أدت الظروف والتطورات الاجتماعية في عصر النهضة، من إبعادٍ للمؤسسة
الدينية المسيحية عن إدارة شؤون المجتمع في المجالات كافة من جهة،
وتقدم العلوم التجريبية والصناعة تقدماً باهراً من جهة أخرى، لبروز
اتجاه فلسفي في أوروبا يدعو الى حصر دور الدين في العلاقة الشخصية بين
الفرد وربه، من دون أن يكون للدين أي دور آخر في تنظيم حياة الإنسان
سواء على البعد السياسي او الاجتماعي او الاقتصادي أو غير ذلك، فقد
شعر الإنسان الغربي بأنه قادر على تلبية جميع احتياجاته ومتطلباته
المادية من لذائد ورفاهية من خلال العلوم التجريبية والعقل، وكأنهما
الغاية القصوى للحياة، فلا يحتاج البشر الى الدين إلا في المجال الذي
يعجز العلم والعقل عن تأدية هذا الدور فيه، وهو مجال العلاقة الروحية
والفردية بالله تعالى. ولا يجوز أن يتعدى هذا الحد، بأن يتسلم زمام
الأمور السياسية او الاقتصادية او الاجتماعية او الثقافية في المجتمع.
وتتجدد الحاجة لبحث هذه المسألة لوجود بعض الاتجاهات العلمانية
الحداثية في المجتمعات الإسلامية تحاول أن تقصر دور الدين في هذا
الإطار الضيق وهو العبادات والمناسك الفردية، وتقصيه عن دوره في
ميادين الحياة المهمة.
كما أن هناك نظريات أخرى انطلقت من داخل فضاء الفكر الإسلامي وعلى
يد بعض المثقفين المسلمين، منهم جماعة دعوا الى حصر دور الدين في
تحقيق السعادة الأخروية فقط، بينما ذهب اتجاه آخر الى ان الغرض
الأصلي للدين هو تحقيق السعادة الأخروية، ولكن بما ان الدنيا طريق
الآخرة فالدين يتدخل فيها بقدر الضرورة، من خلال تحديد أهداف وغاية
تؤطر الفكر البشري، مثل العدالة الاجتماعية، او المساواة والعقلانية
ونحو ذلك.
فتركز هذه النزعة على ان الدين يحدد لنا إطاراً من القيم والأصول
والضوابط العامة ولا يعين لنا المنهجية لحل المشاكل في الشؤون
الدنيوية، بل تقع مسؤولية توفير نظام معين على عاتق العلم فقط، يقول
أحد اتباع هذا الاتجاه: "ليس شأن الدين في حياة الإنسان المادية إلا
تحديد الأصول العامة والضوابط والقيم المعنوية التي توجه وتؤطر
النشاطات البشرية تأطيراً عاماً... فليس شأن الدين تحديد مناهج
الحياة ومناحيها وتخطيط أساليب الحياة والمعيشة، بل هذا قد القي على
عاتق الإنسان ليكتشفه بعقله وعلمه وتجربته، ولكن في ضوء الضوابط
والقيم العامة الدينية".
ويمكن تسمية هذا الاتجاه بمذهب الحد الأدنى، وفي قباله هناك تيار
يذهب الى إمكان استنباط جميع العلوم البشرية من النصوص الدينية، إذ
ان للدين تعاليم شاملة لكل المجالات الدنيوية والأخروية، فيمكن
للإنسان استنباط جميع العلوم الفيزيائية والكيميائية والرياضيات
والهندسة والطب وغيرها من النصوص الدينية.
ومن اتباع هذا الاتجاه أبو حامد الغزالي، الذي يعتقد ان القرآن هو
البحر المحيط ومنه يتشعب علم الأولين والآخرين، فيصرح "ان جميع
العلوم البشرية كالطب والنجوم وهيئة العالم وهيئة بدن وتشريح أعضائه
وغيرها مما اندرست او سيكشفها الإنسان ليست خارجة عن القرآن فإنها
جميعاً مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى".
وبدر الدين محمد الزركشي، فيقول: "وكل علم من العلوم منتزع من
القرآن وإلا فليس له برهان". ويمكن تسمية نظريتهم بنظرية الحد
الأقصى.
وبين النظريتين السابقتين ـ الحد الأدنى والحد الأقصى ـ هناك
نظرية أخرى تعتبر الوسط بينهما، يطلق عليها البعض تسمية النظرية
الشمولية، ونحن لضيق المقام لا نتعرض للنظريات السابقة بالنقد وإنما
نكتفي بعرض النظرية المختارة والتي عليها مشهور الأعلام.
فالنظرية الشمولية تخالف نظرية الحد الأقصى في اشتمال الدين على
تفاصيل العلوم الحسية والتجريبية كالطب والفيزياء وأمثالهما، فالدين
يهتم بكل ما يساهم في تحقيق الهدف من خلق الإنسان، وما عدا ذلك يقع
تحت مسؤولية الإنسان نفسه.
يقول مرجع الطائفة السيد أبو القاسم الخوئي (ره) في ذلك: "وكفى
القرآن عظمة، وكفاه منزلة وفخراً أنه كلام الله العظيم، ومعجزة نبيه
الكريم، وان آياته هي المتكفلة بهداية البشر في جميع شؤونهم
وأطوارهم في أجيالهم وأدوارهم، وهي الضامنة لهم في تحصيل الغاية
القصوى والسعادة الكبرى في العاجل والآجل".
وقوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ
شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) النحل: 89،
لا يراد منها اشتمال القرآن الكريم على كافة العلوم حتى الطبيعية
منها كالكيمياء والفيزياء والفلك، وإنما المقصود أن القرآن لم يدع
شيئاً يخص سعادة الإنسان وهدايته للغاية التي خُلق لها إلا وذكره،
يقول العلامة الطباطبائي (ره) في تفسيرها: "وإذا كان القرآن كتاب
هداية لعامة الناس وذلك شأنه، كان الظاهر أن المراد بكل شيء ـ
المذكور في الآية ـ كل ما يرجع الى أمر الهداية مما يحتاج اليه
الناس في اهتدائهم من المعارف الحقيقية المتعلقة بالمبدأ والمعاد
والأخلاق الفاضلة والشرائع الإلهية والقصص والمواعظ، فهو تبيان لذلك
كله".
وكما لا تقبل النظرية الشمولية إفراط نظرية الحد الأقصى، كذلك ترفض
تفريط نظرية الحد الأدنى، القائلة بحصر دور الدين في وضع أطر عامة،
من دون وجود أنظمة عملية تساعد الإنسان في توفير حياة سعيدة منسجمة
مع الآخرة، يقول أحد الأعلام المعاصرين حول هذه النظرية: "إن الدين
نظام شامل لحياة الإنسان في حقول مختلفة من غير فرق بين حقل السياسة
والأخلاق والاقتصاد والاجتماع، فللدين بيان وبلاغ في كل واحد من هذه
الحقول. وهذا لا يعني ان الدين يغني عن التفكير في هذه المجالات
يجعل الإنسان مقلداً وبلا تخطيط، بل يعني ان الأصول الكلية التي
عليها مدار السعادة في الدنيا والآخرة بيّنها الدين وترك التخطيط
للإنسان على ضوء هذه الأصول المسلمة. نعم من يلخص نطاق الدين في
مجرد الصلة بين الخالق والمخلوق ويدعو الانسان الى الدعاء والمناجاة
في الكنائس والمعابد، ويترك باقي الأمور لهوى الإنسان، فمثل هذا
الدين نطاقه ضيق غير شمولي كالدين المسيحي في العصر الراهن، فإن
الكنائس لخصت واجب الإنسان الديني في الدعاء والابتهال الى الله في
ساعة واحدة من يوم واحد في الأسبوع. ولعل ما يذكره القائل من تضييق
نطاق الدين يجعل هذا النوع من الدين مقياساً لحكمه، أما لو عطف نظره
الى ما ورد في توراة الكليم من الواجبات والمحرمات وما في الشريعة
المحمدية من ألاف الأحكام في حقول مختلفة لرجع القهقرى عن هذا النوع
من التفكير".
كيف يحقق الدين السعادة للإنسان في مختلف المجالات؟
طبيعة النظام الديني مثل اي نظام آخر، حتى الأنظمة التقنية يتكون من
أمور ثلاثة، مدخلات ومعالجة ومخرجات، فيقوم مؤسس النظام بتنظيم
المعلومات والمكونات الداخلية بحيث تتفاعل فيما بينها تفاعلاً
صحيحاً يؤدي للنتائج المرسومة.
وقد قام الدين بجميع ذلك، فقد وفر كماً كبيراً ـ يعد بالآلاف
ـ من الأحكام والقوانين والأوامر التي تعالج مشاكل الإنسان وتلبي
حاجاته على الصعيد الشخصي والاجتماعي. (مدخلات).
ووضع الأهداف والغايات التي يجب ان تصب في خدمها هذه الأحكام
الجزئية (مخرجات)، ولم يتبق إلا اكتشاف النظام الذي يعالج هذه
الداتا من الأحكام، بوضع هيكلية تجعلها تتلائم وتنسجم وتوصل الإنسان
للغايات المرسومة.
وقد قام حملة الدين وعلماء الأمة بهذه المهمة على خير وجه، فيكفيك
نظرة لجهود البعض منهم في استنباط هذه الأنظمة في الأبواب الإنسانية
المختلفة، من سياسة أو اقتصاد او اجتماع او التربية والتعليم او
غيرها.
فمدرسة أهل البيت عليهم السلام تمتاز بتراث حديثي زاخر في مختلف
أبواب المعرفة ينطلق من سنة النبي صلى الله عليه واله بدءاً وأحاديث
أهل بيته مروراً حتى ينتهي بالمروي عن الإمام الحجة صلوات الله
عليه، لعيش هذا التراث تجربة عمرها يتجاوز 250 عاماً، وهذا التراث
يبين نطاق الدين وامتداده لشتى مجالات الحياة على مستوى الفرد
والمجتمع.
بالإضافة الى ان السيرة العملية والحكومية للنبي الأكرم صلى الله
عليه واله في المدينة، وكذا سيرة أمير المؤمنين والإمام الحسن صلوات
الله عليهما تحكي تجربة تطبيق الدين في مختلف نواحي الحياة، فقد
تجسدت وقتئذ في مختلف المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية
والتربوية والاجتماعية وغيرها. فأفضل دليل على سعة نطاق الدين هذه
التجربة العملية، وقد أشار الى ذلك السيد محمد باقر الصدر (ره) عند
كلامه على النظام الاقتصادي في الإسلام، حيث قال: "ولا أدري ماذا
يقول هؤلاء الذين يشكون في وجود اقتصادٍ إسلامي، أو علاج للمشاكل
الاقتصادية في الإسلام؟! ماذا يقولون عن عصر التطبيق في الإسلام؟
أفلم يكن المسلمون يعيشون في صدر الإسلام بوصفهم مجتمعاً له حياته
الاقتصادية، وحياته في كل المادين الاجتماعية؟! أفلم تكن قيادة
المجتمع الإسلامي بيد رسول الله صلى الله عليه واله والإسلام؟! أفلم
تكن هناك حلول محددة لدى هذه القيادة يعالج بها المجتمع قضايا
الإنتاج والتوزيع، ومختلف مشاكله الاقتصادية؟! فماذا لو ادعينا ان
هذه الحلول تعبر عن طريقة الإسلام في تنظيم الحياة الاقتصادية،
وبالتالي على مذهب اقتصادي في الإسلام؟".
ويقول العلامة الطباطبائي (ره) في هذا المجال ايضاً: "فالإسلام أثبت
ذلك في اليسير من الزمان الذي كان الحاكم فيه على الاجتماع بين
المسلمين هو الدين، وأثبت ذلك بتربية أفراد من الإنسان صلحت نفوسهم،
وأصلحوا نفوس غيرهم من الناس، على ان جهات الكمال والعروق النابضة
في هيكل الاجتماع المدني اليوم، التي تضمن حياة الحضارة والرقي
مرهونة بالتقدم الإسلامي وسريانه في العالم الدنيوي على ما يعطيه
التجزية والتحليل من غير شك".
ومن النصوص التي تبين شمولية الدين ونطاقه الواسع ما روي عن ابي عبد
الله عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان
كل شيء، حتى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج اليه العباد حتى لا
يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أُنزل في القرآن، إلا وقد انزله الله
فيه.
وعن ابي جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول: إن الله تبارك وتعالى لم
يدع يحتاج اليه الأمة، إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله صلى الله
عليه واله، وجعل لكل شيء حداً، وجعل عليه دليلاً يدل عليه، وجعل على
من تعدى ذلك الحد حداً.
عن حماد عن ابي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: ما من شيء
إلا وفيه كتاب أو سنة.
فيتضح ان الدين متمثلاً بالكتاب والسنة كفيلان بسد حاجة البشرية على
كافة الصعد الدخيلة بهداية الإنسان للغايات التي خلق من أجلها.
الشيخ مقداد الربيعي – باحث وأستاذ في الحوزة
العلمية
الهوامش:
[1] محمد مجتهد شبستري، مجلة
نقد ونظر، ص22 ـ 23.
[1] جواهر القرآن، ج1،
ص45.
[1] البرهان في علوم القرآن،
ج1، ص8.
[1] البيان في تفسير القرآن
ج1، ص17.
[1] الميزان، ج12،
ص325.
[1] جعفر سبحاني، رسائل
ومقالات، ج5، ص171.
[1] راجع كتاب اقتصادنا للسيد
محمد باقر الصدر، وكتاب النظام الإداري في الحكومة الإسلامية
للسيد محمد مهدي شمس الدين، وكتاب الأصول العامة لنظام التشريع
لمحمد مصطفوي وغيرها كثير.
[1] المدرسة الإسلامية
(موسوعة الشهيد الصدر، ج5)، ص 147.
[1] الميزان، ج2،
ص132.
[1] أصول الكافي، ج1،
ص59.
[1] المصدر نفسه.
[1] المصدر نفسه.