

| التوحيد | "لماذا خلقنا الله؟" في سياقاته المختلفة

"لماذا خلقنا الله؟" في سياقاته المختلفة
علي العزّام الحسيني
على الرغم من التباين المضموني بين سؤال(لماذا خلقنا الله؟)، وبين سؤال(من خلق الله؟) إلا أنّ بينهما تشابهًا على مستوى تعدد السياقات واختلافها، بل ربما تداخلها في بعض الأحيان بما ينعكس على تقديم الحلول وعرض الإجابات بشكل مربك. ومثلما كان أحد مساعي تأليف كتابي المتواضع: (من خلق الإله؟ - سياقات السؤال ونقد الإجابة السائدة-)؛ فصل سياقات السؤال، ومحاولة فرز معانيه بغية فهمه بشكل دقيق بما يسهل عملية التعاطي معه والإجابة عنه؛ فكذاك الحال في هدف المقالة فيما يرتبط بسؤال(لماذا خلقنا الله؟)، فتحاول المقالة أولًا أن تفصل بين معاني السؤال ومقاصده بما يمهّد الطريق نحو الإجابة ويذلل من بعض مكامن الوعورة فيها، وقد قيل: إنّ فهم السؤال نصف الجواب. طبعًا، بموازاة ذلك، تسعى المقالة أيضًا إلى تقديم الإجابات التي تتسمم بسهولة الفهم، بعيدًا عن الاصطلاحات الكلامية والمفاهيم الفلسفية، مع الإيجاز مهما أمكن بما يتناسب مع مقالة صغيرة لا يراد منها التطويل بالدخول في التفاصيل الدقيقة التي تحيط بالموضوع.
إنّ سؤال(لماذا خلقنا الله؟) وإن بدا سؤالًا واحدًا في سبكه اللفظي، وواضحًا في مقصده ومرامه وهو البحث عن الغاية وطلب الغرض، غير أنّه يلزم إلفات النظر إليه أنّه يرد على ثلاثة مقاصد، فتارة يطرح في الداخل الإيماني كسوال استفهامي يراد من طرحه معرفة الغاية التي تعود إلى المخلوق وما يراد منهم، وتارة أخرى يطرح على أنّه سؤالٌ إشكالي يستفز العقل الإيماني من حيث إنّه يبحث عن الغاية التي ترجع إلى الذات المقدسة للخالق سبحانه، بما يستلزمه ذلك من محذور النقص في الفاعل الذي يجبر خلته بالغاية ويستكمل نقصه بالغرض، والله تعالى كمال محض، منزّه عن النقائص ومبرّء عن كل الأغراض والغايات التي تستكمل بها الفواعل، وهذا من أصعب الأسئلة وأكثرها تداولًا في علم الكلام الإسلامي، ويبحث هناك بعنوان: هل أفعال الله معللة بالغايات؟!؛ ولهذا سنفصل فيه أكثر من غيره، وتارة ثالثة يطرح السؤال في سياق الاستفهام عن الحكمة الإلهية من خلق العباد ويطلب به رفع غائلة العبثية، فيصاغ هكذا: لماذا خلقنا الله مع علمه بمصيرنا؟.
(1)
أسهل معاني السؤال وأيسرها إجابة هو السؤال الذي يريد الظفر بغاية الخلق الذي نصبه الله، فكأنّ السؤال يفتش عن مراد الله تعالى النهائي، ومطلوبه الأساس من الإنسان الذي من أجله خلق في الحياة الدنيا وأُنزل على الأرض، ولو أردنا استبدال السؤال بصيغ مختلفة تؤدي المعنى نفسه أو قريب منه فيمكننا طرحه كالاتي: لأيّ شيء خُلقنا؟، وما الفائدة من خلقنا؟!، وأين يريدنا الله أن نصل حين خلقنا؟ ولأي غاية يريد منا بلوغها؟!؛ ضرورة أنّ الله تعالى الحكيم لا يفعل في خلقه إلا ما فيه فائدة لهم، ولا يقوم إلا بما فيه مصلحة تعود إليهم.
في الواقع، إذا ما عدنا للنصوص فسنجد قائمة غايات يفرغ عنها الكتاب الكريم في آياته المعروفة وسائر النصوص الشريفة في هذا المجال، فمنها: عبادة الله، و معرفته، ومنها الرحمة، وإقامة القسط والعدل ونحو ذلك، وهذه الغايات رغم تعددها وكثرة النصوص التي تضمنتها إلا أنّ المتأمل فيها لن يعدم إيجاد الصلة فيما بينها والخروج بصورة متكاملة، والوصول إلى الهدف النهائي، وهي السعادة في النشأتين بالعبودية الكاملة لله تعالى في الحياة، وببيان مباشر وبعبارة أكثر وضوحًا: إنّ إجابة عن السؤال أعلاه، إجابة كاملة وبعبارة موجزة غاية الإيجاز في أدق معاني البيان من غير زيادة ولا نقصان؛ هو ما أفصحت عنه الآية (56) من سورة الذاريات: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، فهذا هو طريق الغاية العليا والوصول إلى المقصد النهائي، وأما بقية الأغراض والمقاصد التي جاءت على ذكرها بعض النصوص فهي بمنزلة الغايات المتوسطة بما لها من اتصال بتلك الغاية، أي أنّ الله سبحانه-كما يقول صاحب الميزان- لا يريد من نوع الإنسان وبقائه إلا حياة دينه وظهور توحيده وعبادته بتقويهم العام.. فلو أمرهم بشيء مما يرتبط بحياتهم وبقائهم فإنما يريد توصلهم بذلك إلى عبادة ربهم لا إخلادهم إلى الأرض وانهماكهم في شهوات البطن والفرج، وتيههم في أودية الغي والغفلة ". (الميزان2-123)، ومن حسن الحظ أنّ بعض الأخبار قد اشتملت على الربط بين بعض هذه الغايات، منها على سبيل المثال، الخبر المروي عن الإمام الحسين(عليه السلام): إنّ الله- عزّ وجلّ ذكره- ما خلق العباد إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواء..(علل الشرائع،ج1،ص9).
وما يلزم إلفات النظر إليه هنا، مما أوجب اللبس في الموضوع أحيانًا هي الغفلة عن أنّ الآية (56) من سورة الذاريات واردة مورد بيان غرض الفعل المخلوق بوصفه من الكائنات العاقلة، وليست بصدد الحديث عن تحديد غاية الفاعل الخالق نفسه سبحانه وتعالى، فالآية وإن كانت الآية من جملة النصوص التي تثبت أصل الغاية للخالق بمفاد(كان) التامة، غير أنّها لم تستهدف الكشف عن غاية الفاعل، وبكلمة أخرى: هناك ثلاث جهات في المسألة، قد اشتملت الآية الشريفة على اثنين منها وحسب، فأولًا تثبت الآية أصل وجود الغاية للخالق عندما خلق الإنس والجن، فيكون وزانها من هذه الناحية وزان الآيات التي تحدّثت عن أنّه تعالى لا يفعل عبثًا، ولم يخلق ما خلق لعبًا وباطلًا، بل كان خلقه لعلل وأغراض ومصالح وغايات تعود في نفعها على العباد، ليأتي بعد ذلك الحديث عن الجهة الثانية، وهي تحديد مصداق الغرض الذي خلق من أجله الإنس والجن وهو العبادة بوصفها الحق الذي جعله الله لنفسه على الثقلين، لكن هذا الغرض كما قدّمنا يرجع إلى الفعل دون الفاعل، وربما لهذا السبب لم تعبّر الآية عن العبادة بصيغة المتكلم من قبيل: حتى أعبد، أو كي أكون معبودًا أو لأُعبدَ ونحو ذلك، وإنّما قالت: ليعبدون، وهو تعبير واضح الدلالة في أنّ العبادة غرض راجع للخلق يستكمل بها نقصه، وليست غرضًا للخالق نفسه.
وبالجملة فالآية تثبت وجود غرض للخلقة، وقد حددت طبيعته بالعبادة، والمدلول المطابقي للآية والمعنى المباشر الذي تريده هو أن يكون المكلّفون عابدين، لا أن يكون الله معبودًا، فهذا الأخير يندرج ضمن الجهة الثالثة التي قلنا إنّ الآية غير ناظرة إليها، وبناءً على جميع ما مضى، فإنّ السؤال(لماذا خلقنا الله؟) إن كان المقصود به ما تقدّم فإن الجواب عنه بالآية وحسب، أما إذا كان المقصود به الاستفهام عن غاية الفاعل تبارك وتعالى فلا تتمّ الإجابة عنه بالآية الشريفة، وإنّما يلتمس إليه طريق آخر، ودونك بيانه في سياقه الثاني:
(2)
يأتي سؤال(لماذا خلقنا الله؟) في سياق إشكالي يتعلّق بالبحث عن غرض الباري تبارك وتعالى من خلق العالم، وفرقه عن سابقه أنّه هنا يتساءل عن غاية الفاعل سبحانه من إيجاد العالم بأسره، بينما كان المفاد السابق الذي تكفّلت به الآية (56) من سورة الذاريات هو الحديث عن الغاية العائدة إلى فعله، مضافًا إلى أنّ منطوق الآية خاص بدائرة المكلفين من الجن والإنس، لا عن الخلق عامة.
ويكتسب عمقه وأهميته من أنّه يواصل طرح نفسه بعد الإجابات عن السؤال السابق، فمثلًا: إذا كان الله تعالى قد خلق الجن والإنس ليعبدوه فإن الاستفهام هنا سينتقل إلى مرحلة جديدة: وما غايته من العبادة وهو غني عنها؟!، ومن جهة أخرى فإنّ مضمون السؤال هنا مثلما قدّمنا ينطوي على بعد إشكالي يتجلى بوضوح بعد لفت النظر إلى قضيتين: القضية الأولى، أنّه تعالى فاعل حكيم، والفاعل الحكيم لا يفعل إلا لغرض، ومقتضى ذلك أنّ أفعاله تعالى معلّلة بالغايات، لأنّه سبحانه منزّه عن اللعب ومبرّء عن العبث، يقضي بذلك البرهان ويدل عليه صريح القرآن، والقضية الثانية، هي أنّه تعالى كمال محض ومحض الكمال، بينما إثبات الغرض للفاعل يعني أنّ الفاعل ناقصٌ محتاج، يستكمل نقصه ويرفع حاجته بذلك القرض، وعلى هذا الأساس تنبثق الإشكالية وهي كالآتي:
إنّ خلق العالم وإيجاد الكون من قبله سبحانه وتعالى يدور بين أمرين، يلزم من الواحد منها أحد محذورين، أحلاهما علقم- كما يقال- فإمّا أنّه -سبحانه وتعالى- خلق الخلق دون حاجة إليهم ومن غير غرض له فيهم فيلزم العبث، وقد مرّ في القضية الأولى أنّه تعالى حكيم منزّه عن العبث، أو أنّه تعالى خلق الخلق لحاجته- تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا- إلى الخلق، وحينئذٍ يلزم النقص في الكمال المحض كما مرّ في القضية الثانية.
وحجر الزاوية في هذا الموضوع هو في الموائمة بين اثبات الغاية لله تعالى بما ينفي عنه اللعب والعبث من جهة، وبين كماله المطلق وغناه التام الذي يدفع عنه الاستكمال بالغاية، وبكلمة منطقية: تنطوي الإشكالية آنفًا على إحراج زائف وتدخل فيما يعبّر عنه بمغالطة الثنائية الزائفة، على غرار بعض القضايا من مثل: إما أن تكون معي أو أنت ضدي، بإهمال خيار الحياد، أو من قبيل: الإنسان إما مؤمن في الجنة، أو كافر في النار، إلى غير ذلك من القضايا التي تتعامل مع الأشياء على أساس الأسود أو الأبيض وتهمل سائر الألوان الأخرى، ويكمن الحل في إمثال هذه القضايا بكسر الثنائية عبر بيان الخيار المضمر.
فلو تأملنا في السؤال، وفحصنا الوجه الإشكالي فيه سنجده قائم على المقابلة بين الحاجة وبين العبث، ويفترض التنافي بين إثبات الغاية من الفعل وبين الكمال، فهو يقول: إنّ الله تعالى حين خلق العالم، إما خلقه لحاجة إليه فيلزم النقص، أو خلقه من غير حاجة فيلزم العبث، بينما في الواقع ليس ثمة تقابل ولا تنافي، فما يقابل العبثية هي الحكمة وليس الحاجة، كما أنّه ليس هناك من تدافع وتنافي بين إثبات الغرض للفاعل وبين كماله، فصحيح أنّ الكثير مما نعرفه عن الفواعل أنّها تفعل لغرض تكمل بها نقصها، فالجائع مثلًا يأكل؛ كيما يسد جوعه، والعطشان يشرب الماء ليروي ضمأه، وهكذا، لكن الأمر لا يجري على هذا النسق بشكل مطرد، فليس كل فعل مغيى للفاعل فهو إنّما يقوم به لأجل أن يستكمل بالغاية نقصه، ويجبر بغرضه فاقته، فدونك الإنسان الشبعان الذي يُطعم غيره، والواقف على بئر من الماء يسقي منه الأكباد الحرّى؛ فإنّه لا يقوم بهذا عبثًا، ولا يؤديه سفهًا، بل يقوم بذلك لغرض حسن وغاية نبيلة ومقصد جميل اقتضتها نقاء فطرته، ودفعته إليها محاسن جِبَلّته، وكمال إنسانيته الربانية، وهذه الغاية مجتمعة في الوقت نفسه مع كماله وعدم حاجته للأكل والشرب، فهو لا يبغي من فعله جبر نقص في جوفه من الأكل أو الماء؛ لفرض شبعه وارتوائه، فاجتمعت -كما ترى- غاية الفاعل مع كماله وغناه.
وبعد رفع الإشكال نعود إلى المعنى الذي يستفهم عنه في سؤال:(لماذا خلقنا الله؟) الذي يهدف إلى معرفة الغرض الإلهي من إيجاد العالم، وقد ذكرنا أنّ الجواب عنه بهذا المعنى لا يجدي فيه استحضار قوله تعالى: وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون؛ لأن مفاد الآية بصدد الإجابة عن السؤال في سياقه الأول كما أسلفنا، مضافًا إلى أنّ الله سبحانه وتعالى خلق الخلق وهو غني عن طاعتهم، آمنٌ من معصيتهم؛ تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضرّه معصية من عصاه، وإنّما يجاب عن السؤال ويرتفع عن الاستفهام بعد التذكير وإلفات النظر بمبدأ الإنسجام بين ذات الفاعل، وبين غرضه، فلكل فاعل غرض ينسجم مع ذاته، وله غاية تسانخ وجوده وصفاته، فخذ مثال الرجل الموصوف بكمال الشجاعة حتى صارت ملكة في نفسه وجزءًا أصيلًا من طبيعته، ومن كانت هذه صفته فلن يكون من المستغرب أن يقاتل ببسالة، وينازل خصومه بشراسة؛ لأنّ ذلك هو ما يتناسب مع ملكة الشجاعة وما تقتضيه طبيعة ذاته.
وإن شئت استبدال المبدأ والمثال فدونك قولهم: ما جاء على الأصل لا يُسأل عنه، وإنّما يُسال عمّا خرج عن أصله، كان طبعه الجود وسجيته الكرم فلن يُسال عن إكرام ضيفه وإنّما يُسال لو تعامل مع ضيفه بشح وبخل، من حيث إنّ فعله قد اختلف مع طبيعة ذاته، فلما انقلب الحال وقع السؤال، هذا، والغرض الإلهي للخالق -وله المثل الأعلى والأسماء الحسنى-غرضه من الخلق ناشئ من ذاته، غير خارج عن صفاته، فهو تعالى جواد كريم، قديم الإحسان، شأنه الإفاضة بالخير، باسط اليدين بالعطية، دائم الفضل على البريّة.
(3)
والسياق الثالث للسؤال مختلف عن السابقين، غير متصل بهما، وإنّما ذكرناه إكمالًا للسياقات و تتميمًا للفائدة، إنّه يقول:"لماذا خلقنا الله مع علمه بمصيرنا؟" منطلقًا من صفة العلم الأزلي، مستفهمًا عن تحقق صفة الحكمة، فما دام الباري تعالى عالمًا بما سيؤول إليه العباد وما تفضي به أعمالهم من نعيم أو شقاء علمًا أزليًا حتميًا لا تبديل فيه ولا تغيير، فيقع الاستفهام عن الغاية من خلقهم مع العلم المسبق بمصيرهم، ويطرق السؤالُ باب الحكمة من إيجادهم وسر تكليفهم، والحال أنّ نتائج ذلك معروفة سلفًا؟!، وبكلمة موجزة: ما يمكن أن يقوم به الإنسان في دار التكليف معلوم للباري ولا يشكل أمرًا جديدًا بالنسبة إليه سبحانه، فما الداعي لخلق العباد ثمّ تعريضهم للاختبار والحال أنّه تعالى يعلم مصائرهم، ولا تخفى عليه مآلاتهم ؟!.
ترتبط إجابة السؤال بموضوع العلم الإلهي في الدراسات الكلامية، وهو موضوع واسع لا يسعنا بسط الحديث عنه في هذا المقام وإنّما نوجز بالقول:
إنّ العلم الإلهي بالموجودات ينقسم إلى قسمين: علم ذاتي، وعلى الرغم من أنّ هذا القسم من العلم الإلهي متعلّق بالأشياء قبل وجودوها، ومنها العلم أحوال العباد وأفعالهم قبل صدورها بل قبل وجودهم إلا أنّه يبقى مجرّد علم سابق عليهم، لا سائق لهم. ويقابله العلم الفعلي، وهو علمه بالأشياء بعد أن توجد وتتحقق، ومن جملة الفروق المهمة بينهما أنّ الإنسان لا يعرف شيئًا عن الأول ولا سبيل له إليه، ولا يخضع للتغيير(البداء)، بخلاف الثاني، ومن هنا، فإنّ من تمام الحكمة الإلهية أنّه تعالى أراد إرادة تكوينة، ومشيئة حتمية وقضى قضاءً لازمًا أن يجري الأمور بأسبابها، وتؤخذ الأشياء بإيجاد عللها، وأن تكون له الحجة البالغة الكاملة على خلقه التي ترتفع بها الأعذار الحقيقية منها والمفترضة، و تنقطع دونها كل الحجج الممكنة.
وبناءً على مجموع تينك الأمرين، فإنّ واقع مصائر العباد ونيلهم الجزاء الذين يستحقونه من نعيم في الجنة أو عذاب في النار؛ مرهون بأسبابه الواقعية، ومتعلّق بعلله التكوينية، وموقوف على تحقق شروطه الموضوعية، وتلك الأسباب والعلل- فيما قضى الله وقدّر-هي أعمال العباد الصادرة عنهم باختيارهم، وأفعالهم التي صدرت عنهم بإرادتهم، بمعنى أن جزاء العباد في نظام التكوين معلول لعملهم لا لعلمه الأزلي وتقديره السابق. ولو فرض المحال وكان الأمر قد جرى منطوق السؤال، بأن كان نظام الجزاء مصمّمًا وفقًا للتقدير السابق دون الأعمال؛ لكانت الحجة الإلهية مدخولة بفتح باب العذر ولأمكن لأهل النار أن يحتجوا بأنهم سبحانه لم يعطهم فرصة الاختبار حقيقة، سيما أنّ الإنسان كائن خلّاق للتبريرات، بحّاث عن الأعذار، وقد قال قومٌ من قبل:" لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ". (الأنعام-157).
ويمكن أن نستعين بمثال يوضح الأمر، فالأستاذ الذي قضى بين مجموعة من طلابه مدة طويلة تجعله يعرف مستوياتهم بحيث يمكنه أن يشخّص أسماء المشتغلين المثابرين، وأسماء الكسالى المهملين، لكنه مع ذلك يقوم بإجراء اختبار امتحاني بقواعد واضحة وقوانين عادلة، يتحدّد بموجبه الناجح من الفاشل، وفي مثل هذه الحالة،نجد الأستاذ لم يكتف بمعرفته عن إجراء الامتحان، كما أنّ ما قام به الأستاذ منسجم مع الحكمة وخال من العبثية، فضلًا عن أنّه بهذا الإجراء أتم الحجة على الطلاب وقطع طريق الأعذار أمامهم.