2 شوال 1446 هـ   31 آذار 2025 مـ 2:09 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | أحكام مجتمعية |  هل الحكم بنجاسة الكافر دعوة للعنصرية؟
2024-12-22   744

هل الحكم بنجاسة الكافر دعوة للعنصرية؟

هل الحكم بنجاسة الكافر دعوة للعنصرية؟
الشيخ معتصم السيد احمد
تُوجه إلى الإسلام بين الحين والآخر اتهامات بالعنصرية بسبب وجود بعض الأحكام التي تميز بين المسلمين وغير المسلمين. ولا شك أن العنصرية تُعد وصفاً مذموماً وسلوكاً مرفوضاً، إذ تقوم على التمييز أو التفرقة في المعاملة بناءً على سمات مثل العرق، اللون، اللغة، أو الدين، ما يؤدي إلى تفضيل فئة على أخرى أو إقصاء بعضها. وعلى الرغم من أن الإسلام عمل منذ ظهوره على تفكيك هذه الظاهرة ومواجهة جذورها بأساليب متعددة، إلا أن هناك أصواتاً ناقدة ما زالت تُوجه للإسلام في هذا السياق، مما يستدعي الوقوف على أبعاد هذه الاتهامات وتحليلها بموضوعية.
مما لا شك فيه أن الخطاب القرآني موجه إلى الإنسان بما هو إنسان، أي دون النظر إلى أي تمييز بسبب العرق أو اللون أو الجنس، ويتجلى ذلك بوضوح من خلال تكرار النداءات التي توجه إلى جميع البشر مثل "يا بني آدم" و"يا أيها الناس"، الأمر الذي يعكس شمولية الدعوة القرآنية، فأول سوره هي سورة الفاتحة التي أكدت على أن الله "رب العالمين"، وأخر سورة هي سورة الناس التي أكدت على أنه "إله الناس"، فالله هو خالق كل البشر بلا استثناء، وبذلك يكون القرآن بكل آيات يذكّر الناس بأصلهم المشترك، ويُعزز فيهم الوعي بأنهم جميعاً من نفس واحدة، كما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً)، وفي آية أخرى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ). هذا التأكيد على الأصل الواحد ينفي أي مبرر للتمييز العنصري، ويُرسخ مبدأ المساواة بين جميع البشر أمام الله. كما يحث القرآن الكريم على نبذ التفاخر والتحقير بين الناس، حيث يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). بهذا، يُرسخ القرآن فكرة التساوي والاحترام المتبادل بين جميع الناس، ويؤكد على أن التفاضل الحقيقي هو في التقوى والعمل الصالح فقط.
فالعنصرية تتعارض مع غاية الإسلام الأساسية، وهي دعوة الجميع إلى عبادة الله الواحد، مما يعني أن جميع البشر متساوون أمامه. وقد ربط القرآن بين هذا الأصل المشترك وواجب العبادة في قوله: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا). هذا الربط يجعل من المستحيل تصور تفاضل إنساني مبني على الوراثة أو العرق.
في المقابل، فتح الإسلام الباب أمام تمايز من نوع آخر، لا يقوم على أساس العرق أو اللون، بل على ما يبذله الإنسان من جهد نفسي وأخلاقي وروحي وعملي. هذا التمايز يستند إلى قيم الفضيلة والكمال، مثل التميز بالعلم على الجهل أو بالتقوى على العصيان. يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). بهذا المنطق، لا يُعدُّ امتداح المؤمن وذم الكافر نوعاً من العنصرية، بل تقديراً لمن اختار طريق الخير والكمال والحق والهدى.
بالنسبة للأحكام الشرعية التي تميز المسلم، فهي ترتبط بخيارات أخلاقية وتشريعية لا علاقة لها بالعنصرية. فمن الطبيعي أن يختص المسلم ببعض الخصوصيات طالما أن له مساراً مميزاً في الحياة يختلف عن غيره. هذه الأحكام لا تؤثر في الحقوق والواجبات المشتركة بين البشر. على سبيل المثال، الحكم بنجاسة الكافر ليس عنصرياً؛ لأنه لا يمنح المسلم ميزة اجتماعية أو حق الأولوية في العلاقات العامة. بل يتعلق هذا الحكم بالطهارة الشخصية، حيث يطلب من المسلم غسل الموضع الذي يلامس كافراً عند وجود الرطوبة. هذا التشريع ليس فيه تعدٍ على حقوق الآخر أو إهانة له.
من هنا، يمكن التفريق بين الأحكام الشرعية والعنصرية. العنصرية تفترض وجود فوارق موروثة بين الأعراق والطوائف تبرر معاملة مختلفة قانونياً واجتماعياً. أما الأحكام الإسلامية، فهي تكاليف فردية لا تمس الحقوق العامة ولا تهدف إلى رفع جماعة على أخرى. الإسلام يحارب العنصرية بشتى الوسائل، ويؤكد أن أي تمايز لا يستند إلى قيم الكمال والتقوى هو تمايز باطل.
كما أن الإسلام يدعو إلى التعايش السلمي بين البشر، ويؤكد على أهمية العدالة في المعاملة، بغض النظر عن الدين أو العرق. يقول الله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ). هذه الآية تؤكد أن الاختلاف في الدين لا يبرر ظلم الآخر أو معاملته بجفاء.
إذن، الإسلام ينفي العنصرية في جوهره وفي تشريعاته. هو دين يؤسس لعلاقات إنسانية قائمة على العدالة والمساواة، مع فتح المجال للتنافس الأخلاقي والروحي، وهو تنافس يدعو الجميع للمشاركة فيه دون تمييز، والأحكام الشرعية التي تخص المسلم تهدف إلى تحقيق نقاء داخلي وروحي، ولا تستهدف النيل من الآخر أو تفضيل فئة على أخرى. وبالتالي، فإن أي اتهام للإسلام بالعنصرية يتجاهل الفهم الصحيح لأحكامه ومقاصده.
في الختام، الإسلام يقدم نموذجاً متوازناً لعلاقات البشر، يُعلي من القيم الإنسانية المشتركة ويُكرم العمل والجهد الفردي. هو دين يرفض العنصرية بكل أشكالها، ويُعلم أتباعه أن التفاضل الحقيقي ليس بالعرق أو اللون، بل بالتقوى والعمل الصالح، والأحكام الإسلامية التي قد تُفهم خطأً على أنها عنصرية تحتاج إلى تأمل عميق في مقاصدها وسياقها. وعندما نفهم الإسلام بفهمه الشامل، ندرك أنه دعوة لتحقيق كرامة الإنسان ومساواته، مع احترام خياراته الفردية وتشريعاته الخاصة.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م