البقرة ـ 130).
فمفردة «المِلَّة» الواردة في جملة من الآيات وفي أغلبها قُرنت بنبيّ الله إبراهيم عليه السلام، ليس معناها هو نفس المعنى الذين تحمله مفردة «الدّين»، كما يمكن للبعض أن يتوهّم، بل «الملَّة» تفيد معنى طريقة التعاطي والسير في الحياة الدنيا، أي كيفية تعاطي الإنسان مع ما يعترضه في كل مسيرته الحياتية، فمجموع الهيئة أو الطريقة التي سيكون عليها الإنسان من تعاطي وتفاعل هو المقصود بمفردة «المِلَّة»، وعليه فالمولى عندما يحثّ من آمن بالقرآن إلى اتباع ملّة إبراهيم عليه السلام، فهو يدفعه نحو التلبّس بما كان عليه إبراهيم عليه السلام من منهج ومن طريقة تعاطي مع ما يعترض مسيرته الحياتية.
وبناءا على ما تقدّم، يمكن أن نقرّر أنّه من الأولى لنا أن نطرح سؤال «لماذا الإسلام؟»، ونطرحه على المُسَلِّم به قبل غيره، وذلك لوضوح أن الإيمان الأسمى هو الذي يُبنى على العلم والمعرفة، لا الذي يبنى على التبعية والتقليد الوِراثي، وأيضا فبلحاظ الدور المؤثر الذي يمثله الدين في حياة الإنسان الدنيوية، وكذالك حساسية تعلّقه بمصائر بني الإنسان الآخروية، فمن الضروري على كل فرد أن يتساءل عن العناصر التي تجعل من الدين الذي يتبنَّاه، هو الدّين الذي يجب الأخذ به والإستناد عليه، بحيث يكون المنهج والطريقة الفُضلى لمن يستند عليه، ونحن هنا وانطلاقا من معرفتنا، وكذالك وبحكم ضيق المقام، سوف نعمل على كشف عنصرٍ من مجموع العناصر التي تُرشِّح «الدِّين الإسلامي» ليكون المنظومة الأَقوَم بحكم الواقع، ولنتمكن من ذالك علينا أن نقرّر التالي:
أنّ الضابطة في تفضيل أو الحكم بصحة أي منظومة معرفية، وخاصة التي فيها أبعاد تشريعية وقانونية، هي قدرتها على تحقيق الأهداف السامية التي لأجلها وُضعت أو أُقرَّت هذه المنظومة، وبالتالي تكون لها القدرة على ايصال الإنسان لمراتب عالية من الكمال البشري، بعد أن تحافظ على القدر المطلوب من الاستقرار المساعد على بلوغ الكمال المنشود، وهذه الضابطة لا نتصور أن يخالفها كل ذي عقل سليم .
غير أنّ هذه الضابطة لوحدها لا يمكن أن تُحدّد أو تمكَّن الفرد من الحكم عمليا، وذلك لوضوح امكانية الإدعاء ونسبة تحقّق الضابطة في ما يتبناه كل فرد ومجموعة، وبالتالي فلابد لنا من أدوات أخرى تمكّننا من الحكم بتحقّق هذه الظابطة في ما هو مطروح من عدمه، وهنا سنجد أنفسنا أمام البحث عن ما يساعدنا على تشخيص تحقّق الضابطة من عدمه.
وفي البحث عن الأداة التي يمكن لها أن تَحلّ لنا هذا الإشكال، سنجد الجواب عند المولى تعالى الذي نلحظ أنّه تعالى قد التفت لخصوص هذه النقطة الدقيقة، وكذلك قرّر لنا في كتابه الأداة الأبرز في مهمتنا، وهي: «أن تكون المنظومة منسجمة مع طبيعة الفطرة التي عليها خلقَ اللهُ الإنسانَ، وكذالك متطابقة مع طبيعة الجعل الذي وجد عليه الواقع البشري».
ومن جانب آخر لابد لهذه المنظومة أن لا تخالف طبيعة الخلقة والجعل الذي وُجد عليه الإنسان وواقعه الذي يصنعه بحركته في عالم الدنيا، وذلك لوضوح أنّ الكمال المنشود بجميع مراتبه هو ناتج عن تفاعل بين البُنية التي عليها الإنسان وتلك المنظومات العملية التي جُعلت لتنظيم حركة الإنسان، والتي تحتوي في بُناها الأوَّلية على القيم والمبادئ الإنسانية.
فهو تعالى يرشدنا إلى أنّ المنظومة الصالحة لتكون عبارة عن المنهج والطريقة القيّمة لعيش بني الإنسان في حياته الدنيا، هي تلك المنظومة التي تكون منسجمة مع طبيعة التركيبة التي خلق ووُجد عليها الإنسان، بحيث لا تتعارض في أي جزئية منها مع ما تقتضيه طبيعة الفطرة التي فُطرت عليها التركيبة البشريّة، وهذه اللَّفْتَة نجدها في قوله تعالى: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ))(الروم ـ 30)، ففي هذه الآية نجد أنّ المولى تعالى يأمر نبيه محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم، بأنّ يتوجَّه ويَصُبّ اهتمامه ونظره نحو الدين وهو في حالة ميل، وذالك لوضوح معنى الميل الذي تحتويه لفظة (حَنِيفًا) وكذالك نجده تعالى قد أمر نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلم بهذا الأمر في موضع آخر فقال: ((وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ))( يونس ـ 105).
وعليه فعند التأمّل في الآية الأولى، وذالك بعد أن نتتبع لفظة (حَنِيفًا) التي وردت في اثنى عشر مورد، ونحلّل السياقات التي جاءت فيها، سنصل إلى أنّ الآية المذكورة تحتمل تفسيرين:
التفسير الأول: هو أنّ المولى تعالى يأمر نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلم بأن يتوجه للأخذ بالدين الإسلامي، وهو مائل إلى الله كما توضح آية أخرى، حيث نجده تعالى يقول: ((حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ.... ))(الحج ـ 31)، فالقيام لأخذ الدين في حالة ميل ونزوع لله هو الفطرة التي فطر الله عليها النّاس، وبالتالي وبلحاظ كون الإنسان مفطور على أخذ الدين وهو مائل لجنب الله، فلابد له من الإلتزام بذالك، لأنّه لا يمكن تبديل فطرة الله التي فطر النّاس عليها، وهذا هو الدين القيم ولكن أكثر النّاس لا يعلمون أنّه الدين القيم.
وعليه فالآية تفهم بالطريقة التالية: فأقم وجهك يا محمد لدين الله وأنت مائل لله، لأنّ ذالك هو فطرة الله التي فطر النّاس عليها فلا تُبدّل في ما خلق الله، وذالك هو الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنّه الدّين القيم.
التفسير الثاني: هو أنّ المولى تعالى يأمر نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلم بالتوجه لأخذ الدين وهو في حالة ميل ونزوع اتجاه نفس الفطرة التي فطر الله النّاس عليها، لوضوح أنّ الله لا يشرّع ولا يحكم بما يخالف ما فطر النّاس عليه، لأنّه عند ذلك ستكون تلك التشريعات والأحكام هادفة لتّبديل ما خلق الله، وهذا محال لأنّه لا تبديل لما خلق الله، فالأخذ بالدين بالشكل الذي ينسجم فيه مع الفطرة التي فطر الله عليها النّاس، هو الذي يجعل هذا الدّين قيّمًا، وأكثر النّاس لا يعلمون هذه الحقيقة.
وعليه فالآية تفهم كالتالي: فأقم وجهك يا محمّد لدين الله وأنت مائل لفطرة الله التي فطر النّاس عليها، لأنّه لا تبديل لخلق الله، وذلك هو الدين القيّم لكن أكثر النّاس لا يعلمون بهذه الحقيقة.
والحق أن التفسير الذي نرجّحه هو الثاني، وذالك لكونه ينسجم مع السياق المعنوي لباقي فقرات الآية، كما أنّ الأخذ بالدين نفسه هو مصداق للميل لله، وبالتالي فلا معنى أن يرشد المولى للميل لله مرّة أخرى، أمّا الآية ((حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ....)) فقد جاءت في مقام بيان حقيقة الميل لله في مقابل الميل لمصاديق الشريك له، وليس في مقام تحديد مصبّ الميل في أخذ الدين.
وبناءا على ما تقدم، نعود لأصل بحثنا لنقرَّر:
أنّ المولى تعالى في الآية السابقة يكشف لنا أهم وأبرز ضابطة في تقييم مختلف المنظومات التي تُطرح لتكون العنصر المنظّم لحركة وحياة بني الإنسان في هذا المستوى من الحياة الدنيا، بحيث نتمكن من خلالها على الحكم بأنّ المنظومة أو الدين القَيِّم، هو ذالك الدّين أو المنظومة التي تكون منسجمةً تمامَ الإنسجامِ مع طبيعة الفطرة التي فطر الله عليها تركيبة الإنسان، ويجب أن لا تخالفها في أي جزئية، لوضوح أنّ مخالفة الدّين لما فطر الله عليه النّاس، لا يتعارض فقط مع هيئة الخلقة التي أوجدها الله في الواقع بجميع مكوناته، بل إنّ هذه المخالفة سوف تحرّف حركة الإنسان عن الهدف الأسمى، المُسَلَّم به عند جميع العقلاء من بني الإنسان، وهو هدف بلوغ الكمال البشري على المستوى الفردي والجماعي.
وخلاصة كل ما تقدم هو: أنّ السؤال والتساؤل من الركائز الأساسية التي بني عليها الخطاب الإلهي لبني الإنسان، وكذلك هو جزء مهم في الثقافة قرآنية، بل هو إحدى السمات البارزة التي حكمت مسيرة وما كان عليه نبّي ورسول الله إبراهيم عليه السلام، الذي جعلت طريقته في السير وملّته هي الملَّة المثلى في الإقتداء، بل وفرضها الله على من يؤمن به وبنبيّه محمد صلّ الله عليه وآله وسلم.
وعليه لا يحقّ لأي فرد أو أي جماعة، أن تمنع التساؤل والبحث مهما كان نوع الموضوع الذي تعلّق به السؤال، ومع فرض تحقّق المنع، فذلك يدلّ بوضوح على عدّة أمور سلبية، قد يعود بعضها لتركيبة صاحب المنع، وقد يعود بعضها الآخر إلى نفس المنظومة المُتَبَنَّاة من قِبَلِه، ومن أبرزها إدراكه لضعف وهشاشة بُنيان ما يتبنّاه من دين أو مذهب أو منحى فكري.
كما أنّ الجواب الذي عملنا على طرح سؤاله في هذا المقال، هو أنّ من أبرز وأهم الضوابط الأساسية في تقييم قيمة الدِّين أو المذهب أو المدرسة الفكرية، وخاصة تلك المنظومات العملية منها، هو قدرتها على ايصال الإنسان للغاية البشرية القصوى وهو الكمال البشري، وتشخيص تحقّق هذه الضابطة في هذه المنظومة أو تلك، يتمّ من خلال تطابق وانسجام هذه المنظومة مع الفطرة التي جعلت عليها تركيبة الإنسان، وعدم مخالفتها لها، وذالك لوضوح أنّ الكمال البشري يتحقّق من خلال التفاعل الصحيح بين ما عليه تركيبة الإنسان والقيم المثالية المعروفة لدى الإنسان .
ومن هنا يمكن لنا - ومن خلال ما نعرفه عن الإسلام كدين يتشكّل ويحتوي على مجموعة من المنظومات العملية والمعرفية - أن ندّعي أنّ الدين الإسلامي هو أكثر المنظومات التي عرفتها البشرية، لها انسجام تام مع طبيعة خلقة الإنسان، بل ندّعي أنّ كل منظوماته وخاصة العملية منها، تأسست على وفق هذه الضابطة التي نتحدّث عنها كما ورد في الآية السابقة الذكر.
وعليه فنحن نتبنى الدين الإسلامي ونتعبّد باتباعه لأسباب عديدة، من أبرزها انسجامه مع الهيئة التي جُعلت عليها التركيبة البشرية، والتي يسميها القرآن «الفطرة»، وبالتالي فلا يمكن لنا أن نتصور أن هناك جزئية إسلامية تخالف ما فطر الله النّاس عليه، وإن تحقّق الخلاف أمامنا، فلابد من مراجعة فهمنا وتصوّرنا لتلك الجزئية، فإن استوثق الخلاف لزم عند ذالك أن نرمي بها عرض الحائط.
وختاما، نلفت إلى أنّ هناك فرق شاسع بين مقتضيات الطبيعة البشرية، وبين مقتضيات الأهواء النفسية، أو المقتضيات الذهنية الراجعة للخلفية الثقافية، ونحن نلفت لهذا لأنّ مانشاهده اليوم عند عموم بني الإنسان هو عدم قدرتهم على التفرقة بين الأمور الثلاثة، فالأهواء النفسية قد تقتضي ما فيه هلاك الطبيعة البشرية، وكذالك قد تستحسن الذهنية البشرية تبعا لاستحسان الخلفية الثقافية أمرا فيه تعارض مباشر مع طبيعة التركيبة البشرية، وعليه فلابد من الدّقة والتمعّن في كل جزئية من الجزئيات عند العمل على تطبيق ما نحن في مقام الكلام عنه .
حبيب مقدم
الأكثر قراءة
25874
18683
13875
10739