| لماذا الدين؟ | هل الدين ضروري؟
هل الدين ضروري؟
قراءة في فطرية التدين
وضرورته ولازمته للكائن البشري
تتناوش الإنسان منذ ولاته حتى
مماته، كومة أسئلة، تصير منه كائنا باحثا، فلا ينفك عن البحث فيمن
أوجده؟ ولماذا؟ والى أين مصيره؟ وبحث من هذا القبيل، يجعل ضرورة
الإجابة عليه من لوازم استقرار هذا السائل، خصوصا وأن اسئلته هذه
أسئلة عميقة المداليل، تشكل بمجملها منعطفات حادة في حياته، وما
قبلها وبعدها! بل وتُشكل مفهوم الحياة بالنسبة له!
وقد يتفلسف هذا الكائن الباحث ـ
الإنسان ـ عمقا في مورد إجابته لأسئلته المفصلية تلك، لتتشكل لديه
رؤية عقائدية ترسم له ملامح "دينه"، بل وتجره الى ضرورة هذا البحث
وأهمية ما ينتج عنه.
من جهة أخرى، فأن التعرف على كنه
الموجِد والخالق لهذا الإنسان ومن خلفه كل الكون، هو الأخر هاجس
كبير، بل وأنه من أقدس ما يمكن ان يبحثه ذو عقل، لأن نتائج هذا
البحث ستقوده للتكامل والترقي إذا فهم ذلك، وللتسافل والحطة عن
ساء الفهم.
وبذلك فأن التعرف الى الله ـ ومن
قبل ذلك؛ الوسيلة الموصلة إليه وأقصد الدين ـ كطريق لنشدان هذا
الإنسان لوسائل تكامله ورفعته، ما يجعل من عملية البحث هذه، أقدس
أبحاث الإنسان وأعلى علومه شرفا.
وأيا كانت نتيجة هذه البحث،
ومديات الجهد المبذول فيه، فأن وسمه بالبحث عن الدين أليق ما يمكن
وسمه به، كيف لا وضرورة الدين ـ وإن سمي بمسميات أخرى كالرؤية
الكونية أو قراءة العوالم أو أسباب النشأة ومآلها ـ نقطة أتزان
هذا الكائن فيما بينه وبين نفسه، وبينه وبين صنوه الإنسان، وبينه
وبين بيئته ومحيطه من مخلوقات وموجودات وظروف.
والغريب في تلك الأسئلة، أنها
مورد تساءل الإنسان ـ كل إنسان ـ مهما علا شأنه أو اضمحل، ما يجعل
منها ومن خلالها الدين، أسئلة أنسانية لا انفكاك منها، ولا
حول.
ولهذه الأسئلة بدوافع عدة، تشكل
بمجملها؛ حيز قبول الإنسان لنفسه من عدمه، ومن هذه
الدوافع:
ـ دافع إدامة الحياة
وتقويمها وضمان استمرارها
قد يلجأ الإنسان للبحث عن الدين
ومن خلاله، اسئلته الكبرى، سعيا منه لمعرفة الطريق السوي الذي
يمكنه أن يمد بعمره ويمنحه خلود ما، ويجنبه منزلقات الحياة
وصعابها، وبالتالي فأن هذا الدافع، يشكل منطلقا للإنسان بالبحث عن
قوة تسند ضعفه وتقوي انكساره وتوصله لكمال تحثه الفطرة على بلوغه،
خصوصا وإن الأصل في هذا الإنسان هو بحثه عن الكمال والترقي كسنة
بشرية جُبل عليه، من خلال مجموعة هواجس ودوافع وميول داخلية تشده
للوصول الى أفضل حالة إنسانية ممكنة، ولن تشده أي دوافع أخرى
للتسافل! ـ وإذا تسافل في بعض الأحيان، وإنما ذلك ظنا منه بأنه
يتكامل في ذلك، كثقافة التعري والانحلال الأخلاقي الذي تعانيه بعض
المجتمعات اليوم اعتقادا منها بأنها تحضر ومدنية ـ مهما كان هذا
الإنسان، بل والغريب في ذلك، إن أي ظاهرة تحاول أن تتسافل بهذا
الكائن، فأنه ثمة قوة باطنية تدفعه لدرئها فضلا عن إخفاءها، وهو
دليل أخر على أن الإنسان مجبول بالفطرة نحو التكامل، ما يجعلنا
نجزن بأن نشدان التكامل والرغبة به، إنما هي عوامل فطرية لا محالة
من وجودها، وتشكل كوامن نفسية في داخل الإنسان مهما كان.
من جهة أخرى، فأن هذا الكمال
المنشود ومن خلاله حالة الترقي الإنساني، تشكل بمجملها هاجس ورغبة
يحتاجان الى فعل اختياري منه ككائن عاقل ومفكر، وقد ساقه عقله
وتفكيره ـ بالفطرة مرة والتجربة مرة أخرى ـ الى ضرورة توافر اجابة
عن اسئلته الملحاحة: من أنا؟ من أوجدني؟ الى اين سأكون؟ وسيجد
نفسه مضطر لتهدئة روعه هذا بإطاعة عقله المشتغل على إجابة تلك
الأسئلة، وهي إجابات ستوفر له لاحقا فلسفة عميقة بدءا من اثبات
ماهيته وواجباته ومن ثم عبوديته للخالق وتوحيده له ومن ثم معاده
إليه.
كما إن ضرورة الإجابة عن تلك
الأسئلة، هي الأخرى ستُفّعل لديه آلة خاصة بالإجابة عليها، تتمثل
في حالة إعمال العقل لديه، من خلال عملية بحث وتحري اختيارية
طويلة الأمد، قد تبدأ مع بدايته كفرد، وتنتهي مع نهايته ككائن،
والتحاقه بالقوة الموجدة له، مرورا بمنظومته الحياتية من سلوكيات
وتفكير وآليات تكيف وتعامل، ناهيك عن الموجودات التي تشاركه
الوجود، بما يُشّكل له أجابة كبرى ومنطقية لسؤال جوهري قوامه:
ماذا يراد بهذه الرؤية الكونية؟ لأن هدف هذا الإنسان ـ التكامل ـ
هدف حتمي ولابُّدي ـ وأن رحلته الاستفهامية تلك ستبقى مبهمة ما لم
تتوافر لها إجابات حقيقة، ولا تكون كذلك ما لم تصل الى تلك القوة
المُقنعة ـ الله سبحانه وتعالى ـ التي يمكنها أن تجيب على كل تلك
الأسئلة، بل وكل كل الأسئلة.
وبالتالي فأن رحلة بحثه تلك عن
الإجابات (ويمكن تسميتها حقيقة بالبحث عن الدين وأن كان البعض
يسميها البحث عن أيديولوجيا تربطه بالقوى الأخرى) ستقوده لقناعات
وجدانية تدعم انسانيته وتكيفه مع الحياة، بل وقبوله لسبب ايجاده
ورضاه بنتيجة خروجه من هذه الحياة، مع قناعة كبيرة بالوجهة التي
ستكون له بعدها.
ولأن اسئلته تلك أولية ـ وربما
بدائية ـ فستجره حتما لأسئلة أخرى، كتلك التي تجيبه عن وسائل
ارتباطه بخالقه وآلية تواصله معه، وهنا سيكون له رؤية فسلفية فيمن
يحمل له هذا البريد ممن خلقه؟ من خلال متلازمة النبوة ـ الإمامة،
وهي تشكل أسئلة عقدية ضرورية لكل إنسان، وإن كانت فرعية بالنسبة
لتلك الأسئلة التي تبحث فيمن خلقه وأوجده.
ـ دافع فطري لمعرفة كنه
الحياة
وقبل الدافع السابق، فأن ثمة دافع
أخر سيكون بحكم المحرك لدافع إدامة الحياة وتقويمها وضمان
استمرارها من قبل الإنسان، وهو الدافع الفطري في معرفة كنه
الحياة، بل وربما فطريا وبدون أسباب أصلا.
نعم... قد يكون ثمة دافع فطري
يدفع الإنسان للبحث عن دين، أي دين كان، لأن لإيمانه بهذا الدين
أثرا إيجابيا لا يمكن تفويته من قبله، والمتمثل بالسكينة
والاطمئنان لعدم عبثية هذه الحياة، وإنها بيد قادر مقتدر، عادل
حكيم.
وعدا ذلك، فأن الدوافع الفطرية قد
تتمثل في عدة آليات، منها:
ـ دافع تسخير الموجودات
لخدمته.
ولا يكون هذا التسخير الا بعد أن
يأمن الطبيعة، من خلال التكيف معها او لي ذراعها، فضلا عن
الاستفادة من المخلوقات الأخرى بالسخرة مرة وسد الجوع في ثانية،
وهو ما يقدمه له الدين من سماحية في هذا التوظيف، بخلافه يمكن أن
يشعر بأن كل متغير في حياته هو سبب من أسباب غضب الطبيعة وما
تحتويه.
ـ دافع
الفضول.
وهو دافع حقيقي ولازمة أنسانية،
تتسم بها كل نفس بشرية، خصوصا وأن العقل البشري مخلوق بشكل تفاعلي
استفهامي، فبدء مما ورائيات هذه الحياة وما يمكن ان يثيره هذا
الارتباك الميتافيزيقي، وانتهاء باكتشاف عوالم لا تشعر بها الحواس
العادية، تُشّكل كلها مطمحا عقليا لهذا الإنسان، وبالتالي تسد
عليه جوعه الفضولي.
ـ الدافع الديني المجرد
كفطرة إنسانية.
ثمة دافع فطري في الإنسان، قد
أُجبل عليه، وهو ضرورة الدين في حياته، وضرورة أن يستقوي بمن يشكل
له عنصر القوة، ومصدر هذا الدافع هو عطش فطري للدين، عطش فطري
وحسب، خصوصا وإن الإنسان البدائي حاول ان يتشبث بقوة ما، ويدين
لها بالولاء، وقد ترقت عنده الفكرة ـ وحديثنا عمن له صلة الديانات
السماوية لسبب أو لأخر ـ توصله الى الله جل
وتعالى.
وقد اثبتت الدراسات الأركيولوجية
فضلا عن علم الأناسة، بأن كل إنسان متدين بالفطرة، وما إلحاده
بالدين وكفره به ورفضه له، إلا حالة شاذة تسببها ظروف غير سوية،
كأيديولوجيات وضعية تحيده عن الحالة الطبيعية (التدين)، مع العرض
بأن هذه الأسباب قد تكون قوية وظاهرة لدى فرد ما، في حين تكون
خفية وسطحية عند أخر، حسبما تمليه عليه البيئة من إعمال لعقله او
إهمال من جهة، وتطبيع للطبيعة البشرية او تشويه لها، من جهة
أخرى.